سقوطاتنا الإنسانية

20 مايو 2016
+ الخط -
يبدو أن لا صور الأحمر ولا صور أجساد الأطفال المقطوعة، ولا صراخ الأمهات، ولا خراب مدن كاملة، ولا أجساد الهاربين طافيةً على سطح الماء أو غارقةً لتكون طعاما لحيوانات البحر، ولا برد العالقين، ولا عدد النازحين، قادر أن يُوقظ النائمين أو السابتينَ من سباتهم.
لا شيء مما سمعنا أو شاهدنا قادر أن يردمَ بئر إنسانيتنا ويجعلنا ننتصر لنا بوصفنا بشراً، ونعدمَ المسافة بينَ ما آمنا بهِ وما نراه حقيقة ماثلة أمامَ أعيننا وأعين قلوبنا.
منذ خمس سنوات، وسورية تقتل، تقتل بألف طريقة وشكل ولون، ونحن نلبس عارنا "الصمت" بكامل اللامبالاة. نزح النازحون، ولم نقل شيئاً، دمرت المدن، ولم نقل شيئا، قتل الأطفال، غرق الأطفال، قطع الأطفال، ولم نقل شيئاً.
"نتقاتل" فقط لنعطي للقاتل "شرعية" تسمح له بالاستمرار، حتى ما قلناه أو ما نفعله يبدو سخيفًا جدًا أمام كل هذا الموت الذي يُصر على أن يجد له، في كل لحظةٍ، شكلا، ليبتلع ما يبتلع ممّا لا ذنب لهم غير وجودهم في هذه الحياة، ليقتلوا مرتين، مرة بسلاح الظلم والاستبداد، ومرة بتوحشنا اللامحدود، نحن طغاةً ومصفقينَ للطاغية، وعالماً أعورَ يرىَ بعين واحدة، ويحكم بحسبِ مصلحتهِ.
ويبدو أكثر وحشةً وقتلاً: أن العروبة، أكذوبتنا التي رددناها، ونحن نغني وراء من ظننا أنهم صوتنا، يبدو أنها أكذوبتنا التي بكيناها، ونحن نشاهد إحدى المشاهد الغبية لإحدى المسلسلات، يبدو أنها أكذوبتنا التي حفظناها شعرا لشعراء قادرين على الانحناء والتطبيل للطغاة في كل حين والعفس على من لا ذنب لهم.
مثلما كانت سورية أيقونة للحياة والجمال والحب، وصاحبة حضارة أفاضت على العالم كلّهِ، ها هي تعرينا، وتفضح إنسانيتنا المزيفة. تُقصف المدن، يموت الأطفال، لتخرج من هنا أكاديمية تحسب على المثقفين، تهلل للمجرم، وتبرر وجوده النافلَ، وتختم "بوستها" الفيسبوكي بابتسامةٍ صفراء، أو يُطّلُ علينا من هناك ممثل فاشل، يجعل من الإنسان السوري ووجعه اللامتناهي مادته الساخرة، أو يضع أحدهم صورة على حسابه الفيسبوكي، لجسد إنسان يحترق، وآخر يتدفأ به موقّعا جملة خالية من أي شعور يذكَر، ألا يمكن القول إن هذا البلد (الحضاري) بيّن بربرية الآخرين وهمجيتهم؟
أمة الشعر لم تعد تشعر بشيء، "الطفر" الشعري أو لنقل الكتابي الذي نغرق فيه يومياً، لم يمنع هذا السيل الكبير للحقد، بل لعل ما يزيد تدفقه هؤلاء المثقفين الذين يتسابقون في حمل أقلامهم (الرشاشات) يطلقون رصاصها هنا وهناك، يسترزقون من دم الآخرين، يقتلون بأقلامهم من يشاءوا، ويمتدحون من يشاءوا، هؤلاء من أمةِ الشعر، أما أمة "إقرأ" فهي لا تقرأ، وإن قرئت، قرأت الكارثة منقوصة، أخذاً بنتائجها لا بأسبابها.
هل هذا هو الربيع العربي؟ أم أن من طالبوا بحرياتهم أخطأوا، لأنهم راهنوا على الإنسان فيهم وفينا أكثر من أي شيء آخر، أم أننا بانتظار ربيع عربي آخر، وما هذا إلاّ الشتاءَ المكمّلَ للشتاءات الكثيرة السوداء التي عشناها أو تعايشنا معها؟ لعلّنا سننتظر، لنر ونعيش، وهذا يعني أن نبقى على قيد الحياة إلى ذلك اليوم، على الرغم من السقطاتِ التي تفتك بكل شيء.
الصورة كما يبدو عليها (الربيع) الآن في 2016، وبعد خمس سنوات من الموت، أن الطغاة باقون على طغيانهم، وأن عبيد الذل باقون على ذلهم، وأن مثقفي البلاط يمارسون ثقافة الحاشية والاسترزاق باسم الثقافة وهم القتلة، التابعون لا تتعدّى أسماؤهم إلا أن تكون مقرونة بعارهم، عار تنصلهم عن قضايا أهلهم لصالح ارتزاقهم وخوفهم ومحاباتهم لمن جاء الوقت لأن يُلفظَ بعيداً.
من يحملون صفة الإنسان والثورة والتوق للحرية هم أنفسهم من يحملون صفة المواطنين الذين نقول أسماءهم مقرونة بمعنى الوطن والتضحية، ولا شيء سوى ذلك، هؤلاء المنذورون للقضايا الجوهرية.
avata
avata
مبروكة علي (تونس)
مبروكة علي (تونس)