تستمر تركيا، بعد التعافي الاقتصادي، في توجهها نحو خفض سعر الفائدة، ليبلغ 5 مرات خلال نحو 6 شهور فقط، منذ إعفاء محافظ المصرف المركزي، مراد تشتين قايا، من منصبه في يوليو/تموز العام الماضي، والذي رفض مراراً ضغوط الرئيس رجب طيب أردوغان، مبرراً أن سعر الفائدة المرتفع يشجع على الإيداعات المصرفية وبالتالي امتصاص جزء من فائض العملة التركية من الأسواق، ما يؤدي، وفق رأي المحافظ السابق، إلى تحسّن سعر الصرف.
في حين كان يرى أردوغان واقتصاديون أتراك، أن العكس هو الصحيح، فتخفيض سعر الفائدة سيؤدي إلى خروج الأموال من خزائن المصارف إلى الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والخدمية، فيتحسن الأداء الاقتصادي ويزيد دوران عجلته، فضلاً عن التشجيع على الإقراض وتحفيز الطلب، ما يعني دفع الاقتصاد إلى النمو وبالتالي تحسّن سعر الصرف. لذا، تم تعيين مراد أويصال، أحد دعاة هذا التوجه، محافظاً للمركزي.
استمرار التخفيض
بعد أقل من شهر على تخفيض سعر الفائدة بواقع 200 نقطة، فاجأ المصرف المركزي التركي الجميع قبل أيام، بخفض سعر الفائدة 75 نقطة، على عمليات إعادة الشراء "الريبو"، ليتراجع سعر الفائدة وخلال ستة أشهر، من 24% إلى 11.25%.
وبدأت رحلة تخفيض سعر الفائدة المصرفية في تركيا، والتي كانت توصف بالمرتفعة جداً، بعد أيام من إقالة المحافظ السابق. ففي 26 يوليو/تموز الماضي، تم أول تخفيض وبنسبة كبيرة، من 24% إلى 19.75%، بعد تثبيتها لأكثر من عام. وهي خطوة رآها مراقبون بالون اختبار للسوق والمدخرين، ليرسم بعدها المركزي، بإدارته الجديدة، سياسته النقدية المتشددة تجاه سعر الفائدة المرتفع.
وعلى عكس ما كان يشيع المحافظ السابق واقتصاديون أتراك، تراجع سعر صرف الليرة، وصحت نظرية الطرف الذي يقوده أردوغان.
ولم يتأخر المركزي التركي في تكرار الاختبار للسوق، فخفض في 12 سبتمبر/أيلول الماضي سعر الفائدة إلى 16.75%، ونجحت التجربة، أو ما يصفها البعض المجازفة، للمرة الثانية، ولم تتأثر الليرة انخفاضاً، بل على العكس، بدأت تظهر آثار خروج الأموال من المصارف، خاصة على قطاعي الزراعة والصناعة، اللذين تستهدفهما تركيا.
ثم تجرّأ المصرف المركزي وتابع سياسة التخفيض في 24 أكتوبر/تشرين الأول إلى 14% ومن ثم في 12 ديسمبر/كانون الأول إلى 12%، ليستمر الخميس الماضي، وللمرة الخامسة خلال نصف عام، ويخفض سعر الفائدة إلى 11.75%.
وفي هذا السياق، يقول أستاذ المالية في جامعة باشاك شهير التركية، فراس شعبو، لـ"العربي الجديد": "كان تخفيض أسعار الفائدة الأخير متوقعاً، لأن السياسة النقدية اتخذت قرارا بالتخفيض حتى يصل إلى سعر فائدة أقل من 10% وربما إلى 7% العام المقبل"، لكنه أوضح أن التخفيض الماضي 75 نقطة كان أقل من التخفيضات السابقة، ما يعني أن صنّاع السياسة النقدية بدأوا بالتعاطي الحذر مع سعر الفائدة.
وأضاف شعبو: قد نرى تخفيضات إضافية في الأشهر المقبلة، ولكن أيضاً بنسب بسيطة، لأن العتبة الآن خطرة وربما تؤثر على سعر الصرف.
وحول أثر تخفيض سعر الفائدة بأكثر من 100% خلال ستة أشهر على الإيداعات المصرفية، يؤكد أستاذ الاقتصاد أن معظم الإيداعات ستخرج من المصارف بحثا عن فرصة للاستثمار من دون مخاطر، إلى السوق التركية والقطاعات التي تحقق عائدا وربحا أعلى من سعر الفائدة.
وشدّد على أن تكون الحكومة حذرة من أن تذهب الإيداعات خارج البلاد، مطالبا بالبحث عن طرق تحفيز ومنح تسهيلات للاستثمار الداخلي، وأن تترافق السياسة النقدية مع السياستين المالية والاقتصادية.
زيادة النمو
سجلت العملة التركية، أمس، نحو 5.89 ليرات مقابل الدولار، كما حقق المؤشر الرئيسي لبورصة إسطنبول تحسنا ملحوظا خلال الفترة الأخيرة، خاصة عقب خفض سعر الفائدة.
وقال تقرير للمصرف المركزي بعد تخفيض سعر الفائدة الأخير، إن تقلبات سعر صرف العملات الأجنبية أمام الليرة في البلاد انخفضت مع تراجع أسعار الفائدة بشكل ملحوظ، مشدداً على أن النظام المصرفي يحافظ على مرونته ضد المخاطر، بفضل قوة رأس المال وبنية السيولة.
وحسب مراقبين، انطلق المصرف المركزي، بتقريره وتفاؤله، من الواقع النقدي التركي، الذي تجلّى بعد سلسلة تخفيض أسعار الفائدة، سواء من خلال سعر الصرف أو أداء السوق المالية واستقرار أسعار السلع والمنتجات. وكان سعر الفائدة المرتفع قلل الحوافز أمام توجه المستثمرين للاقتراض من البنوك لتمويل مشاريعهم، مما ساهم في المحصلة في تراجع جاذبية الاستثمار، وبالتالي تباطؤ النمو آنذاك.
وكان 52 خبيرا اقتصاديا عالميا استطلعت وكالة "رويترز" آراءهم، قد توقعوا قبل 3 أيام، انتعاش الاقتصاد التركي، وأن يحقق نموا بنسبة 3% خلال العام الحالي والعام المقبل. إلا أن هذا الانتعاش، يبقى دون الطموح التركي الذي حددته خلال العام الجاري والذي يليه، بنسبة نمو 5%.
وأشار متوسط توقعات الخبراء العالميين، إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.8% في عام 2020.
وفي هذا السياق، يقول مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في إسطنبول، محمد كامل ديميريل، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن رؤية الحكومة والخطة الاقتصادية استكملت بتخفيض سعر الفائدة ونسبة التضخم إلى أرقام الآحاد، تغير تعامل المركزي من سعر الفائدة المثبت خلال 2018 وحتى منتصف 2019 عند 24%، إلى نحو سلسلة تخفيضات بدءا من منتصف العام الماضي، كان آخرها الخميس الماضي، لتبلغ نسبة مقبولة اليوم 11.25%.
ويتوقع مدير مركز الأبحاث الاستراتيجية أن تشهد أرقام الربع الأول تحسناً بالنسبة للصادرات، بعد أن تراجع عجز الميزان التجاري خلال الربع الأخير من العام الماضي إلى 10%.
تحريك العقارات
ويعد قطاع العقارات من أكثر المستهدفين بخروج الأموال من المصارف، لأنه يشهد ركودا. وقدمت المصارف الحكومية تسهيلات لهذا القطاع عبر شراء العقار للأتراك، بمنحهم قروضا بفائدة شهرية 0.79 وتراكمية سنوية بنحو 9.45%، حسب ديميريل.
وتتعمد السياسة الاقتصادية التركية، بعد تعيين محافظ المصرف المركزي الجديد، مراد أويصال، تحفيز الطلب وتشجيع الإقراض ودفع الاقتصاد نحو النمو.
وحسب مراقبين، من المتوقع أن ينعكس تخفيض سعر الفائدة على زيادة الاقتراض، ما سيزيد من حركة البيع والشراء، وبالتالي تنشيط الاقتصاد وزيادة نسبة النمو.
وتركز تركيا على قطاع العقارات لأسباب كثيرة، منها أنه قطاع تحريضي، أثّر ركوده خلال العام الماضي سلباً على 730 سلعة تركية، بعد أن اعتمدته السياسات الاقتصادية كأحد الروافع لتحقيق الأهداف الاقتصادية بحلول عام 2023.
ووفق آخر بيان لهيئة الإحصاء التركية، ارتفعت مبيعات العقارات خلال العام الماضي بنسبة 14.7 بالمائة مقارنة بعام 2018، وارتفع عدد العقارات المباعة للأجانب من 40 ألفا خلال 2018 إلى 45 ألفا و967 خلال عام 2019.
ويرى مدير شركة "يارا غروب" للعقارات بمنطقة إسينيورت في إسطنبول، حسن محمد، أن قطاع العقارات بدأ ينتعش بنسبة قليلة منذ ستة أشهر بالتوازي مع تخفيض أسعار الفائدة، لكنه لم يزل يعاني من الجمود نوعاً ما، قياساً لحركة السوق النشطة عامي 2015 و2016 وقت أن كان رافعة حقيقية للاقتصاد ومحركاً للمهن والصناعات، على حد قوله.
ويضيف مدير الشركة العقارية أن الأجانب هم من يحرك القطاع أكثر من الأتراك، لأن الأسعار ورغم انخفاضها قياساً للدولار، لم تزل مرتفعة بالنسبة لليرة ولدخل الأتراك.
واعتبر أن منح الجنسية بناء على شراء عقارات بربع مليون دولار سبب مهم لإقبال الأجانب على الشراء.
وحول أسعار العقارات في إسطنبول، يقول محمد: تتفاوت الأسعار بين منطقة وأخرى، بل وضمن الحي الواحد، لكن متوسط الأسعار في مناطق بيلك دوز وإسينيورت مثلاً، بين 350 و400 ألف ليرة للشقة، وبين 450 و500 ألف في مناطق أخرى.
ويتوقع مزيداً من تحريك القطاع وزيادة الطلب بعد تخفيض الفائدة المصرفية، لأن الاستثمار في العقارات ورغم ما يلفّه من جمود، بات أكثر ربحاً من الإيداع المصرفي.