يحصي فهاد الشمري الدقائق قبل الساعات، مترقباً موعد تنفيذ حكم القصاص الصادر في حقه قبل خمسة أعوام، لإدانته بقتل أحد أصدقائه، إثر خلاف وقع بينهما في منزل الأخير، ومع أن حكم الإعدام تم إيقافه بعد أن رضي أولياء الدم بالحصول على الدية، إلا أن فهاد لا يعول كثيراً على ذلك، إذ يصعب على عائلته الفقيرة جمع 25 مليون ريال (6.67 ملايين دولار)، التي طلبها ذوو صديقه.
ويعترف محمد الشمري وهو قريب لفهاد، أنهم صدموا من المبلغ الضخم الذي طلبه والد القتيل، قائلاً لـ"العربي الجديد": "ما حدث هو أن أطرافاً تدخلت في الصلح، وكنا نعتقد أنهم يبحثون عن الأجر من الله، لكن في الأخير عرفنا أنهم سعوا للحصول على مبلغ ضخم جداً، مقابل نسبة لهم، زعماً منهم أن القبيلة ستتدخل لإنقاذ رأس فهاد من السيف".
ما وقع لفهاد من محاولة للتربح من وراء جرائم القتل، تكرر مع موسى الثبيتي، الذي بات مطالباً بدفع 20 مليون ريال (5.33 ملايين دولار) لأسرة جارهم بعد أن قتل أحد أبنائهم في مشاجرة عائلية، ومع أن عائلة فهاد تسكن في أطراف حائل في شمال السعودية، في حين تتواجد عائلة الثبيتي في الطائف غرباً، إلا أن الوسيط ذاته، هو من وقف وراء الصلح باهظ الثمن، في نهج يقود في كل مرة إلى مزيد من ارتفاع الديات لأرقام فلكية، بعضها وصل إلى 50 مليون ريال، كما حدث مع مشعل المطيري، الذي جمعت قبيلته في يناير/كانون الثاني الماضي، مبلغ 50 مليون ريال (13.33 مليون دولار) لإنقاذ رقبته بعد حكم بالقصاص لقتله مواطناً منذ عامين بسبب شجار وقع بينهما في حفر الباطن، حتى بات الأمر "سمسرة علنية، وبلا خجل" كما يصفه المستشار القانوني ماجد الإبراهيم.
اقــرأ أيضاً
استغلال المحن
دفع تزايد قيمة الديات علماء ورجال دين سعوديين إلى المطالبة بوضع حد لذلك، خاصة وأن الأمر "تحول لتجارة عند بعض الدعاة والشخصيات المعروفة بالاسم"، كما يقول الإبراهيم، الذي يشدد على أن مبالغ الديات تجاوز "بفعل فاعل حدود المعقول، إذ استغل سماسرة ووسطاء سماح القانون السعودي المستمد من الشريعة الإسلامية، لتنازل أهل القتيل عن تنفيذ القصاص مقابل الحصول على الدية".
ويضيف: "من هنا نشأت تجارة السمسرة بالدماء وللأسف من يقوم عليها هم أشخاص معروفون، كونوا ثروات ضخمة من وراء ذلك، بحيث يتم إقناع ذوي الدم بالتنازل عن القصاص والقبول بالدية بعد أن يبدأ السمسار باستخدام النصوص الدينية والأعراف القبلية للضغط على أهل الدم حتى يقبلوا العوض المالي من حيث المبدأ، وهنا تبدأ المرحلة الثانية من عمليات السمسرة وهي تحديد مبلغ الدية والذي يصب جزء منه في جيوب الوسطاء والذين تكون مهمتهم في المرحلة الثالثة هي إقناع الأثرياء بدفع الدية لإنقاذ القاتل من القصاص"، ويستلم المحامي أحمد الراشد دفة الحديث، مؤكداً أن هؤلاء السماسرة يشغلون عدداً من ناشطي التواصل الاجتماعي للترويج لهم، ويأتي موقع التدوين المصغر "تويتر" في صدارة وسائل الترويج، كونه يحظى بشعبية كبيرة في السعودية بأكثر من 9 ملايين مستخدم نشط حسب إحصائيات صادرة من هيئة الاتصالات السعودية في إبريل 2016.
ورصد معد التحقيق ثلاث حملات نشطة تبدأ كلها بجملة "عتق رقبة"، تسعى إلى حث السعوديين على التبرع، وهو ما يراه المحامي الراشد "استخداماً لوسائل التواصل الاجتماعي بطريقة لا تخضع لضوابط جمع التبرعات"، ويضيف: "جمع الملايين خاصة بين أبناء القبائل، جعل الشباب يتساهلون القتل، ولهذا نجد كثيراً منهم يتجول ومعه سلاح ناري جاهز للاستخدام".
ويطالب الراشد كما الإبراهيم بتدخل من رجال الدين للحد من تلك التجارة التي يصفنها "بالاستغلالية البشعة"، وبحسب الراشد، يتم الأمر بشكل قانوني، إذ إن الوسيط يشترط أتعاباً عن وكالته، ولكن بدلاً من أن يكون دوره هو الحصول على عفو لموكله، يتحول دوره الجديد لتحديد مبلغ الدية بالتواصل مع أسرة المقتول، في مقابل حصة يحصل عليها من ذوي القتيل، بعد جمع المبلغ، ويضيف: "يركز هؤلاء على شهر رمضان المبارك الذي تزيد رغبة الناس في بذل الصدقة وعتق الرقاب التي تعتبر من أبواب إخراج الزكاة، ما جعل الديات المرتفعة تتحول إلى عرف بين الناس، وتقييم لقيمة المقتول عند أهله".
وقف تنفيذ 18 حكماً بالقصاص
في عرعر (أقصى شمال السعودية) ضجت السعودية بثلاث قضايا وصلت فيها مطالبات أسر المقتولين بالدية إلى أرقام فلكية، إذ أعلنت حملة تم إطلاقها لعتق رقبة عبدالرحمن حمود العنزي، نجاحها في جمع مبلغ 35 مليون ريال (9.33 ملايين دولار) قيمة مبلغ الدية من أجل وقف القصاص، كما أعلنت حملة مماثلة عن جمع دية رائد الحمدي بعد اكتمال مبلغ الـ 20 مليون ريال المطلوبة، ولا تزال حملة تم تدشينها لعتق رقبة فهد حسين الجعفري الشمري تحاول أن تجمع مبلغ 20 مليون ريال محددة من أجل وقف حكم إعدامه، ويأمل القائمون على حملة أخرى تم تدشينها لعتق رقبة سعود الجبيري في جمع عشرين مليوناً أخرى.
وبحسب إحصائية صدرت عن وزارة العدل في مارس/آذار الماضي، تم وقف تنفيذ 18 حكماً بالقصاص مقابل ديات تجاوزت العشرة ملايين ريال في عام 2015 فقط، الأمر الذي يؤكد رواج تلك التجارة، كما يقول أستاذ علم الاجتماع، فهد البقمي، والذي كان شاهداً على واحدة من عمليات السمسرة.
ويروي البقمي لـ"العربي الجديد" أنه حاول إقناع أولياء دم أحد القتلى بعدم طلب مبلغ كبير، لكنه فوجئ أنهم يقولون له: "إن كل ما سيحصلون عليه هو نصف المبلغ فقط، والباقي سيذهب لوسيط، هو من سيقوم بجمعه من الأثرياء".
بيد أن الظاهرة ليست وليدة، إذ بدأت في الانتشار، منذ أكثر من ثلاث سنوات، بعد أن كشف الشيخ هلال بن عويض الحارثي، في يونيو/حزيران من عام 2013 أن هناك من يتاجرون بدماء المقتولين عبر قيامهم بالتوسط عند أولياء الدم لضمان التنازل والعفو لوجه الله سبحانه، بينما الحقيقة تخالف ذلك، موضحاً أنهم يستخدمون أسلوب الشفاعة والإصلاح، لعتق الرقاب، بينما كل ما يسعون إليه هو الكسب المالي، وعقد صفقات واتفاقات تجارية مشبوهة، متهماً محامياً معروفاً في جدة أنه حصل على أموال مقابل التنازل عن قاتل ابنه، مع أنه تنازل دون مقابل، مبيناً في بيان نشرته وسائل إعلام محلية أن المحامي حصل على نصف المبلغ الذي طالب به بقية الورثة، مستخدماً أسلوب كتابة الشيكات باسمه لضمان ماله.
اقــرأ أيضاً
المحظورات الشرعية
بعد تكرار الظاهرة في أكثر من منطقة بالسعودية، منعت الجهات الرسمية شخصية بارزة، (تتحفظ العربي الجديد على ذكر اسمه)، من التوسط في جمع الديات بعد أن ذاع صيته، ويقول الإعلامي والداعية، سعد السهيمي، إن "الأمر اقترب من الدخول في المحظورات الشرعية، لوقوع ضرر كبير على أسرة المعتدي"، مشدداً على أن المبالغة في الديات لم تكن معروفة قبل قيام شخصيات بعينها بالمتاجرة فيها.
وتابع في إفادته لـ"العربي الجديد": "هناك أسماء معروفه تقف وراء كل دية تتجاوز حد المعقول، الأمر بات متاجرة بالدماء من بعض الوجهاء القبليين وسماسرة يستفيدون من هذا الوضع غير الطبيعي، ما أدى إلى حالة تخلٍ عن الأجر والثواب الذي هو أساس العفو، إذ نجد أن بعض ذوي الدم صار يحرص على المال قبل كل شيء".
ويشدد الشيخ السهيمي على ضرورة تدخل الدولة بشكل ما من أجل وضع حد لهذه المتاجرة، ويضيف: "صحيح أن ليس من حق الدولة أن تتدخل بشكل رسمي، لأنها هذه مسائل تدخل شرعاً في باب الحريات المطلقه، إذ تركها دون تقييد، ولا يستطيع أحد أن يمنع أهل القتيل من طلب أي مبلغ يريدون، خاصة وأن هناك من سيتولى عملية جمع المبلغ من أفراد قبيلة القاتل ومن فاعلي الخير، الذين لا يعلمون أن نصف ما يدفعونه وربما أكثر سيذهب لجيب الوسيط".
وتابع موضحاً "الحق بالتعويض موجود في الشريعة الإسلامية، وبالتالي لا تستطيع أن تمنع إنساناً من أن يتنازل عن حقه مقابل أي مبلغ يريد، ولكن يجب أن تتدخل الدولة عن طريق رجال الدين والعلماء الشرعيين المؤثرين على الرأي العام"، وأردف "من جهة أخرى يمكن للدولة أن تبقي حقها العام في سجن القاتل حتى ولو تنازل أهل الدم، إذ إن الشخص الثري عندما يقتل إنساناً ويعوض المقتول، ليس من المنطق أن يخرج سريعاً من السجن، لأنه يظل مجرماً ارتكب جريمة".
ويتفق أستاذ الشريعة في جامعة الإمام، محمد بن سعود الدكتور عبدالله التركي، على أهمية دراسة الجهات الشرعية للقضية من أجل وضع تصور شرعي لها ووضع حد للمتاجرة التي طغت على السطح، خوفاً من أن يكون في هذه المبالغات المالية مخالفات شرعية.
وتابع: "فقهياً تعتبر المبالغ المطلوبة في حال القتل الخطأ، تعويضاً وليس دية إذ إن أهل القاتل والقتيل يصطلحون على هذا المبلغ لإسقاط حق القتل، ولكن الدية الحقيقة للقتل الخطأ قدرت بـ 300 ألف ريال (80 ألف دولار)". ويتابع: "ترهق هذه المبالغات الناس، ولهذا يجب من علماء الدين ان ينظروا لهذه المسألة من الناحية الشرعية، وهل تصل لدرجة المخالفة أم لا؟، الأمر يحتاج لبحث وتأمل أكبر، خاصة وأن الأمر وصل درجة أن المتاجرين بالديات اخترقوا بعض لجان الإصلاح من أجل العمل على جمع الأموال بطرقهم الخاصة، للتكسب من وراء ذلك".
تدخل رسمي
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالب الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود آل سعود، أمير منطقة القصيم بتقنين تحديد الديات، وعدم تركه لأمزجة السماسرة، وقال في جلسته الأسبوعية التي تعقد كل إثنين في مقر الإمارة: "المبالغة في الديات أصبحت تجارة يعقد من خلالها الصفقات والمزايدات في مبلغ الدية، حتى يعفو ويتنازل ذوو القتيل عن حقهم من الدم في القصاص"، وأضاف: "طُلب من ذوي قاتل مبلغاً يصل إلى 70 مليوناً، مع أن العفو في مثل هذه المواقف، لا يمكن أن يكون من العفو الذي أمر الله به".
وتعهد أمير منطقة القصيم، بدراسة الظاهرة وجعل العفو عن طريق لجنة إصلاح ذات البين بالمنطقة، فيما اقترح رئيس المحكمة العامة ببريدة الشيخ إبراهيم الحسني، وضع سقف مُعين ومبلغ محدد للدية من وزارة الداخلية، يتم تعميمه عن طريق إمارات المناطق، ويعاقب من يزود عن ذلك.
وبسبب بريق المال، لم تنجح الفتاوى في مواجهة الظاهرة، إذ أفتت اللجنة الدائمة للفتوى التابعة لهيئة كبار العلماء بتحريم إنشاء صناديق خيرية بين القبائل التي تترتب عليها التزامات مالية للأفراد، لكون ذلك يتنافى مع بذل المال بطيب نفس، كما أكد مفتي عام السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ بعدم جواز وصول الديات لمبالغ فلكية، مؤكداً في خطبة رسمية ألقاها في جامع الإمام تركي بن عبدالله في الرياض في أغسطس الماضي أن: "المبالغة في الديات أمر مرفوض شرعاً وعقلاً، وخرجت عن المعقول إذ يرهقون ويهينون ذوي القاتل بسؤال الناس"، بيد أن أحداً لم ينتبه لكلامه، وما زالت الأرقام ترتفع، طالما ليس لها سقف محدد، إذ أصبحت جرائم القتل وسيلة لإثراء سماسرة الدم في السعودية.
ويعترف محمد الشمري وهو قريب لفهاد، أنهم صدموا من المبلغ الضخم الذي طلبه والد القتيل، قائلاً لـ"العربي الجديد": "ما حدث هو أن أطرافاً تدخلت في الصلح، وكنا نعتقد أنهم يبحثون عن الأجر من الله، لكن في الأخير عرفنا أنهم سعوا للحصول على مبلغ ضخم جداً، مقابل نسبة لهم، زعماً منهم أن القبيلة ستتدخل لإنقاذ رأس فهاد من السيف".
ما وقع لفهاد من محاولة للتربح من وراء جرائم القتل، تكرر مع موسى الثبيتي، الذي بات مطالباً بدفع 20 مليون ريال (5.33 ملايين دولار) لأسرة جارهم بعد أن قتل أحد أبنائهم في مشاجرة عائلية، ومع أن عائلة فهاد تسكن في أطراف حائل في شمال السعودية، في حين تتواجد عائلة الثبيتي في الطائف غرباً، إلا أن الوسيط ذاته، هو من وقف وراء الصلح باهظ الثمن، في نهج يقود في كل مرة إلى مزيد من ارتفاع الديات لأرقام فلكية، بعضها وصل إلى 50 مليون ريال، كما حدث مع مشعل المطيري، الذي جمعت قبيلته في يناير/كانون الثاني الماضي، مبلغ 50 مليون ريال (13.33 مليون دولار) لإنقاذ رقبته بعد حكم بالقصاص لقتله مواطناً منذ عامين بسبب شجار وقع بينهما في حفر الباطن، حتى بات الأمر "سمسرة علنية، وبلا خجل" كما يصفه المستشار القانوني ماجد الإبراهيم.
استغلال المحن
دفع تزايد قيمة الديات علماء ورجال دين سعوديين إلى المطالبة بوضع حد لذلك، خاصة وأن الأمر "تحول لتجارة عند بعض الدعاة والشخصيات المعروفة بالاسم"، كما يقول الإبراهيم، الذي يشدد على أن مبالغ الديات تجاوز "بفعل فاعل حدود المعقول، إذ استغل سماسرة ووسطاء سماح القانون السعودي المستمد من الشريعة الإسلامية، لتنازل أهل القتيل عن تنفيذ القصاص مقابل الحصول على الدية".
ويضيف: "من هنا نشأت تجارة السمسرة بالدماء وللأسف من يقوم عليها هم أشخاص معروفون، كونوا ثروات ضخمة من وراء ذلك، بحيث يتم إقناع ذوي الدم بالتنازل عن القصاص والقبول بالدية بعد أن يبدأ السمسار باستخدام النصوص الدينية والأعراف القبلية للضغط على أهل الدم حتى يقبلوا العوض المالي من حيث المبدأ، وهنا تبدأ المرحلة الثانية من عمليات السمسرة وهي تحديد مبلغ الدية والذي يصب جزء منه في جيوب الوسطاء والذين تكون مهمتهم في المرحلة الثالثة هي إقناع الأثرياء بدفع الدية لإنقاذ القاتل من القصاص"، ويستلم المحامي أحمد الراشد دفة الحديث، مؤكداً أن هؤلاء السماسرة يشغلون عدداً من ناشطي التواصل الاجتماعي للترويج لهم، ويأتي موقع التدوين المصغر "تويتر" في صدارة وسائل الترويج، كونه يحظى بشعبية كبيرة في السعودية بأكثر من 9 ملايين مستخدم نشط حسب إحصائيات صادرة من هيئة الاتصالات السعودية في إبريل 2016.
ويطالب الراشد كما الإبراهيم بتدخل من رجال الدين للحد من تلك التجارة التي يصفنها "بالاستغلالية البشعة"، وبحسب الراشد، يتم الأمر بشكل قانوني، إذ إن الوسيط يشترط أتعاباً عن وكالته، ولكن بدلاً من أن يكون دوره هو الحصول على عفو لموكله، يتحول دوره الجديد لتحديد مبلغ الدية بالتواصل مع أسرة المقتول، في مقابل حصة يحصل عليها من ذوي القتيل، بعد جمع المبلغ، ويضيف: "يركز هؤلاء على شهر رمضان المبارك الذي تزيد رغبة الناس في بذل الصدقة وعتق الرقاب التي تعتبر من أبواب إخراج الزكاة، ما جعل الديات المرتفعة تتحول إلى عرف بين الناس، وتقييم لقيمة المقتول عند أهله".
وقف تنفيذ 18 حكماً بالقصاص
في عرعر (أقصى شمال السعودية) ضجت السعودية بثلاث قضايا وصلت فيها مطالبات أسر المقتولين بالدية إلى أرقام فلكية، إذ أعلنت حملة تم إطلاقها لعتق رقبة عبدالرحمن حمود العنزي، نجاحها في جمع مبلغ 35 مليون ريال (9.33 ملايين دولار) قيمة مبلغ الدية من أجل وقف القصاص، كما أعلنت حملة مماثلة عن جمع دية رائد الحمدي بعد اكتمال مبلغ الـ 20 مليون ريال المطلوبة، ولا تزال حملة تم تدشينها لعتق رقبة فهد حسين الجعفري الشمري تحاول أن تجمع مبلغ 20 مليون ريال محددة من أجل وقف حكم إعدامه، ويأمل القائمون على حملة أخرى تم تدشينها لعتق رقبة سعود الجبيري في جمع عشرين مليوناً أخرى.
وبحسب إحصائية صدرت عن وزارة العدل في مارس/آذار الماضي، تم وقف تنفيذ 18 حكماً بالقصاص مقابل ديات تجاوزت العشرة ملايين ريال في عام 2015 فقط، الأمر الذي يؤكد رواج تلك التجارة، كما يقول أستاذ علم الاجتماع، فهد البقمي، والذي كان شاهداً على واحدة من عمليات السمسرة.
ويروي البقمي لـ"العربي الجديد" أنه حاول إقناع أولياء دم أحد القتلى بعدم طلب مبلغ كبير، لكنه فوجئ أنهم يقولون له: "إن كل ما سيحصلون عليه هو نصف المبلغ فقط، والباقي سيذهب لوسيط، هو من سيقوم بجمعه من الأثرياء".
بيد أن الظاهرة ليست وليدة، إذ بدأت في الانتشار، منذ أكثر من ثلاث سنوات، بعد أن كشف الشيخ هلال بن عويض الحارثي، في يونيو/حزيران من عام 2013 أن هناك من يتاجرون بدماء المقتولين عبر قيامهم بالتوسط عند أولياء الدم لضمان التنازل والعفو لوجه الله سبحانه، بينما الحقيقة تخالف ذلك، موضحاً أنهم يستخدمون أسلوب الشفاعة والإصلاح، لعتق الرقاب، بينما كل ما يسعون إليه هو الكسب المالي، وعقد صفقات واتفاقات تجارية مشبوهة، متهماً محامياً معروفاً في جدة أنه حصل على أموال مقابل التنازل عن قاتل ابنه، مع أنه تنازل دون مقابل، مبيناً في بيان نشرته وسائل إعلام محلية أن المحامي حصل على نصف المبلغ الذي طالب به بقية الورثة، مستخدماً أسلوب كتابة الشيكات باسمه لضمان ماله.
المحظورات الشرعية
بعد تكرار الظاهرة في أكثر من منطقة بالسعودية، منعت الجهات الرسمية شخصية بارزة، (تتحفظ العربي الجديد على ذكر اسمه)، من التوسط في جمع الديات بعد أن ذاع صيته، ويقول الإعلامي والداعية، سعد السهيمي، إن "الأمر اقترب من الدخول في المحظورات الشرعية، لوقوع ضرر كبير على أسرة المعتدي"، مشدداً على أن المبالغة في الديات لم تكن معروفة قبل قيام شخصيات بعينها بالمتاجرة فيها.
وتابع في إفادته لـ"العربي الجديد": "هناك أسماء معروفه تقف وراء كل دية تتجاوز حد المعقول، الأمر بات متاجرة بالدماء من بعض الوجهاء القبليين وسماسرة يستفيدون من هذا الوضع غير الطبيعي، ما أدى إلى حالة تخلٍ عن الأجر والثواب الذي هو أساس العفو، إذ نجد أن بعض ذوي الدم صار يحرص على المال قبل كل شيء".
وتابع موضحاً "الحق بالتعويض موجود في الشريعة الإسلامية، وبالتالي لا تستطيع أن تمنع إنساناً من أن يتنازل عن حقه مقابل أي مبلغ يريد، ولكن يجب أن تتدخل الدولة عن طريق رجال الدين والعلماء الشرعيين المؤثرين على الرأي العام"، وأردف "من جهة أخرى يمكن للدولة أن تبقي حقها العام في سجن القاتل حتى ولو تنازل أهل الدم، إذ إن الشخص الثري عندما يقتل إنساناً ويعوض المقتول، ليس من المنطق أن يخرج سريعاً من السجن، لأنه يظل مجرماً ارتكب جريمة".
ويتفق أستاذ الشريعة في جامعة الإمام، محمد بن سعود الدكتور عبدالله التركي، على أهمية دراسة الجهات الشرعية للقضية من أجل وضع تصور شرعي لها ووضع حد للمتاجرة التي طغت على السطح، خوفاً من أن يكون في هذه المبالغات المالية مخالفات شرعية.
وتابع: "فقهياً تعتبر المبالغ المطلوبة في حال القتل الخطأ، تعويضاً وليس دية إذ إن أهل القاتل والقتيل يصطلحون على هذا المبلغ لإسقاط حق القتل، ولكن الدية الحقيقة للقتل الخطأ قدرت بـ 300 ألف ريال (80 ألف دولار)". ويتابع: "ترهق هذه المبالغات الناس، ولهذا يجب من علماء الدين ان ينظروا لهذه المسألة من الناحية الشرعية، وهل تصل لدرجة المخالفة أم لا؟، الأمر يحتاج لبحث وتأمل أكبر، خاصة وأن الأمر وصل درجة أن المتاجرين بالديات اخترقوا بعض لجان الإصلاح من أجل العمل على جمع الأموال بطرقهم الخاصة، للتكسب من وراء ذلك".
تدخل رسمي
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالب الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود آل سعود، أمير منطقة القصيم بتقنين تحديد الديات، وعدم تركه لأمزجة السماسرة، وقال في جلسته الأسبوعية التي تعقد كل إثنين في مقر الإمارة: "المبالغة في الديات أصبحت تجارة يعقد من خلالها الصفقات والمزايدات في مبلغ الدية، حتى يعفو ويتنازل ذوو القتيل عن حقهم من الدم في القصاص"، وأضاف: "طُلب من ذوي قاتل مبلغاً يصل إلى 70 مليوناً، مع أن العفو في مثل هذه المواقف، لا يمكن أن يكون من العفو الذي أمر الله به".
وتعهد أمير منطقة القصيم، بدراسة الظاهرة وجعل العفو عن طريق لجنة إصلاح ذات البين بالمنطقة، فيما اقترح رئيس المحكمة العامة ببريدة الشيخ إبراهيم الحسني، وضع سقف مُعين ومبلغ محدد للدية من وزارة الداخلية، يتم تعميمه عن طريق إمارات المناطق، ويعاقب من يزود عن ذلك.
وبسبب بريق المال، لم تنجح الفتاوى في مواجهة الظاهرة، إذ أفتت اللجنة الدائمة للفتوى التابعة لهيئة كبار العلماء بتحريم إنشاء صناديق خيرية بين القبائل التي تترتب عليها التزامات مالية للأفراد، لكون ذلك يتنافى مع بذل المال بطيب نفس، كما أكد مفتي عام السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ بعدم جواز وصول الديات لمبالغ فلكية، مؤكداً في خطبة رسمية ألقاها في جامع الإمام تركي بن عبدالله في الرياض في أغسطس الماضي أن: "المبالغة في الديات أمر مرفوض شرعاً وعقلاً، وخرجت عن المعقول إذ يرهقون ويهينون ذوي القاتل بسؤال الناس"، بيد أن أحداً لم ينتبه لكلامه، وما زالت الأرقام ترتفع، طالما ليس لها سقف محدد، إذ أصبحت جرائم القتل وسيلة لإثراء سماسرة الدم في السعودية.