سلطة الانقلاب في مصر
كتبت مجموعة مقالات عن طبيعة العلاقة الفرعونية، في إطار الكشف عن مفهوم يجب التوقف عنده وعليه، وذلك في سياق الكشف عن مساحات وساحات "الدولة - الفرعون" أو "السلطة ـ الفرعون"، وبدا لي، بعد مظاهر وظواهر عدة، وسياسات وشواهد وقرارات فجة، أن أكتب عن ممارساتٍ، صارت، مع مرور الأيام، مستقرة، لكنها في الوقت نفسه مستفزة، تشكل إرهاصاً لاستراتيجيات مستمرة في حقبة ما بعد الانقلاب، ما يؤشر إلى عمل متعمد، وإصرار وترصد، لقتل كل مساحات استقلالية الدين، من خلال طبعة تمارسها عموم الأمة في المجالين العام والخاص، إلا أن المسَيس طَرق هذه المساحات بشدة وبعنف، حتى أنها اتخذت أشكالاً، ليس فقط التأميم، وإنما امتدت إلى ممارسات الاحتلال والاحتيال، الاغتصاب والاغتيال، الهيمنة وفرض القيود والأغلال.
ومن ثم كانت مقالتى التى عنونتها "سلطة الانقلاب: ماعلمت لكم من إله غيرى"، ووفق منطق وشعار رفعته السلطات الفرعونية، ومنها السلطات الانقلابية المستبدة، "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، وفي كل مرة ستخرج علينا هذه السلطات تسويغاً لاستبدادها، وتمريراً لطغيانها، وتزويراً على تابعيها، وتزييفاً لعقولهم ووعيهم، إن ما تراه ليس إلا طريقتكم المثلى،"ويذهبا بطريقتكم المثلى"، على الرغم من أنها، في حقيقة الأمر، ليست إلا استيلاء على حريتهم، واستعباداً لمسار حركتهم، وشلّاً لطاقات فعلهم وفاعلياتهم. إن هؤلاء الذين لا يجعلون الدين والرسالة مساحاتٍ تخص السلطة يهددون هذا الحياض، ومن ثم، هم يفرضون فيها قواعد ممنوع الاقتراب والتصوير، وإلا كانت المطاردات والاعتقالات بل والإعدامات "يخرجانكم من أرضكم"، ياالله ماهذا الكم من التدليس والتلبيس، واستنفار عموم الناس، ليتخذوا صف السلطة المستبدة، وما كان الدين إلا لاستقلال النفوس، وعدم تبعيتهم لكل ما من شأنه استعباد الناس ومحاولات الاستبداد بحريتهم، إلا أنه فى خطابه يدلس، ويصنّع المخاطر، ويولد غرائز الخوف بالتخويف والترويع، من طريقة مثلى ستذهب، وإخراج من الأرض سيحدث، وتفادي حربٍ أهلية ستنشب، وتحقيق الأمن القومي الذي انفكت عراه وتبدد، وإلا سنصير مثل بلادٍ تسودها الفوضى، ويعم فيها الخوف وعدم الأمن والاستقرار.
في غمرة تلك التلبيسات، أغفل كثيرون أو كانوا من الغافلين فعلاً، والمغفلين عملاً، وفي بيئةٍ، سادت فيها سمات النفاق لأهل السلطة والسلطان من الغاصبين والمستبدين، وتحركت كل نوازع القابلية من عدم مبالاة وجهل وغفلة وتزيين وتلبيس وتدليس وغش وتزوير وخطاب الزور، وما تنتجه مصانع الكذب، وتزييف وقلب الحقائق، وغسل الأمخاخ والعقول، تناسى هذا الوسط الذى لا يصنع سوى الرضا الكاذب الشعار التي تحمله سلطة الانقلاب الفرعونية "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، إنه هو الذي يرى ويشكل الرأي والرؤية والإدراك والموقف والاتجاه والحكم والسلوك جملة. إن ما يقوله هو عين الرشاد والسبيل إليه، وضمن عقلية التعبئة المشكلة لعقلية القطيع، وتشكيل الرضا الكاذب "استخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين"، ومن ثم كان من المهم فضح وكشف المستور والغطاء عن الرشد المزعوم، وهو أشبه بزيف التعبئة المدعوم، ونقول بأعلى صوت مع كتاب رب العالمين "وما أمر فرعون برشيد".
في بلادنا، توالى علينا المستبدون المتفرعنون، والملأ المزينون المطبلون الزمارون والراقصون، والقوم المتبعون الفاسقون، في أنموذج واضح للعيان، وجريمة متكررة متكاملة الأركان، تعبد المصريين لنظام الحكم ومن على رأسه. لسان حالهم، واليوم لسان حالهم وإعلامهم وخطابهم السياسي، يقول، ما علمت لكم من إله غيري، ما أريكم إلا ما أرى، أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي... إلخ. ما هنالك من بينات الكبر، إنكار الحق، والتعالى على الخلق. وهو، في النهاية، قد يُبَلِغ وبدون مواربة "فحشر فنادى، وقال، أنا ربكم الأعلى".
علم (الغيب)، تحديد (الأجل)، تقدير (الرزق)، تحقيق (النصر)، هذه الأربعة بضاعة محتكرة مختصة بالله عز وجل، ومع هذا، فكثيراً ما يدّعي المتكبرون المستخفون بالناس أن لهم فيها نصيباً، ويعتقد المغفلون والمستخف بهم، ويجعلون لما لا يعلمون منها نصيباً. متاهة وسفاهة طال بها التاريخ، وشهد بها الواقع، ولابد من الخروج منها.
الاجتراء على مقام الألوهية والوحدانية بالقول والعمل، والافتراء على حياض الإنسانية بالاستهانة والإهانة، نراه واضحاً في خطاب المؤسسات الأمنية التي تريد زراعة الخوف والتخويف فى روع الناس، فلا يتكلمون خوفاً من ادعاء المؤسسات الأمنية علم الغيب لكل إنسان، وكل مواطن بالتجسس عليه، وعلى كلماته ومكالماته والتلصص على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، والترصد والتوعد على كل حركاته وهمساته وسكناته. إنه ادعاء علم الغيب عن كل أحد، إنهم يرقبون ما توسوس له نفسه، وما تخفي الصدور، وها هم يدعون تحديد الأجل، فهذا إعدام، وذلك عقابه القنص والقتل عند التظاهر والاحتجاج، ولسان حاله يقول "أنا أحيى وأميت". وكذلك فهم يلوحون بالتهديد والوعيد والويل والثبور لكل من تسول له نفسه بالاعتراض، أو الاحتجاج، فيقولون له نحن من نحدد الأرزاق والأقوات، إدعاء وافتراء، يمكننا أن نفصلك من عملك، أو من كليتك، ونهدد مستقبلك، وليس من حقك أن تلتحق بأي كلية أخرى على أرض مصر، وإلى الأبد، يا بني أنت مطرود من جنتهم وجنانهم الزائفة، نحن نقطع رزقك هكذا يقولون ويخوفون.
وهم يقولون من خلال صناديق إفكهم وكذبهم أنهم المنصورون بسلطانهم الغاشم والباطش يزينون سوء عملهم، من انضوى تحت لوائهم، وصار عبداً وسلماً لمصالحهم، وأغراضهم انتصر، إنهم يوزعون النصر زوراً وبهتاناً على من ارتكن لظلمهم، وكيف يكون العبد منتصراً أو منصوراً، إن هم كالأنعام بل هم أضل، نصرهم الزائف يجد بيئته القابلة في عقلية القطيع وصناعة العبيد.
ففي باب علم الغيب، يحاول الطاغية ومنظومته أن يوعز للناس أنه يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم السر وأخفى، وأنه معهم بعيونه وآذانه وأنوفه، حيثما كانوا، أنه يعلم السرائر وما تضمر الضمائر، يرى من وراء الحجب الحركات والإشارات، ويسمع الهمسات وما يتناجى به الناس، بل دبيب النمل، وشم روائح النيات والغايات، ولا تخفى عليه خافية.. صفات الرب التي لا يشاركه فيها أحد.
ويحرص الطاغية النمرودي على إيهام الناس أنه (يحيي ويميت)، بل (يبدئ ويعيد)، يملك أن يقتل بلا عقاب ولا حساب وبلا عتاب، ويحكم على من شاء بالإعدام بلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، أنه، وحاشا لله، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد بخلق الله. ينشر بذلك ثقافة الخوف، ويقيم مملكة الرعب. صناعة الإرهاب والإرعاب تتحرك في عقائد الناس وتصوراتهم عن السلطة، "فالسلطان ليس إلا في خيالك"، كما يقول الشاعر تميم البرغوثى. المتألهون يستعملون العذاب والتعذيب، ليقولوا للناس من أشد منا قوة؟ وفرعون يقول لمعارضيه ورافضيه، ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى. ويتوعد بتقطيع الأيدي والأرجل والتصليب في جذوع النخل، وزبانية العصر يعرضون مشاهد التعذيب والتنكيل والانتهاك والاستباحة، ويحرصون على تسريب أخبار عنها، كي يذيعوا في الناس، ويرسخوا في النفوس، أنهم على كل شيء قادرون. وأنهم هم المعذبون، ولكن، هيهات هيهات.
يا زاهق الأرواح بطشاً، وقاتل النفوس ظلماً ليس هذا نهاية الأجل، بل إن من قتلت أو قنصت أو خنقت أو حرقت هم من الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. يا من تقول "أنا أحيي وأميت"، فإن موت عزة وشرف شهادة لي وشهود، وحياة ذل في كنفكم الانقلابي موت محقق بلا حدود، ماذا عن حياتهم هم ومماتهم؟ حياتهم خوف وارتجاف من الشعوب، حياة سجين حبيس حراسه مرعوب، حياة أقرب إلى الموت؛ لأنهم ميتو الأحياء: لا يتنفسون إلا من وراء الأبواب، ولا يرون الحياة إلا من وراء حجاب، ثم يموتون بين ميتة الفظاعة والشناعة، أو ميتة الإهمال والنسيان، أو ميتة العذاب والمعاناة ومقاساة الأمراض. بعضهم يموت غريقاً في شربة ماء، وبعضهم تقتله بعوضة لا تكاد ترى، وبعضهم يموت مهزوماً منكسراً، وبعضهم يموت بعيداً نسياً منسياً، ولا يتعظون.
يا مانع الأرزاق زوراً، وقاطع الطريق من معاني اللصوصية، تحكماً بالنعمة وموزعاً للنقمة على معارضيك، ليس هذا تحديداً للأرزاق، فمن كان في غنى عنكم، فقد أصاب خيراً كثيراً، رزقي عند ربي، وما عندكم ليس سبباً لعزي، ولن يكون مدخلاً لإذلالي وذلي، ما عندكم ليس موطن حرصي، ليكون موضع عزتي وذلي.
يا مدّعى علم الغيب ودبيب النمل، ومعرفة ما تحدث به نفسك، وما تخفي الصدور، إنك لست إلا متلصصاً على خلق الله، متجسساً متتبعاً عوراتهم، وتسمى ذلك علم غيب، إن كنت تعلم، أو لا تعلم، فإن ذلك من سوء الأدب والأرب، تتباهى علينا بتجسسك على مكالمات لنا، أو تتلصص على قول هناك أو هنا، أو تستطيل علينا بكلمة تتصيدها أو تسجيلٍ تدلس به وتشهر، خسئت، فإن هذا ليس إلا فعل الخسيس، أفعل الخسة تصفه بأنه علم الغيب، الحق والحق أقول إن هذا ليس إلا جهل القيمة، إنه علم الجهل والجهال، أفٍ لكم .."ألا ساء ماتحكمون". ما أكذب سلطة الانقلاب حينما تسمى الركون والارتكان لظلمهم نصراً، "وما النصر إلا من عند الله".
يحاول كل نظام مستبد مستخف بالناس أن يصور لهم أنه يعلم ويقدر ويهزم وينصر ويعطي ويمنع ويحيى ويميت، حتى لا يحيي الناس إلا بالقابلية لاستبداده واستعباده، ونحن لا نعلم فرعون إلهاً، بل نعلم إلهاً غيره، لا إله غيره... لا إله إلا الله، حتى إذا حشر ونادى "وقال أنا ربكم الأعلى".