إن كان الروائيّ السوريّ سليم بركات قد افتتح مجموعته الشعرية "سوريّا"، التي صدرت العام الماضي، بدفاعه عن ترك الضبط، قائلاً: "لا تسألوني الضَّبْطَ مُتقَناً كالرَّبْط مُتقَناً بعد الآن. الأعالي مُخبَّلةٌ مزَّقتْ صُدْرَتها، والأسافلُ مُخَبَّلة كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتَجى بعد الآن. ركبتاي خارتا والسماءُ خارت". كذلك فعل في روايته التي تصدر بعد أيام قليلة، عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، تحت عنوان "سبايا سنجار" والتي يتناول فيها سيرة الذبح والسبي في سورية تاركاً سرده شظايا.
يستحضر بركات اسم الشاعر الأرمنيّ سايات نوفا (1722- 1795)، ولكنه يحوّر اسمه بفعل تداول أوراق الهجرة في السويد، ثم يبني العمل على هذه الشخصية المحوريّة، شخصية الرسام "سارات"، الذي يستعين بمعتقدات الفقه الأيزيدي، حول "الحلول والتناسخ" في جلب خمس فتياتٍ أيزيديات سبايا: "شاهيكا، آنيشا، نيناس، كيديما، يادا" ومقاتلي فقه السبيّ في تنظيم داعش: عدنان، إحسان، علي، سعدون" إلى مكان إقامته في السويد.
لا حكاية متماسكة في هذا العمل؛ حيث الموقف السياسيّ يتدخل بين الحكايات التي تنفتح على سارات مستيقظاً من نومه. وبخيال الصدفة يلمح على جسده لوحات تتكرر كل يوم. لوحات لرسامين من الشمال يلحظها على جسده أمام المرآة صباحاً، لوحات لـ وليام أدولف بوغرو، تيتيان، وإدوارد مونش، جاك – لوي ديفيد، هيرونيموس بوش، بول سيزان، دوروثيا تاننغ، ماكس إرنست، كارافاجيو المولع بالرؤوس المقطوعة، وغويا.
العمل الثالث والعشرون في مسيرة بركات الروائيّة، والثاني في أقل من عام بعد "أقاليم الجنّ" ما هو إلّا اختصار يسخر فيه بركات من الموت بحوارات فَكهةٍ، مرةً، لاعقلانيّة مرّات كثيرة، حيث يجلب شخوصه إلى حيث بحيرة "أودن" في السويد عند مشغله للرسم؛ الضحايا والجلادون يطلبون من سارات رسمهم في لوحةٍ كانوا أملوا عليه اسمها "سبايا سنجار".
يسخر بركات ويُمهزل الجد بحوارات متقطعة الأفكار، وتلاعب في المضمون، لا فكرة مكتملة، لا فكرة دون سخرية:
- "أنتَ لم تلتقط الظلَّ التابع، للظل الأصل في لوحتك" تنتقد زوجته السابقة "ناتالي" رسومه.
- ما الظل التابع؟
- لا أعرف، ردت ضاحكة.
- ماذا أفعل لأظهر لك ما لا تعرفين؟
وفي حوار آخر
نادت "ناتالي": ما عطرك اليوم؟
- فساء الخنافس.
لا تقف السخرية في حواراته، إذ يمدّها إلى أساليب القتل، السابون أبداً مقتولون من رفاق لهم في "تنظيم الدولة"، أحدهم يرى الخليفة البغدادي بصورة الديك، فيُعدم بعد وشايةٍ لأن قاضي التنظيم يرى في صورة الديكِ المزبلةَ والفحولةَ، آخر تمنّى من فرط مدح البغدادي أن يكون زوجه، فقُتل بتهمة "اللواط"، وواحد "حشّاش" يحاول استبدال الأسماء في السويد بأسماء أخرى حلال، ويجتهد ليحكم على كل دابة، ركوبة، ومركبة حملت انتحارياً بأنها شهيدة، مثل طائرات الهجوم على مركز التجارة.
متنقلاً بين الأساطير اليونانية والآيزيدية، والإسلاميّة، والموزعة على الأعراق: كرديّة وعربية وفارسية تظهر فجأة أوصاف من مثل "سليل راسبوتين القيصر الروسي المتحصن بفنون الجودو والكراتيه" بوتين، و"بمعاول الوليّ الإيرانيّ"، "معاول الأميركيّ الشؤم" "معاول رجب أردوغان". في هذه اللحظات ينفلت السرد من يدهِ، مضطراً. حيث "محنة بلدي أدارت يقيني هذا على نفسه، وقلّبت كرسيه عليه" يقول على لسان سارات.
في سنجار هناك "السبعة الآلهة أنجزت كل شيء خلقاً ورسماً ونحتاً"، وسنجار هذا - حيث "الكُرد الأيزيديون يقسمون به"- هو المرفأ الأول لسفينة نوح في الطوفان التي لامست صخره قبل إكمال جريها في المياه إلى جبل "الجودي" لترسو عليه رسوها الأبديّ. "الأيزيديون يقسمون بجبل الجودي أيضاً".
يشحذ بركات هنا سكاكينه في جسد المصطحات، الإرهاب الذي لا حدود له، كما كيلو غرام "شايلوك" الذي أراده من جسد مَدينه، دون نقصان غرام أو زيادة، كذا الإرهاب خشية مصطنعة أن يقطعوا عظماً أو غضروفاً زيادة أو نقصاً "بالسكاكين الرهيفة للسياسات". كذا يمرر السكاكين على الرمز، الأسطورة، واللوحات، والألوان، كالبرتقالي الذي يرتديه المحكومون بالموت عند "تنظيم الدولة".
رموز تمتد على طول العمل، رمز العدد الأربعين في سياق سرده عن عمره الذي وصله؛ أربعون سنة بعثة محمد النبيّ، أربعون مثلها كان تيه بني إسرائيل، ومثلها لكتابة التوراة، أربعون يوماً على قطع رأس الحسين أعيدت الرأس من دمشق إلى العراق، أما الزمن فهو "عيادةً مكتظة بمرضى التاريخ وأمراضهم".
يستحضر المجازر والاعتقال والتهجير واللجوء في حواره مع صيّاد خالف القوانين مرة وأطلق النار على هرّة في السويد فخاف أن يتصل أحدهم بشرطة النجدة. "بعد أكثر من ثلاثمائة ألف قتيل حتى يومي أيها الصياد، ومئات الآلاف من السجناء والمفقودين، وملايين النازحين واللاجئين هرباً من المجازر، في بلدي، لم يتصل أحد بشرطة النجدة".
مناظرات سياسية متخيّلة مع فقه "تنظيم الدولة"، يقودها بركات على طول العمل، لكن دون نتيجة، أو خلاصة أو حتى حكم قيمةٍ، غير فكاهةٍ تخرج من حنجرةٍ مشقوقة، ومدوّر الحوارات أبداً الرسام سارات الذي ومنذ "نكبة الأيزيديين الكُرد في جبل سنجار، جمع خياله على تسديد الضرورة عنيفةً إلى رسم ذاك الجبل".
يروي طرق "جنود الخلافة" في تعاطي المخدرات، الذبح، وشرائعهم في العراق وسورية، الداعية إحسان الذي أتى الرسام ليرسمه بشعر وهو الأصلع، يريد رسمه بعباءة فيختار له الرسام عباءة "فيرجل"، وستة كلاب بيد انتحاري كانت رفيقة السرد منذ البداية وحتى النهاية.
بعد قراءة الرواية نعود إلى تأمل تكثيفها في الكلمة المكتوبة على غلاف الكتاب الخلفي: "سبيُ الأيزيديات في "سنجار"، بيعُهنّ، مصائرهنّ، المذاهب المتناحرة، شرائع القتل، الأمكنة التائهة المُنتهكة، انتحار الشعوب: هذه الرواية سيلٌ، لا تُختصرُ وقائعها الجارية بين ضفّتي الجغرافيا المتوحشة للقرن الحادي والعشرين".