سمات النموذج الإماراتي
يزداد النموذج الجديد الذي تتبنّاه الإمارات في سياساتها الداخلية والخارجية وضوحا، ويزداد فهم دارسي سماته الرئيسية وعيوبه، فخلال شهر يوليو/ تموز الجاري، صدرت دراستان عن السياسة الخارجية الإماراتية عن مركزي أبحاث أوروبيين مرموقين، البريطاني تشاتم هاوس، ومعهد الشؤون الدولية والأمنية، وهو من أبرز مراكز الأبحاث الألمانية.
رسالة الدراستين واحدة، أن سياسة الإمارات تغيرت منذ الربيع العربي تحديدا، ولم تعد السياسة التقليدية التي عرفت بها الإمارات خلال حكم الشيخ زايد بن سلطان، والذي كان يسعى إلى التوافق وبناء أطر العمل العربي والخليجي المشترك. ولكن سياسة الإمارات الراهنة، والتي يقودها الحاكم الفعلي للبلاد، ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، باتت مختلفة إلى حد كبير، وباتت ذات تأثير واسع في المنطقة العربية، وهو ما يتطلب التركيز عليها، لفهمها، ولترشيد تعامل المسؤولين الغربيين معها، فلم تعد التصورات القديمة صالحة.
الحكومات الغربية في حاجة لفهم النموذج السياسي الجديد للإمارات، وهو يقترب أكثر من روسيا والصين
توضح دراسة "تشاتم هاوس"، وأنجزها كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، بيتر ساليزبري، تقول إن الإمارات باتت تتبني نموذجا للحكم والسياسة الخارجية يبتعد أكثر فأكثر عن الذي ينادي به الغرب. تريد الإمارات تحت قيادة محمد بن زايد أن تبني إمبراطورية اقتصادية، تمتلك موانئ عبر الخليج وبحر العرب والقرن الأفريقي وربما أكثر، وأن تمتلك القوى العسكرية والاقتصادية والناعمة لتدافع عن مصالحها الاقتصادية وتوسعها، ولكنها، في الوقت نفسه، تعتمد على نموذج حكم فردي أمني، يقمع مختلف أنواع المعارضة، وينشر أفكاره وأسلوب حكمه في المنطقة.
وتأتي دراسة معهد الشؤون الدولية الألماني، وهي للباحث في المعهد جيدو ستينبرج، على تقارير تفيد بأن محمد بن زايد هو الذي أقنع القيادة السعودية في 2015 بخوض حرب اليمن. وتشير الدراستان إلى النفوذ الكبير الذي يمارسه بن زايد على ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والعلاقة الوثيقة التي تربطهما، وإلى أن الأخير يعتبر بن زايد نموذجا ومعلما له. كما توضح الدراستان الدور الكبير الذي لعبته الإمارات في دعم الانقلاب العسكري في مصر (2013)، وفي دعم مساعي اللواء الليبي المتقاعد المتمرد، خليفة حفتر، للسيطرة على ليبيا بالقوة العسكرية، وهي المساعي التي أفشلها الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق في طرابلس، وإلى دور الإمارات في دعم المليشيات الانفصالية في جنوب اليمن، والتي غيرت من خريطة القوى السياسية هناك، وكلها عوامل تأثير واضحة للدور الإماراتي الجديد.
سياسة الإمارات تغيرت منذ الربيع العربي، ولم تعد السياسة التقليدية التي عرفت بها الإمارات خلال حكم الشيخ زايد
يتطلب هذا كله وعي الحكومات الغربية بطبيعة التوجه الإماراتي، وعدم التعامل معه من المنظور التقليدي الذي يركز على انفتاح الإمارات الاجتماعي والديني، وعلى نموذجها الاقتصادي، وسهولة عيش الدبلوماسيين الغربيين على أراضيها، وعلاقاتهم الوثيقة مع مسؤوليها، من دون التركيز على جوهر التوجه الإماراتي الجديد، القائم على الدولة البوليسية التي تقمع مختلف أنواع المعارضة، وتراقب مواطنيها مستخدمة أحدث التكنولوجيا، وتنشر الاستبداد في المنطقة، وتعمل على تقوية علاقاتها بالصين وروسيا، لموازنة أي ضغوط قد يمارسها الغرب عليها.
وتفيد الدراستان بأن رؤية محمد بن زايد السياسية ترتكز على خصومته مع عدوين رئيسيين: إيران التي تحتل جزرا إماراتية منذ السبعينيات، وتنشر نفوذها بشكل متزايد في المنطقة، وجماعة الإخوان المسلمين، خصوصا منذ الربيع العربي. وتقول دراسة معهد الشؤون الدولية إن عداء بن زايد لـ"الإخوان" هو المحرّك الأهم لسياساته الخارجية، ويفوق عداءه لإيران. وأصل ذلك خوف ولي عهد أبوظبي من المعارضة السياسية، وأن جماعة الإصلاح الإماراتية، المرتبطة فكريا بالإخوان المسلمين، هي أكبر جماعات المعارضة السياسية في الإمارات، الأمر الذي جعله يركز على قمعها وتجريمها بعد الربيع العربي، من دون أن ينسى قمع النشطاء الليبراليين أيضا، فالقضية ليست الإخوان المسلمين، وإنما معاداة المعارضة السياسية، وخوف بن زايد من تغير نظام الحكم. ولذا يصر على تصوير كل الجماعات الإخوانية إرهابية، وإنْ لم تمتهن العنف. كما يصوّرها جماعات غير وطنية، ولاؤها للجماعة الأم في مصر وليس لدولها. ويحاربها في كل الإقليم، حتى لو عرّضه ذلك لخسائر سياسية كما يحدث في اليمن، حيث تقول الدراسة إن الحوثيين نجحوا في السيطرة على صنعاء، لأن التحالف العربي لم يقف بقوة ضد زحفهم على صنعاء، أملا في توريط إخوان اليمن في مواجهة دموية معهم، وهو ما لم يحدث، فسقطت صنعاء في يد الحوثيين، وبعد ذلك تحالفت السعودية أحيانا مع إخوان اليمن، وظلت الإمارات تعاديهم.
الإمارات أقل الدول اعتراضا على خطة ترامب للتسوية في الشرق الأوسط "صفقة القرن"
أما إيران فتبدو عداوة الإمارات لها أكثر تعقيدا، بسبب التهديد المباشر الذي تمثله إيران وقوتها العسكرية للإمارات، حيث خفّضت الإمارات من وجودها العسكري في اليمن منذ صيف العالم الماضي (2019)، بعد تعرّض سفنٍ لها لاعتداءات في الخليج. كما تخشى الإمارات من تعرّضها لخسائر مادية فادحة، في حال وقوع مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة من ناحية وإيران وحلفائها الإقليميين من ناحية أخرى. لذا يبدو العداء لجماعة الإخوان المسلمين والمعارضة السياسية، والعمل على نشر الديكتاتوريات وحكم الفرد منذ الربيع العربي، من أهم محاور سياسة الإمارات الخارجية حاليا.
وتقول دراسة "تشاتم هاوس" إن سياسة الإمارات هذه مليئة بالعيوب الخطيرة، فهي لا تحقق الاستقرار على المستوى الطويل، لأن نشر الديكتاتوريات وحكم الفرد لا يفيد في تحقيق استقرار الدول العربية على المستوى البعيد، وخصوصا أن دولا عربية، مصر مثلا، لا تمتلك موارد الإمارات المالية الضخمة التي تساعدها في اتباع تلك السياسة والإنفاق بسخاء على المشاريع الاقتصادية وشراء رضا المواطنين، كما تتميز دول عربية أخرى بتعدّدها الداخلي، أو بحرصها على حقوق مواطنيها وحرياتهم بدرجات مختلفة. وتوضح الدراسة أن القيادة الإماراتية لا تمتلك استراتيجية واضحة، ولا مؤسسات صنع قرار، وأن صناعة القرار السياسي تتركز في محمد بن زايد ومجموعة صغيرة من المستشارين المقرّبين، الأمر الذي يؤدي إلى اتخاذ قرارات سريعة وغير مدروسة، كقرار سحب جزءٍ كبير من قواته من اليمن في صيف عام 2019، وقرار التوقف عن تدريب القوات الصومالية في 2017 بعد الدخول في خلاف مع حكومة الصومال، بسبب علاقة أبوظبي بجمهورية أرض الصومال غير المعترف بها من الصومال، وبنائها قاعدة عسكرية في ميناء بربرة، وكذلك بعض تصرّفات الحكومة الإماراتية في ليبيا واليمن التي تتم، في أحيان كثيرة، بعيدا عن التنسيق مع حلفائها، كمصر والسعودية. وتأتي الدراستان على تعاون الإمارات مع جماعات سلفية متشدّدة في اليمن وليبيا، تدعم مشروعها السياسي، وهو ما يتناقض مع حرص قادة الإمارات على تأكيد عدائهم للتشدد الديني ومحاربتهم له. فيما يقول الواقع إنهم يتعاونون مع جماعات متشدّدة دينيا قد ترتبط بعضها بالقاعدة، كما الحال في اليمن.
صناعة القرار السياسي تتركز في محمد بن زايد ومجموعة صغيرة من المستشارين المقرّبين
هذا بالإضافة إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تتسبب فيها السياسات الإماراتية، خصوصا في مناطق الحروب، وفي مقدمها اليمن، حيث تتهم القوات الإماراتية بتبنّي برامج تدعم الاغتيالات السياسية والتعذيب والاعتقالات، من خلال المليشيات المتحالفة معها، وهو ما عرّض الإمارات لانتقادات غربية واسعة، لم تتعود عليها من قبل، وربما ساهم في دفعها إلى اتخاذ قرار سحب غالبية قواتها من هناك.
باختصار، تغيّرت سياسة الإمارات منذ الربيع العربي، والحكومات الغربية في حاجة لفهم النموذج السياسي الجديد الذي تتبنّاه الإمارات، وهو يقترب أكثر من دول كروسيا والصين، في ما يتعلق بالسعي إلى النمو الاقتصادي، في ظل نظام داخلي استبدادي، وسياسات خارجية تدعم الاستبداد وحكم الفرد، وتنشره، وإن حافظت الإمارات على علاقاتها القوية بالدول الغربية وإسرائيل. حيث تذهب دراسة المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية إلى أن الإمارات أقل الدول اعتراضا على خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتسوية في الشرق الأوسط، المعروفة باسم "صفقة القرن"، وأن "بن زايد قد يقبل بحل يتماشى، إلى حد كبير، مع أفكار الحكومة الإسرائيلية".