سلاسل بويا عمر

23 مايو 2015
+ الخط -
قالها وزير الصحة المغربي، حينما بدا له أن أكثر من جهة في أتم حيويتها المخربة، إدارية، دينية، ريعية وسياسية، تمسك بسلاسل بويا عمر، الميت منذ قرون؛ والذي لم يقل يوماً إنه المسيح الطبيب الذي يحمل أوزار المغرب المختل عقليا.

سلاسل تُكبلنا جميعا، مرضى وأصحاء، منذ عشرات السنين، إن لم يكن المئات. لو كانت مجرد سلاسل تحيط فقط بمعاصم وأرساغ لهانت؛ ولانتهى الأمر، كما بدأ، بمفاتيح؛ لكنها سلاسل تفضي إلى أغلال، اخترنا أن نكبل بها عقولنا، على الرغم من أنها خُلقت طَلْقة كالهواء، وما طُليت بالمادة الرمادية، إلا لمحاربة التأكسد والصدأ.

في هذا الركح السريالي المجنون، تتوالى يوميا حلقات مسرحية مغربية، ضاربة في القدم؛ اتسعت خشبتها حتى صارت بمساحة قرية كبيرة، وفُتح مجال التمثيل فيها للجميع؛ حتى صارت الحياة كلها مسرحا والمسرح حياة. الوحيد الذي انتهت جميع أدواره بانتهاء وجوده هو بويا عمر.

تبدأ كل شظايا المسرحية عبر كل التراب الوطني، على نمط واحد، رفض الأسر أن يعيش بينها فرد من أفرادها لا يقاسمها عقلها الذي تعتقد أنه سليم معافى. قبل أن تفكر في العلاج النفسي الذي يرتاب مجتمعنا في أمره، ويسعى إلى تحصين سمعته، وليس صحته، منه، تتوالى عليها العروض والفتاوى لتسلك سبل أولياء الله الصالحين خصوصاً، ومنهم من مشى فوق الماء، وطار في السماء، وعرج على أكثر من مقام ومسجد، عبر المعمور، في يوم واحد، أو حتى صلاة واحدة.

هنا يحمر وجه المجتمع، يتقد حماساً، يشجع ولا يتهم، مهما كانت الوصفة، حتى ولو كانت سلسلة في رسغ شاب، تربطه حقيقة ومجازا بهيكل عظمي نخر. سلسلة بحلقات تبيض ذهباً، حتى صارت من ذهب خالص، قد يصل ثمن التكبيل، ليوم واحد، إلى سبعمائة درهم، تدفعها الأسر صاغرة، لترضي هذا المجتمع المسلسل الذهن، الذي يلصق ببعض موتاه كل الاختصاصات الطبية النفسية والبدنية التي استنبتتها المجتمعات العقلانية الحداثية قروناً.

ونظل نقسم، لمن لا يصدق، أو لمن يخطط ألا يصدق، أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

تتوالى مجلدات القاموس السحري، العفاريتي، الموغل في التخلف، والموغل في الإغراء، حد التباهي بطب الموتى، في مقابل معجم الطب النفسي الذي لا يقربه أحد نهاراً جهاراً، كأنه الإفطار في رمضان.

وتسرح بك هذه المجلدات، وتأخذك كل مأخذ، وإن غابت، ورقاً، فهي حاضرة في صدور الرجال والنساء كالقرآن الكريم.

في الحافلات، في القطارات، وحتى في الطائرات التي ترهن، بالتقنية العالمة، الحياة بين السماء والأرض، ساعات، توجد مدافن لموتانا الصالحين، وهم بمقدرة المحركات النفاثة؛ وإن شئت حتى المقنبلات المدمرة.

حتى حصون الأخلاق تدك، بمباركة من عقلنا الساحر؛ في "مصحات" التداوي بالموت، وذكرى الميت، ولو بجسد من تراب؛ وإليكم المثال، حسب ما رواه مستمع للإذاعة الوطنية، وهي تقارب، زوال الخميس 21 مايو/أيار، موضوع "بوياعمر": 

فتاة في مقتبل العمر، بها "مس"، يسلمها ذووها إلى مصيرها المأساوي في "غمارة" ضريح سيدي إدريس القاضي في وجدة. من بؤس مصيرها، يتصادف وجود معتوه في زاوية مظلمة من المكان نفسه، وللغرض نفسه، التداوي ببركة القاضي.

يتفرق الجميع، جميع العقلاء طبعا، ليفضي العريس، ليلا، إلى عروسه القادمة من حمقنا، لا حمق يصيب الباه، لأنه أحمق أصلا. من بارك هذا الاغتصاب؟ أكيد أن القاضي بريء هنا.
انها الحياة المسرح، في ضريح بويا عمر، وقد قطعنا من الألفية الميلادية الثالثة المسافة نفسها الضئيلة التي تفصلنا عن أوروبا، حياة سكتت فيها كل الحكومات المتعاقبة، وكل المنتخبين، وأغلب الإعلام والأقلام، على ريع اشتط غرابة، من أي زاوية نظرت إليه، مليارات الدراهم تدفعها الأسر، منذ عشرات السنين، عن مرضى لا يشفون، لأطباء غير آدميين.

ومن أغرب ما استمعت إليه في شريط خصص للظاهرة كون التصفيد بالسلاسل، مدداً محددة، تصدر به أحكام قضائية؛ ومن هنا، بدا لي أن وزارة العدل والحريات معنية، أيضاً، ببويا عمر، وليس وزارة الصحة فقط. 

شاء العقل المريض، وهو يتوهم السواء، أن يختار أغرب السبل لمداواة عقل استفحل مرضه، أن يُنصب "بويا عمر" قاضياً شرسا على الجن. إنه أشد وطأة من سيدي إدريس القاضي، 
تفوق عملية "كرامة" جهود وزارة واحدة، لأنها تشتغل على ظاهرة مجتمعية، ذات أبعاد متعددة، أكثر مما تشتغل على أصفاد يجب أن تقطع، ودواء يجب أن يقدم للمرضى. ومن هنا وجوب تحويلها إلى ورش، تلتقي فيه جهود الدولة، المثقفون، فعاليات المجتمع المدني، وجهود كل المواطنين.

إنها معركة الكرامة، معركة الجميع ضد التخلف والجهل. لا شيء يعدل كرامة الإنسان، ولا كرامة لإنسان مصفد، يستباح جسده كيفما اتفق، وأسرته راضية حتى بدفع مقابل. ويجب أن يتسع ورش الكرامة ليشمل كل أماكن الزيف والخرف، وكل هؤلاء المرضى والمشردون الذين يجوبون خريطة الوطن؛ خارج حمايته ومستشفياته، وخارج عقولهم التي كرمهم بها الله، إن غابت عقولهم، فعقل المجتمع حاضر أبداً.

لا أحد يمكنه أن يعترض على رفع هذه المبادرة، من وزارة الصحة مشكورة، إلى مستوى "المبادرة الوطنية لحفظ الكرامة"؛ ولو تطلب الأمر تشريع ضريبة جديدة، شريطة قطع دابر كل علاج أخرق، وكل تشرد مؤلم لنا جميعا.
  
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)