سقوط الوهم.. جدلية الحداثة وما بعد الحداثة
الحداثة فلسفة للحياة والتعبير، وفكرة ثورية تدعو إلى التغيير بمختلف الأشكال والمستويات، منطلقة من بديهية أن حركة الحضارة أساسها التغير المستمر، وأن الحضارات الراكدة فكرياً التي تعتمد الأفكار القديمة، من دون أن تطورها، محكومة بالأفول والزوال.
خاضت الحداثة واحدة من أقسى معاركها في الوطن العربي، فحتى جمود العقل الكاثوليكي في العصور الوسطى لم يحاربها، كما حوربت في المجتمع العربي، وعلى الرغم من ذلك الصراع الطويل والمبرر، فإن أفكار التطور والتنوير استطاعت أن تجد لها موطئ قدم عميق في الشعر والأدب العربي، خصوصاً في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، بينما ظلت مشوهة ومبتورة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وتم خلط الحداثة بمفاهيم ومصطلحات أخرى، كالماركسية والعلمانية والإلحاد والليبرالية والراديكالية.. إلخ. لذلك حوربت الحداثة، واعتبرت ترفاً فكرياً بعيداً عن الصراعات والتحديات التي كانت تخوضها المجتمعات العربية، في مرحلة الثورات العربية والتحرر من الاستعمار ومرحلة الصراع بين الأنظمة الثورية والغرب.
وهو أمر بديهي، فالأديب والشاعر أراد التعبير عن وجع الفرد العربي من حصار الدكتاتوريات الأوليغارشية العربية وحصار السلطة الغاشمة، فحركت تلك الأشعار والروايات الأدبية مشاعر الشباب العربي، وحركت وجعهم، وتماشت مع توقهم للحرية. لكن، في هذه المرة، لم تكن الحرية من المستعمر الأجنبي، كما فعلت أمواج التنوير العربي بدايات القرن العشرين، بل الحرية من قيود السلطات والحكام والأنظمة الشمولية. وهو ما نلمسه في أشعار وكتابات نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور والسياب والبياتي ونزار قباني وأحمد مطر وكتاباتهم.
سرعان ما تجاوزت أزمات المجتمع العربي أزمة الحريات الفكرية، وتناسلت إلى مجموعة من الأزمات والإشكاليات والتناقضات، فتولدت، مع نهايات العقود الأخيرة من القرن الماضي، أزمات الفقر والاستغلال والجهل والقهر وكبت الحريات …إلخ. وعليه، لم تعد السلطة السياسية العدو الوحيد لفكرة الحداثة، بل تشكلت قوى الأوليغارشية الدينية المعتمدة على الأفكار المتشددة والقوى السلفية، لتكون العدو الأشد ضراوة لفكرة الحداثة، خصوصاً أن تلك القوى وجدت صداها بين جماهير الفقر والجهل التي تزايد عددها مع نكبات السياسة العربية. وبالتالي، إزاء تلك الإحباطات، انهارت دعاوي المحدثين العرب، وتحولت أشعارهم وكتاباتهم التفاؤلية إلى جلد الذات والتعبير عن خيبات الأمل.
ومن هنا، نبعت الإشكالية التي مفادها: لماذا فشلت الحداثة في تغيير المجمع العربي؟ هل لأنها كما وصفها أدونيس، رائد الحداثة في الفكر العربي، بأن الحداثة في الفكر العربي مبنية على أوهام ومغالطات، حاول أن يفسرها ويحللها، كما حاولت خالدة سعيد، وكثير غيرهم، فسقطوا في هاوية الوهم قبل غيرهم، أم لأن المثقفين العرب تخبطوا في رومانسيتهم، ولم يختلطوا بالواقع العربي، لتثمر أفكارهم على أرض الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي، كما فعل رواد الحداثة الغربيون، أمثال ماكس ويبر ولوركا ونيرودا وسارتر وسيمون بوفوار ، إضافة إلى أجيال الحداثة المعاصرة، من أمثال ألواي أراغون، هنري لوفيفر، رومان ياكوبسون، وآخرين. فضلت الحداثة متطورة في الشعر والرواية، ولم تقدم أي حلول لأزمات الواقع، ولم تتحول إلى قوة للتغيير العلمي والاقتصادي والسياسي العربي.
أسئلة أخرى تثار، هل إن معظم المثقفين العرب خلطو مفهوم الحداثة مع مفاهيم أخرى، مثل التغيير والتجديد والثورة، أو ذهب بعضهم إلى إقران الحداثة بتجربة الغرب، فاشترطوا أن يتحول المجتمع العربي، بمثل تحول المجتمعات الغربية، ما أنتج تجارب مشوهة لفظتها المجتمعات العربية؟ الحداثة لا يمكن أن تنجح، وهي مستلبة من تجارب الغير، وبعيدة عن واقع مجمتعها، بل إن تنفيذ أي فكرة فلسفية رهين بتجربة البيئة، وقبول الأفراد لهذه الفكرة طوعاً، وانسجاماً معها.
وبناءً على ما سبق، كل الأسباب في أعلاه ساهمت في انهيار وهم الحداثة في الفكر العربي، وهو، فعلاً، لم يكن سوى وهم وسراب، ركضت وراءه جموع المثقفين والشباب العربي عقوداً طويلة، فلا أثمر، ولن يثمر، إلا تراثاً من القصائد والأدبيات والمنشورات الاجتماعية والفكرية، عندما نقلبها، اليوم، نتساءل كيف لهذه الإبداعات أن تصفر وتتلاشى، وبدل أن تخلق جيلاً من المتنورين خلقت جيلاً من العاطلين والمسحوقين واللاجئين والمشردين في الداخل والخارج.
انهارت الحداثة، وانهارت معها كل الأفكار التي اختلطت بها، وكل المشاريع السياسية والفلسفية التي نبعت منها، ولم يكن هذا السقوط بداية لبناء تطوري، بل هو بتر فرضي لحركة الفكر العربي وتطوره، وهو ما أدى إلى الفراغ في حركة التطور العربية في الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد.
اليوم، وصلنا إلى القرن العشرين الذي تجاوز فيه الغرب مفهوم الحداثة، ونقدها، وانطلق إلى فضاءات ما بعد الحداثة، أو ما بعد البنيوية، وهي ثورة فكرية، تعتمد على أن الإنسان مقياس كل شيء، وإن عقل الإنسان هو المتحكم بالمادة والكون، وبالتالي، تكون المعرفة أمراً نسبياً، ولا وجود للحقيقة الكلية كل شيء نسبي، وهو ما أثمر تلك الثورة الجديدة التي اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة في مجال العمارة ومجالات تكنولوجيا الاتصالات والفضاء، إضافة إلى الفن والفلسفة، في حين لاتزال السياسة في الغرب حبيسة الحداثة لأسباب بنيوية.
وبالتالي، نقدت ما بعد الحداثة الحداثة ذاتها، وتجاوزتها، بينما آمنت الحداثة بالهوية والوحدة والإلحاد، ارتبطت ما بعد الحضارة بالاختلافات والمنافسة والتشكيك، كما وتضمنت ما بعد الحداثة تطوراً مفصلياً مهماً، وهو إيمانها بأهمية الدين، وهو ما عبر عنه (جي إم ثومسون)، في مقاله في مجلة هيبرت، وجاء فيه "إن علة وجود مرحلة ما بعد الحداثة هي للهروب من ضعف أفق الحداثة بأن نكون مجدين في نقدها، بتوسيع نطاقها، لتشمل الدين، فضلا عن اللاهوت، وإلى الشعور الكاثوليكي". ومنه يمكن أن نفهم أن رواد ما بعد الحداثة حاولوا نقد الحداثة وإيجاد النموذج المعاكس لها، سواء في الفن أو الأدب أو العلوم.
شهد المجتمع الغربي تطورات ثورية على إثر ثورة ما بعد الحداثة. ولا تزال النقاشات الفكرية في تصاعد مستمر، لتثمر جملة من التغيرات في شكل المجتمع الغربي وعلاقاته، ولكن مرحلة مابعد الحداثة كانت ساحتها الأهم هي الثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال، إضافة إلى علوم الهندسة والطب والفضاء، وهو بخلاف الحداثة التي كانت ساحتها الأهم الفلسفة والأدب.
ويمكن القول ان هذا هو أحد الاسباب التي جعلتها بعيدة عن واقع التطور الفكري والحضاري العربي الذي لايزال يناقش الحداثة.
ولأن حركة الفكر هي بناء تراكمي، ولأننا في المجتمع العربي فشلنا في تحديث تجربتنا الفكرية والفلسفية واخترنا رجمها ووأدها بدل تفكيكها وتحليلها والاستفادة منها، انتهينا اليوم الى عصر التشدد والسلفية، وتحولت وأفرغت تجربتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية والادبية من محتواها، وبدل أن نصل الى ما بعد الحداثة كمنتجين، اخترنا دور المستهلك لسلع الحداثة وما بعد الحداثة المادية والفكرية، نشتريها جاهزة من تلك الكارتلات العملاقة التي حولت افكار النسبية والتفاعلية الى اجهزة ومعدّات وفن وأدب وأفلام وسوقتها للشرق المهترئ فكرياً، ليشتري أحدثها الاثرياء ويكتفي ببقاياها الفقراء.