ليس سليم تماري باحثًا عاديّاً في علم الاجتماع، إذ إن مؤلّفاته الكثيرة تميلُ صوب التأريخ والتوثيق، وإيجاد سياق لحياوات أهل المكان "فلسطين". كتابته المتفرّدة في علم الاجتماع، توسع الرؤية، إذ تربطُ بين العلم والواقع. فليست المعرفة لديه منبتة الصلة عن هدفٍ واضحٍ كرّس حياته من أجله : الهوية الفلسطينية باعتبارها نتاج أهلها، علاقاتهم، نظرتهم إلى التغييرات الكثيرة التي مرّت فوق تلك الأرض الصغيرة النحيلة: فلسطين.
ولدت قبل عام النكبة، فأنت من مواليد عام 1945 ومن يافا، متى اضطررت إلى الرحيل عنها؟
- صحيح، أنا من يافا من جهة أمّي وأبي. تركت يافا مع عائلتي حين كنت طفلاً صغيراً عام النكبة 1948. هاجرنا لبضع سنوات إلى لبنان، ثمّ عدنا إلى فلسطين، وتحديداً إلى رام الله التي كانت وقتذاك تحت الإدارة الأردنية. في رام الله، نشأت وكبرت ودرست حتّى المرحلة الثانوية. لكن لقائي مع يافا تمّ بعد عام 1967. كما تعلمين فقد انقطعنا عن بلادنا، لم يكن ثمة تواصل في الفترة الواقعة بين عامي النكبة والنكسة. لكن، بعد الهزيمة عام 1967، بدأت الناس تعود، هكذا فعلنا أيضاً. عدتُ إلى يافا، والتقيتُ أقاربي من عائلة "جدّيّ"، الذين بقوا في يافا. حاولنا فعلاً العودة إلى بيوتنا، أقصد بين أهل أبي وأهل أمّي في حي العجمي. زرتُ البيتين، وكما يحدثُ عادةً فإن زيارات مماثلة تكون مؤلمة، إذ كان ثمة مهاجرون يهود في البيتين. لكنني بقيتُ على تواصل مع يافا، بسبب وجود الأقارب. اليوم يشكّل الفلسطينيون ثلث سكّان يافا، يتوزعون على أحياء عدّة أهمها الجبلية، والنزهة، وسكنة درويش، وبالطبع حي عجمي، أحد الأحياء العربية القديمة المحاذية ليافا القديمة، حيّ على التلة، هناك.
أنت بدأت في دراسة العلوم السياسية، ثمّ انتقلت إلى علم الاجتماع، أخبرنا عن مسيرتك العلمية؟
كانت العلوم السياسية اهتمامي الأوّل. حصلتُ على منحة من الحكومة الأردنية ودرست في نيوجرسي في جامعة درو. لكن في الفترة نفسها بدأ اهتمامي بعلم الاجتماع، حصلت على درجة الماجستير من جامعة نيو هامبشاير، وكان موضوع رسالتي "البوتقة الاقتصادية في صدر الإسلام في مجتمعي مكّة والمدينة". أمّا أطروحة الدكتوراة (جامعة مانشستر) فكانت حول "الآثار الاجتماعية لتكنولوجيا الزراعة المروية في غور الأردن"، حيث بحثت في تحولات المجتمع الريفي والزراعة في غور الأردن، خلال فترة امتدت من أوّل القرن العشرين وحتّى عقده الثامن.
تبدو مواضيع دراستك بعيدة من مواضيع كتبك، وهي بدورها منقسمة، إن جاز التعبير، بين علم الاجتماع والعلوم السياسية، فقد كتبت عن قضية اللاجئين، وكنت في مفاوضات مدريد؟
نعم، كتبت عن اللجوء وعن قضية اللاجئين والتغيرات السكّانية. طُلب مني أن أكون في مجموعة اللاجئين في المفاوضات المتعددة بعد مؤتمر مدريد. لفترة طويلة، خضنا مفاوضات عقيمة حقّاً، إذ لم تسفر عن أي شيء. لكن من نتائجها أننا طوّرنا أبحاثاً ودراسات عدة عزّزت فهمنا ورؤيتنا لواقع اللاجئين في فلسطين وفي الشتات. والأهمّ أننا عملنا على قاعدة البيانات الموجودة في سجلات وكالة الغوث، ولجنة التوثيق UNCCP التابعة للأمم المتحدة، وكانت السجلات تشمل حقوق الللاجئين في ملكياتهم وعقاراتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة في فلسطين. انبثقت اللجنة عن القرار 194، وهي تعنى برصد أملاك اللاجئين الذين فُقدت أموالهم وأراضيهم داخل المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1948. إذ بين عام 1951 و1961، تمّ جرد كامل من سجلات الملكيّات، لمجمل الأملاك التي فقدها الفلسطينيون واستولت عليها إسرائيل.
ما فائدة توثيقٍ مماثلٍ في ظلّ الواقع الذي تعرفه جيداً؟
أهّم ما في الأمر، تثبيت الملكية لكلّ الذين فقدوا أموالهم، أي تثبيت حقوق الناس الذين كانوا يقطنون في فلسطين حتّى لو لم يكونوا من الملّاكين. هذه حال المزارعين الذين كانوا يعملون في أراضٍ لا يملكونها. هم أيضاً لهم حقوق ثابتة. استطعنا تثبيت ذلك من خلال صدور قرار حقّهم في الملكية من ناحية، ومن ناحية أخرى حقّ تاريخي. لا يتعلّق الأمر بالأموال والعقارات فحسب، بل بحقّ الناس القاطنين في فلسطين وحقّ أبنائهم وأحفادهم، فقد كان لديهم أعمالهم، - وفقدوا حقّهم في العمل- وكانت لديهم حياواتهم. كلّ هذه الحقوق تعزّزت من خلال لجان المفاوضات المتعدّدة. لكن شيئاً عمليّاً لم يتحّقق، فكما تعلمين لم تسفر المفاوضات عن شيء، أقصد تلك المتعلّقة بما يسمّى الحل النهائي؛ ترسيم الحدود، وحقّ العودة، وحقوق اللاجئين وتعويض اللاجئين والقدس. لم يتم البت في أي أمر. كنّا نظنّ أن المفاوضات ستؤدّي إلى بداية الحل النهائي. لكن مع تعثّر النضال السياسي الفلسطيني ووصول ما يسمّى بعملية السلام إلى أفق مسدود، تحوّلت القضية من قضية دفاع عن حقوق إلى قضية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بمختلف الوسائل: أوّلا من الكفاح المسلّح ثم من خلال المفاوضات وبعد ذلك، ضرورة بلورة طرق جديدة يتطلبها الوضع الراهن نتيجة تعثر العملية السياسيّة بما فيها المصالحة داخل البيت الفلسطيني، واحتقان الوضع الداخلي باتجاه حدوث انتفاضة ثالثة.
أنا شخصيّاً بعد هذه الطريق المسدود، تركت كل الاهتمام بالسياسة. منذ حوالي عشر سنوات اتجهتُ نحو دراسة التاريخ، التاريخ الاجتماعي تحديداً. أركّز دراساتي حول حداثة فلسطين والتحوّلات الاجتماعية، وبشكل خاص بروز الهوية الفلسطينية عند نهاية الفترة العثمانية. وكذلك طبيعة هذه الفترة والعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة إبّانها. وعلاقة فلسطين مع البلاد الشامية والسلطنة العثمانية.
في كتابك "عام الجراد: الحرب العظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين"، لا تبدو وجهة نظر الجندي مألوفةً في ما يخص العلاقة مع السلطة العثمانية؟
اهتممت بمذكرات الجندي إحسان، لأنها وصلتني بعد 100 عام على وفاته، وهي تمثّل مدخلاً لفهم ما حدث لفلسطين أثناء الحرب العظمى. ثمّة جانبٌ مثيرٌ فيها، إذ يصف إحسان الأمور بطريقة عفوية تعكس طريقة تفكير الناس العاديين وقتذاك. فمثلاً أحد أبرز الأمور من خلالها - ولا أدّعي أنها تشكّل إجماعاً لدى الناس- التي من الواضح أنها تمثّل رؤيةً لم تعد موجودة، تظهر في محاورات الجنود، فقد كانوا يتوقّعون أن نهاية الفترة العثمانية سينتج عنها تغييرات درامية حاسمة في سورية وفلسطين. إحدى الرؤى التي كانت سائدة، هي توّحد البلاد الشامية تحت قيادة الأمير فيصل. وثمة رؤية أخرى كانت تؤكّد بقاء سورية وفلسطين والبلاد الشامية ضمن الدولة العثمانية، لكن مع استقلال ذاتي. وهذه الرؤية الأخيرة، كانت تشكّل، في ظنّي، ووفقاً لقراءاتي في سير تلك الفترة ومدوناتها، الأغلبية من الناس في بلاد الشام. وكان ثمة تيار آخر برز أيضاً من خلال قراءاتي، تيّار ثالثٌ ينادي بوحدة مصر مع فلسطين بعد انهيار الدولة العثمانية. وهذا أمرٌ لم نكن نعرفه، أو بالأحرى ما كنّا سنلحظه في خضم تحليل التيّار التاريخي الذي برز بعد "سايكس بيكو". إذ إن الناس وقتها كانوا يفكّرون إما في الاستقلال تحت قيادة الأمير فيصل، أو البقاء تحت مظلة العثمانيين. التيّار الثالث مهمّ جدّا في ظني، إذ هو يكشف عن تواصلٍ بين الحركة الوطنية في مصر والحركة الانفصالية عن الدولة العثمانية في بلاد الشام، وهذا الأمر تبخر ولم نعد نسمع عنه اليوم.
تمثّل اليوميّات التي تبحث فيها الجانب "غير الرسمي" للتاريخ إن صحّ التعبير. كيف ترى العلاقة بينها وبين التاريخ الرسمي؟
الأمر الأكثر أهمية في الموضوع هو "كيف كان يشعر الناس في تلك اللحظة؟" وهو ليس ما وصلنا بالضرورة عبر التاريخ الرسمي، فهذا الأخير هو إسقاطٌ بأثرٍ رجعي للتيّار القومي الذي كان سائداً إبّان الانتداب.
مثلاً نحن ننسى أن الكثير من الناس، خصوصاً المثقّفين منهم، كانوا وقتها متعاطفين مع بقاء الدولة العثمانية، كانوا ينظرون إليها كأنها صرحٌ ضدّ هيمنة الغرب وتقسيم البلاد إلى دويلات تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا، وكانوا يمثلون الأغلبية. بيد أنه مع نهاية الحرب وسقوط العثمانيين وتجزئة الدول العربية، وهزيمة الدولة العربية المستقلة بعد معركة ميسلون، صار الناس يفكّرون في الأطر الكيانية التي انبثقت عن "سايكس بيكو"، كما لو أنّها قدرٌ حتمي، فبرزتْ الإقليمية كخيارٍ سائد.
كتابك الجبل ضدّ البحر، نُشر أولاً على شكل مقالة في مجلة الكرمل، قبل أن تضيف إليه وتوسّعه؟
أشير إلى أن المقالة التي تذكرين، كانت أدنى إلى تسلية فكرية. أمّا الكتاب فهو مجموعة من السيّر التي قرأتُ من خلالها التحولات الاجتماعية في تاريخ فلسطين المعاصر. الكتاب محاولة لرؤية حداثة في فلسطين غير المكتملة. مقارنةً مع الحداثة في مصر وتونس وسورية ولبنان. حداثة فيها نوع من التناقض؛ إذ هي في جزءٍ منها حداثة أوروبية، وفي جزئها الثاني هي نتيجة تحولات اجتماعية برزت من خلالها النخبة الشامية (في فلسطين وسورية ولبنان)، وكان محورها ثقافة الساحل. هذه الثقافة الساحلية كانت على اتصالٍ كبيرٍ مع أوروبا، وحيالها كان ثمة حداثة أخرى موجودة في مجتمع الداخل الشامي، الذي يشمل بالطبع المدن الداخلية على رأسها القدس الشريف ودمشق وحلب، التي تمثّل تواصلاً ثقافيّاً من نوع مختلف، حيثُ غلب عليه طابع ؛ التجديد الدستوري والتجديد الديني، علاقة الدين مع القومية. وكانت أغلب النخب إقطاعية من ملّاك الأرض الذين حاولوا التأقلّم مع متطلبات العصر الحديث. الحداثة في مدن الساحل ؛ يافا وحيفا واللاذقية، وبيروت على وجه الخصوص، كانت في حال "صراع" مع حداثة الجبل أو المدن الداخلية. انحسم الصراع في فلسطين لأن مدن وقرى الساحل ضربتها قوى الاستيطان الصهيوني، وتمّ تدمير النسيج الاجتماعي لثقافة الساحل، فانتقلت إلى الجبل وإلى الشتات أيضاً. الكتاب محاولة لرؤية طبيعة هذه الحداثة غير المكتملة من خلال نمطين مختلفين في التفكير، وفي الثقافة. لكن طبعاً لا أريد المبالغة فيها، إذ ثمّة من يظن أنّ ثقافة دمشق وثقافة بيروت، في حالة صراع مستمرٍ من خلال إسقاطات لاحقة عليه. الأمور انحسمت في فلسطين نتيجة للحرب، وفي بلاد الشام (سورية ولبنان) نتيجةً للتقسيم الإقليمي.
كيف انحسمت، ولصالح من؟
انحسمت لصالح عدم اكتمال المشروع الوطني العربي. بينما، نلاحظ في تركيا كيف استطاعت الحركة الوطنية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك، النجاح في تطوير الاقتصاد والمجتمع التركي، بحيث تبلورت توليفة جديدة ناجحة نسبيّاً، ولكن على حساب الانقطاع مع المجمع الإسلامي. بينما في العالم العربي، لم تستطع النخب الانتقال بهذه "الحداثة" إلى مصاف الدول الناجحة، لأسباب مختلفة، أهمّها التجزئة الاستعمارية والهيمنة الاستعمارية من جهة، وفشل الحركة الوطنية من جهة أخرى، إذ لا نستطيع القول، إن الفشل نتيجة الاستعمار فحسب، فقد كان موجوداً في كلّ دول آسيا وأفريقيا. نريد أن نفسّر لماذا نجحت في بعض الدول وجابهت الاستعمار وفشلت في دول أخرى. العنصر الذاتي أو التنظيمي أو الثقافي، يؤدّي دوراً كبيراً في تفسير ذلك.
تذكر في "الجبل ضدّ البحر" عربيّاً يهوديّاً هو إسحاق الشامي؟
إسحاق الشامي مهمّ جدّاً لأنه يمثّل جزءاً من يهود فلسطين ذوي الثقافة العربية، الذين كانوا يعدّون أنفسهم عرباً. يمثّل إسحاق الشامي تياراً فكريّاً كان واعداً لمستقبل فلسطين، إذ هو يتجاوز "الطائفية" لصالح بوتقة ثقافية مشتركة. كان ثمّة في المدن الكبيرة ؛ دمشق وبغداد وبيروت، جالية يهودية مهمّة جدّاً ساهمت في بلورة ثقافتها الذاتية، كان يمكن أن تسمح بانصهار اليهود داخل المجتمع العربي ضمن ثقافة عربية حديثة تتجاوز الطائفية. وقد تبلورت هذه الثقافة بشكلٍ واضح في العراق، وبشكل أقل في سورية ولبنان. بينما في فلسطين، سرعان ما فقد اليهود العرب صلتهم بالثقافة العربية بسبب الغزو الصهيوني، فاليهود الغربيون أصبحوا أغلبيةً عددية، فضلاً عن الصراعات الطائفية التي فجرتها الصهيونية مع العرب، فعدّ كثيرٌ من اليهود العرب أنفسهم مجموعةً قومية تختلف عن العرب. هنا أهمية إسحاق الشامي إذ يعيدنا إلى فترة لم تكن فيها كلمتا "عربي" و"يهودي" كلمتين متقابلتين. إسحاق الشامي كان عربيّاً ويهوديّاً في الوقت نفسه.
قمت بتحرير، رفقة عصام نصّار، مذكرات الموسيقي واصف جوهرية في كتابين؛ القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية (1904-1917) والقدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية (1918-1948)؟
ثمّة أمران مهمّان لدى جوهرية؛ هو أولًا موسيقار نقل إلى فلسطين تراث الموسيقى المصرية والشامية، ونشر الموسيقى الشعبية بشكلٍ واسع في فلسطين، ودوّنها. وثانيّاً، وهو الأهم، أنه دوّن مشاهداته لحداثة القرن العشرين في فلسطين، أي بما فيها حداثة الفترة العثمانية المتأخرة.
لافتٌ اهتمامك بالسيّر واليوميات، ثمّة هاجس توثيقي لديك، هل ستوثّق سيرتك؟
أبداً أبداً، ليس لدي الرغبة ولا النية في كتابة مذكرات أو ما شابه. لكن اهتمامي بسير ومدونات أشخاص مغمورين بسبب أنها تسمح بالكشف عن جانب من النسيج الاجتماعي والثقافي العربي. الجزء الذي لا نقرأه في التاريخ الرسمي. كما تعلمين معظم التأريخ لدينا سياسي. نحن لا نستطيع العودة إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس وقتذاك، إلا من خلال تلك السير تقريباً. هي سيرٌ فقدت في بعض الأحيان، أو طمست أو همّشت. كتاباتي حول هذا الأمر جزءٌ منها أدبي والجزء الآخر محاولة لاستكشاف طبيعة الحياة اليومية في بلادنا في تلك الفترة.
"تلك الفترة"؟ يبدو لي أن غالبية هذه السير واليوميات والمدوّنات تعود لفترة واحدة : النصف الأوّل من القرن العشرين. كما لو أنك تحرّر سير وحياوات الجيل الذي سبقك، أقصد جيل أهلك. أهو الحنين؟
صحيح، هي تقريباً كلّها تدور في فلك ذاك الوقت. لكنها ليست سيراً رومانسية. لا، ليس الحنين هو المنحى الرئيس في ذهني. أكيد ثمة حنين قويّ في هذه المذكرات. لكن اليوميات مختلفة، يكتبها الناس تحت وطأة الإحساس اليومي، ولا مجال فيها للحنين. لو أخذنا مذكرات الترجمان مثلاً، لوجدناه يشتم مصيره، يشتم أهله، يشتم السلطة، يشتم الحرب بسبب ما فعلته به، إذ فرّقته عن حبيبته. كان الترجمان راغباً في حياة عادية، بيد أن الحرب والاستبداد أدّيا إلى إصابته ببؤسٍ شديد، راح يدوّنه يوميّاً. من خلال هذا البؤس نستطيع مشاهدة طبيعة الحياة في زمن الحرب. وهذا مفصل تاريخي مهم جدّاً، لأسباب عدة منها؛ أن الناس بدأت في التفكير بمستقبلها بطريقة جديدة، وأنهم صاروا يفكّرون في العلاقات الاجتماعية بطريقة غير مسبوقة.
في ذلك الحين فقدت المدن كثيراً من شبابها في الجبهة، وغدا المجتمع مجزءاً. إحدى ملاحظات الكاتب أن نساء كثيرات نتيجة للفقر وغياب المعيل، اضطررن إلى بيع أنفسهن في الشوارع. كان هذا بمثابة صدمة له، هنا لا حنين على الإطلاق.
لكن يوجد نوع ثانٍ يمثّله واصف جوهرية، فيه حنين من نوع غريب : حنين للعهد العثماني. لأنه يتذكّر حياةً طبيعيةً وافرةً وواعدةً، كان الناس فيها أكثر تضامناً في ما بينهم. خصوصاً بعد انتصار الثورة الدستورية على الاستبداد الحميدي لم يكن يوجد ذاك الصراع الدامي بين المستعمر وأهل البلد. لم يكن جوهرية يحاول وضع رؤية رومنطيقية، بل كان يصف بدقّة. متذكّراً القدس ويافا، أي المدن التي يألفها، وكيف كانت زاخرةً بثقافةٍ واعدة، لكن مبنية على نوع من التضامن الاجتماعي بين الناس. وهو ما فُقد بسبب الحرب، ثمّ تطوّر بشكلٍ مختلف كليّاً في فترة الانتداب.
كتاب المذكرات الجوهرية، الذي حاز على جائزة أخيراً، يعطي إيحاءً قويّاً بأن القدس كانت مدينة كوزموبوليتية؟
صحيحٌ تماماً، فالقدس التي سمّاها إدوارد سعيد مدينة الموت، إذ وجدها مليئة بالغمّ والنكد، كان فيها جانبٌ قويّ حيويّ، نجده في حبّ الحياة، وتلك التيّارات الموسيقية والثقافية، وأمور أخرى لم تعد الناس تعرفها بعد الاحتلال. كانت الناس تظنّ أن حداثة فلسطين بدأت مع الاستعمار البريطاني، وأن الفترة قبله كانت فترة طغيان واستبداد وطائفية. وهذا غير صحيح، كما نلمسه من خلال قراءة هذه المذكرات.
القدس حيث مقرّ معهد الدراسات المقدسيّة الذي تديره، وينشر دوريتين ؛ حوليات القدس و Jerusalem Quarterly؟
لا المقرّ اليوم في رام الله، أنشئت المؤسسة في القدس عام 1995، هو فرعٌ لمؤسسة الدراسات الفلسطينية. لكن الحكومة الإسرائيلية طردتنا، أغلقت المكتب. بعد وصول شارون ونتنياهو إلى الحكم، بدأت هجمة، ضد الوجود الثقافي الفلسطيني في القدس، هجمة لا تهدف فقط إلى إخلاء القدس من مراكزها الثقافية، بل إلى إخلائها من سكّانها. هكذا انتقلنا نحن ومجموعة كبيرة من المؤسسات الثقافية إلى رام الله. ثم انتهى دوري في إدارة المؤسسة وبقيت أعمل فيها كباحث.
- صحيح، أنا من يافا من جهة أمّي وأبي. تركت يافا مع عائلتي حين كنت طفلاً صغيراً عام النكبة 1948. هاجرنا لبضع سنوات إلى لبنان، ثمّ عدنا إلى فلسطين، وتحديداً إلى رام الله التي كانت وقتذاك تحت الإدارة الأردنية. في رام الله، نشأت وكبرت ودرست حتّى المرحلة الثانوية. لكن لقائي مع يافا تمّ بعد عام 1967. كما تعلمين فقد انقطعنا عن بلادنا، لم يكن ثمة تواصل في الفترة الواقعة بين عامي النكبة والنكسة. لكن، بعد الهزيمة عام 1967، بدأت الناس تعود، هكذا فعلنا أيضاً. عدتُ إلى يافا، والتقيتُ أقاربي من عائلة "جدّيّ"، الذين بقوا في يافا. حاولنا فعلاً العودة إلى بيوتنا، أقصد بين أهل أبي وأهل أمّي في حي العجمي. زرتُ البيتين، وكما يحدثُ عادةً فإن زيارات مماثلة تكون مؤلمة، إذ كان ثمة مهاجرون يهود في البيتين. لكنني بقيتُ على تواصل مع يافا، بسبب وجود الأقارب. اليوم يشكّل الفلسطينيون ثلث سكّان يافا، يتوزعون على أحياء عدّة أهمها الجبلية، والنزهة، وسكنة درويش، وبالطبع حي عجمي، أحد الأحياء العربية القديمة المحاذية ليافا القديمة، حيّ على التلة، هناك.
أنت بدأت في دراسة العلوم السياسية، ثمّ انتقلت إلى علم الاجتماع، أخبرنا عن مسيرتك العلمية؟
كانت العلوم السياسية اهتمامي الأوّل. حصلتُ على منحة من الحكومة الأردنية ودرست في نيوجرسي في جامعة درو. لكن في الفترة نفسها بدأ اهتمامي بعلم الاجتماع، حصلت على درجة الماجستير من جامعة نيو هامبشاير، وكان موضوع رسالتي "البوتقة الاقتصادية في صدر الإسلام في مجتمعي مكّة والمدينة". أمّا أطروحة الدكتوراة (جامعة مانشستر) فكانت حول "الآثار الاجتماعية لتكنولوجيا الزراعة المروية في غور الأردن"، حيث بحثت في تحولات المجتمع الريفي والزراعة في غور الأردن، خلال فترة امتدت من أوّل القرن العشرين وحتّى عقده الثامن.
تبدو مواضيع دراستك بعيدة من مواضيع كتبك، وهي بدورها منقسمة، إن جاز التعبير، بين علم الاجتماع والعلوم السياسية، فقد كتبت عن قضية اللاجئين، وكنت في مفاوضات مدريد؟
نعم، كتبت عن اللجوء وعن قضية اللاجئين والتغيرات السكّانية. طُلب مني أن أكون في مجموعة اللاجئين في المفاوضات المتعددة بعد مؤتمر مدريد. لفترة طويلة، خضنا مفاوضات عقيمة حقّاً، إذ لم تسفر عن أي شيء. لكن من نتائجها أننا طوّرنا أبحاثاً ودراسات عدة عزّزت فهمنا ورؤيتنا لواقع اللاجئين في فلسطين وفي الشتات. والأهمّ أننا عملنا على قاعدة البيانات الموجودة في سجلات وكالة الغوث، ولجنة التوثيق UNCCP التابعة للأمم المتحدة، وكانت السجلات تشمل حقوق الللاجئين في ملكياتهم وعقاراتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة في فلسطين. انبثقت اللجنة عن القرار 194، وهي تعنى برصد أملاك اللاجئين الذين فُقدت أموالهم وأراضيهم داخل المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1948. إذ بين عام 1951 و1961، تمّ جرد كامل من سجلات الملكيّات، لمجمل الأملاك التي فقدها الفلسطينيون واستولت عليها إسرائيل.
ما فائدة توثيقٍ مماثلٍ في ظلّ الواقع الذي تعرفه جيداً؟
أهّم ما في الأمر، تثبيت الملكية لكلّ الذين فقدوا أموالهم، أي تثبيت حقوق الناس الذين كانوا يقطنون في فلسطين حتّى لو لم يكونوا من الملّاكين. هذه حال المزارعين الذين كانوا يعملون في أراضٍ لا يملكونها. هم أيضاً لهم حقوق ثابتة. استطعنا تثبيت ذلك من خلال صدور قرار حقّهم في الملكية من ناحية، ومن ناحية أخرى حقّ تاريخي. لا يتعلّق الأمر بالأموال والعقارات فحسب، بل بحقّ الناس القاطنين في فلسطين وحقّ أبنائهم وأحفادهم، فقد كان لديهم أعمالهم، - وفقدوا حقّهم في العمل- وكانت لديهم حياواتهم. كلّ هذه الحقوق تعزّزت من خلال لجان المفاوضات المتعدّدة. لكن شيئاً عمليّاً لم يتحّقق، فكما تعلمين لم تسفر المفاوضات عن شيء، أقصد تلك المتعلّقة بما يسمّى الحل النهائي؛ ترسيم الحدود، وحقّ العودة، وحقوق اللاجئين وتعويض اللاجئين والقدس. لم يتم البت في أي أمر. كنّا نظنّ أن المفاوضات ستؤدّي إلى بداية الحل النهائي. لكن مع تعثّر النضال السياسي الفلسطيني ووصول ما يسمّى بعملية السلام إلى أفق مسدود، تحوّلت القضية من قضية دفاع عن حقوق إلى قضية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بمختلف الوسائل: أوّلا من الكفاح المسلّح ثم من خلال المفاوضات وبعد ذلك، ضرورة بلورة طرق جديدة يتطلبها الوضع الراهن نتيجة تعثر العملية السياسيّة بما فيها المصالحة داخل البيت الفلسطيني، واحتقان الوضع الداخلي باتجاه حدوث انتفاضة ثالثة.
أنا شخصيّاً بعد هذه الطريق المسدود، تركت كل الاهتمام بالسياسة. منذ حوالي عشر سنوات اتجهتُ نحو دراسة التاريخ، التاريخ الاجتماعي تحديداً. أركّز دراساتي حول حداثة فلسطين والتحوّلات الاجتماعية، وبشكل خاص بروز الهوية الفلسطينية عند نهاية الفترة العثمانية. وكذلك طبيعة هذه الفترة والعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة إبّانها. وعلاقة فلسطين مع البلاد الشامية والسلطنة العثمانية.
في كتابك "عام الجراد: الحرب العظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين"، لا تبدو وجهة نظر الجندي مألوفةً في ما يخص العلاقة مع السلطة العثمانية؟
اهتممت بمذكرات الجندي إحسان، لأنها وصلتني بعد 100 عام على وفاته، وهي تمثّل مدخلاً لفهم ما حدث لفلسطين أثناء الحرب العظمى. ثمّة جانبٌ مثيرٌ فيها، إذ يصف إحسان الأمور بطريقة عفوية تعكس طريقة تفكير الناس العاديين وقتذاك. فمثلاً أحد أبرز الأمور من خلالها - ولا أدّعي أنها تشكّل إجماعاً لدى الناس- التي من الواضح أنها تمثّل رؤيةً لم تعد موجودة، تظهر في محاورات الجنود، فقد كانوا يتوقّعون أن نهاية الفترة العثمانية سينتج عنها تغييرات درامية حاسمة في سورية وفلسطين. إحدى الرؤى التي كانت سائدة، هي توّحد البلاد الشامية تحت قيادة الأمير فيصل. وثمة رؤية أخرى كانت تؤكّد بقاء سورية وفلسطين والبلاد الشامية ضمن الدولة العثمانية، لكن مع استقلال ذاتي. وهذه الرؤية الأخيرة، كانت تشكّل، في ظنّي، ووفقاً لقراءاتي في سير تلك الفترة ومدوناتها، الأغلبية من الناس في بلاد الشام. وكان ثمة تيار آخر برز أيضاً من خلال قراءاتي، تيّار ثالثٌ ينادي بوحدة مصر مع فلسطين بعد انهيار الدولة العثمانية. وهذا أمرٌ لم نكن نعرفه، أو بالأحرى ما كنّا سنلحظه في خضم تحليل التيّار التاريخي الذي برز بعد "سايكس بيكو". إذ إن الناس وقتها كانوا يفكّرون إما في الاستقلال تحت قيادة الأمير فيصل، أو البقاء تحت مظلة العثمانيين. التيّار الثالث مهمّ جدّا في ظني، إذ هو يكشف عن تواصلٍ بين الحركة الوطنية في مصر والحركة الانفصالية عن الدولة العثمانية في بلاد الشام، وهذا الأمر تبخر ولم نعد نسمع عنه اليوم.
تمثّل اليوميّات التي تبحث فيها الجانب "غير الرسمي" للتاريخ إن صحّ التعبير. كيف ترى العلاقة بينها وبين التاريخ الرسمي؟
الأمر الأكثر أهمية في الموضوع هو "كيف كان يشعر الناس في تلك اللحظة؟" وهو ليس ما وصلنا بالضرورة عبر التاريخ الرسمي، فهذا الأخير هو إسقاطٌ بأثرٍ رجعي للتيّار القومي الذي كان سائداً إبّان الانتداب.
مثلاً نحن ننسى أن الكثير من الناس، خصوصاً المثقّفين منهم، كانوا وقتها متعاطفين مع بقاء الدولة العثمانية، كانوا ينظرون إليها كأنها صرحٌ ضدّ هيمنة الغرب وتقسيم البلاد إلى دويلات تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا، وكانوا يمثلون الأغلبية. بيد أنه مع نهاية الحرب وسقوط العثمانيين وتجزئة الدول العربية، وهزيمة الدولة العربية المستقلة بعد معركة ميسلون، صار الناس يفكّرون في الأطر الكيانية التي انبثقت عن "سايكس بيكو"، كما لو أنّها قدرٌ حتمي، فبرزتْ الإقليمية كخيارٍ سائد.
كتابك الجبل ضدّ البحر، نُشر أولاً على شكل مقالة في مجلة الكرمل، قبل أن تضيف إليه وتوسّعه؟
أشير إلى أن المقالة التي تذكرين، كانت أدنى إلى تسلية فكرية. أمّا الكتاب فهو مجموعة من السيّر التي قرأتُ من خلالها التحولات الاجتماعية في تاريخ فلسطين المعاصر. الكتاب محاولة لرؤية حداثة في فلسطين غير المكتملة. مقارنةً مع الحداثة في مصر وتونس وسورية ولبنان. حداثة فيها نوع من التناقض؛ إذ هي في جزءٍ منها حداثة أوروبية، وفي جزئها الثاني هي نتيجة تحولات اجتماعية برزت من خلالها النخبة الشامية (في فلسطين وسورية ولبنان)، وكان محورها ثقافة الساحل. هذه الثقافة الساحلية كانت على اتصالٍ كبيرٍ مع أوروبا، وحيالها كان ثمة حداثة أخرى موجودة في مجتمع الداخل الشامي، الذي يشمل بالطبع المدن الداخلية على رأسها القدس الشريف ودمشق وحلب، التي تمثّل تواصلاً ثقافيّاً من نوع مختلف، حيثُ غلب عليه طابع ؛ التجديد الدستوري والتجديد الديني، علاقة الدين مع القومية. وكانت أغلب النخب إقطاعية من ملّاك الأرض الذين حاولوا التأقلّم مع متطلبات العصر الحديث. الحداثة في مدن الساحل ؛ يافا وحيفا واللاذقية، وبيروت على وجه الخصوص، كانت في حال "صراع" مع حداثة الجبل أو المدن الداخلية. انحسم الصراع في فلسطين لأن مدن وقرى الساحل ضربتها قوى الاستيطان الصهيوني، وتمّ تدمير النسيج الاجتماعي لثقافة الساحل، فانتقلت إلى الجبل وإلى الشتات أيضاً. الكتاب محاولة لرؤية طبيعة هذه الحداثة غير المكتملة من خلال نمطين مختلفين في التفكير، وفي الثقافة. لكن طبعاً لا أريد المبالغة فيها، إذ ثمّة من يظن أنّ ثقافة دمشق وثقافة بيروت، في حالة صراع مستمرٍ من خلال إسقاطات لاحقة عليه. الأمور انحسمت في فلسطين نتيجة للحرب، وفي بلاد الشام (سورية ولبنان) نتيجةً للتقسيم الإقليمي.
كيف انحسمت، ولصالح من؟
انحسمت لصالح عدم اكتمال المشروع الوطني العربي. بينما، نلاحظ في تركيا كيف استطاعت الحركة الوطنية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك، النجاح في تطوير الاقتصاد والمجتمع التركي، بحيث تبلورت توليفة جديدة ناجحة نسبيّاً، ولكن على حساب الانقطاع مع المجمع الإسلامي. بينما في العالم العربي، لم تستطع النخب الانتقال بهذه "الحداثة" إلى مصاف الدول الناجحة، لأسباب مختلفة، أهمّها التجزئة الاستعمارية والهيمنة الاستعمارية من جهة، وفشل الحركة الوطنية من جهة أخرى، إذ لا نستطيع القول، إن الفشل نتيجة الاستعمار فحسب، فقد كان موجوداً في كلّ دول آسيا وأفريقيا. نريد أن نفسّر لماذا نجحت في بعض الدول وجابهت الاستعمار وفشلت في دول أخرى. العنصر الذاتي أو التنظيمي أو الثقافي، يؤدّي دوراً كبيراً في تفسير ذلك.
تذكر في "الجبل ضدّ البحر" عربيّاً يهوديّاً هو إسحاق الشامي؟
إسحاق الشامي مهمّ جدّاً لأنه يمثّل جزءاً من يهود فلسطين ذوي الثقافة العربية، الذين كانوا يعدّون أنفسهم عرباً. يمثّل إسحاق الشامي تياراً فكريّاً كان واعداً لمستقبل فلسطين، إذ هو يتجاوز "الطائفية" لصالح بوتقة ثقافية مشتركة. كان ثمّة في المدن الكبيرة ؛ دمشق وبغداد وبيروت، جالية يهودية مهمّة جدّاً ساهمت في بلورة ثقافتها الذاتية، كان يمكن أن تسمح بانصهار اليهود داخل المجتمع العربي ضمن ثقافة عربية حديثة تتجاوز الطائفية. وقد تبلورت هذه الثقافة بشكلٍ واضح في العراق، وبشكل أقل في سورية ولبنان. بينما في فلسطين، سرعان ما فقد اليهود العرب صلتهم بالثقافة العربية بسبب الغزو الصهيوني، فاليهود الغربيون أصبحوا أغلبيةً عددية، فضلاً عن الصراعات الطائفية التي فجرتها الصهيونية مع العرب، فعدّ كثيرٌ من اليهود العرب أنفسهم مجموعةً قومية تختلف عن العرب. هنا أهمية إسحاق الشامي إذ يعيدنا إلى فترة لم تكن فيها كلمتا "عربي" و"يهودي" كلمتين متقابلتين. إسحاق الشامي كان عربيّاً ويهوديّاً في الوقت نفسه.
قمت بتحرير، رفقة عصام نصّار، مذكرات الموسيقي واصف جوهرية في كتابين؛ القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية (1904-1917) والقدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية (1918-1948)؟
ثمّة أمران مهمّان لدى جوهرية؛ هو أولًا موسيقار نقل إلى فلسطين تراث الموسيقى المصرية والشامية، ونشر الموسيقى الشعبية بشكلٍ واسع في فلسطين، ودوّنها. وثانيّاً، وهو الأهم، أنه دوّن مشاهداته لحداثة القرن العشرين في فلسطين، أي بما فيها حداثة الفترة العثمانية المتأخرة.
لافتٌ اهتمامك بالسيّر واليوميات، ثمّة هاجس توثيقي لديك، هل ستوثّق سيرتك؟
أبداً أبداً، ليس لدي الرغبة ولا النية في كتابة مذكرات أو ما شابه. لكن اهتمامي بسير ومدونات أشخاص مغمورين بسبب أنها تسمح بالكشف عن جانب من النسيج الاجتماعي والثقافي العربي. الجزء الذي لا نقرأه في التاريخ الرسمي. كما تعلمين معظم التأريخ لدينا سياسي. نحن لا نستطيع العودة إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس وقتذاك، إلا من خلال تلك السير تقريباً. هي سيرٌ فقدت في بعض الأحيان، أو طمست أو همّشت. كتاباتي حول هذا الأمر جزءٌ منها أدبي والجزء الآخر محاولة لاستكشاف طبيعة الحياة اليومية في بلادنا في تلك الفترة.
"تلك الفترة"؟ يبدو لي أن غالبية هذه السير واليوميات والمدوّنات تعود لفترة واحدة : النصف الأوّل من القرن العشرين. كما لو أنك تحرّر سير وحياوات الجيل الذي سبقك، أقصد جيل أهلك. أهو الحنين؟
صحيح، هي تقريباً كلّها تدور في فلك ذاك الوقت. لكنها ليست سيراً رومانسية. لا، ليس الحنين هو المنحى الرئيس في ذهني. أكيد ثمة حنين قويّ في هذه المذكرات. لكن اليوميات مختلفة، يكتبها الناس تحت وطأة الإحساس اليومي، ولا مجال فيها للحنين. لو أخذنا مذكرات الترجمان مثلاً، لوجدناه يشتم مصيره، يشتم أهله، يشتم السلطة، يشتم الحرب بسبب ما فعلته به، إذ فرّقته عن حبيبته. كان الترجمان راغباً في حياة عادية، بيد أن الحرب والاستبداد أدّيا إلى إصابته ببؤسٍ شديد، راح يدوّنه يوميّاً. من خلال هذا البؤس نستطيع مشاهدة طبيعة الحياة في زمن الحرب. وهذا مفصل تاريخي مهم جدّاً، لأسباب عدة منها؛ أن الناس بدأت في التفكير بمستقبلها بطريقة جديدة، وأنهم صاروا يفكّرون في العلاقات الاجتماعية بطريقة غير مسبوقة.
في ذلك الحين فقدت المدن كثيراً من شبابها في الجبهة، وغدا المجتمع مجزءاً. إحدى ملاحظات الكاتب أن نساء كثيرات نتيجة للفقر وغياب المعيل، اضطررن إلى بيع أنفسهن في الشوارع. كان هذا بمثابة صدمة له، هنا لا حنين على الإطلاق.
لكن يوجد نوع ثانٍ يمثّله واصف جوهرية، فيه حنين من نوع غريب : حنين للعهد العثماني. لأنه يتذكّر حياةً طبيعيةً وافرةً وواعدةً، كان الناس فيها أكثر تضامناً في ما بينهم. خصوصاً بعد انتصار الثورة الدستورية على الاستبداد الحميدي لم يكن يوجد ذاك الصراع الدامي بين المستعمر وأهل البلد. لم يكن جوهرية يحاول وضع رؤية رومنطيقية، بل كان يصف بدقّة. متذكّراً القدس ويافا، أي المدن التي يألفها، وكيف كانت زاخرةً بثقافةٍ واعدة، لكن مبنية على نوع من التضامن الاجتماعي بين الناس. وهو ما فُقد بسبب الحرب، ثمّ تطوّر بشكلٍ مختلف كليّاً في فترة الانتداب.
كتاب المذكرات الجوهرية، الذي حاز على جائزة أخيراً، يعطي إيحاءً قويّاً بأن القدس كانت مدينة كوزموبوليتية؟
صحيحٌ تماماً، فالقدس التي سمّاها إدوارد سعيد مدينة الموت، إذ وجدها مليئة بالغمّ والنكد، كان فيها جانبٌ قويّ حيويّ، نجده في حبّ الحياة، وتلك التيّارات الموسيقية والثقافية، وأمور أخرى لم تعد الناس تعرفها بعد الاحتلال. كانت الناس تظنّ أن حداثة فلسطين بدأت مع الاستعمار البريطاني، وأن الفترة قبله كانت فترة طغيان واستبداد وطائفية. وهذا غير صحيح، كما نلمسه من خلال قراءة هذه المذكرات.
القدس حيث مقرّ معهد الدراسات المقدسيّة الذي تديره، وينشر دوريتين ؛ حوليات القدس و Jerusalem Quarterly؟
لا المقرّ اليوم في رام الله، أنشئت المؤسسة في القدس عام 1995، هو فرعٌ لمؤسسة الدراسات الفلسطينية. لكن الحكومة الإسرائيلية طردتنا، أغلقت المكتب. بعد وصول شارون ونتنياهو إلى الحكم، بدأت هجمة، ضد الوجود الثقافي الفلسطيني في القدس، هجمة لا تهدف فقط إلى إخلاء القدس من مراكزها الثقافية، بل إلى إخلائها من سكّانها. هكذا انتقلنا نحن ومجموعة كبيرة من المؤسسات الثقافية إلى رام الله. ثم انتهى دوري في إدارة المؤسسة وبقيت أعمل فيها كباحث.