سقف المخيم

28 نوفمبر 2014

لاجئ فلسطيني يحمل مفتاح بيته ووثائق ملكية أرضه المسلوبة(Getty)

+ الخط -

لم يكن أحدٌ منا مطمئناً. لا التلاميذ الصغار المرتعشون برداً، ولا المعلم الذي كان يتحرك بين المقاعد الخشبية في تلك الخيمة التي اتسعت لأكثر من خمسين طفلاً، في المدرسة الابتدائية في عين الحلوة، في تلك الأيام من نهاية الخمسينيات. كان المعلم يقرأ قصيدة ميخائيل نعيمة "الطمأنينة"، وكنا نردد بعده:
"سقف بيتي حديد/ ركن بيتي حجر/فاعصفي يا رياح/وانتصب يا شجر ..."
لم تكن سقوف مساكن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حديداً، ولا أركانها حجراً، وكانت خيبة الطفل الذي كنته من الشعر والبحث عن سقف حديد.
هكذا تطورت أشكال السقف فوق رؤوس اللاجئين الفلسطينيين، فعندما تهجَّروا من قراهم ومدنهم في عام 1948 إلى لبنان، عاش بعضهم تحت أشجار الزيتون والتين والسرو في مزارع القرى اللبنانية الجنوبية في ذلك الصيف. وعاش بعضهم الآخر في زرائب الحيوانات التي تكرّم بها أصحابها اللبنانيون. في حين لجأ آخرون إلى الجوامع والأديرة وبيوت أنسبائهم، أو أصدقائهم. ولم يكن لهم سقوف يطمئنون في العيش تحتها، ولم يبالوا كثيراً، فقد كانوا يعتقدون أن تهجيرهم لن يدوم طويلاً.
اعتنت منظمة الصليب الأحمر الدولي، في بداية الأمر، بحوالي مائة ألف لاجئ فلسطيني في لبنان، كما قدمت الرهبانيات المسيحية المساعدات لتخفيف قسوة التجربة عليهم. وعندما تأسست وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة "أونروا"، عام 1950، أخذت على عاتقها العناية بهم.
كانت الخيمة السكن الأول لهؤلاء، لكنها، بشكلها المخروطي، لم تكن سقفاً حقيقياً، لم تحمهم من أمطار الشتاء وعصف الرياح.
ظلّ اللاجئون في تلك الخيام إلى أن بدأ يتضح أن إقامتهم ستطول، فبدأ بعضهم بناء مساكن من الطين الممزوج بالقش، وصارت لمساكنهم سقوف مصنوعة من أوراق شجر الموز والحطب مثبتة بالطين، إلى أن بنت "أونروا" المساكن في بعض المخيمات. بنيت هذه المساكن من حجارة الإسمنت، لكن السقوف كانت من "الزنك"، وظل ممنوعاً على اللاجئين بناء سقوف اسمنتية، لأن السقف الإسمنتي يعني تملك الأرض المقام عليها المسكن، وأراضي المخيمات استأجرتها "أونروا" من الدولة أو الكنائس أو البلديات أو الأفراد، وهي ليست ملكاً للساكنين حتى اليوم.
عاش اللاجئون بلا سقوف حقيقية إلى نوفمبر/تشرين الثاني 1969، حيث تم التوقيع على اتفاقية القاهرة بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، برعاية جمال عبد الناصر، والتي أعطت المنظمة من بين بنود عدة صلاحية إدارة الشؤون الداخلية في المخيمات. بعد 1969، بدأ اللاجئون يبنون بحرّية، وصارت للمساكن سقوف، ثم بدأت حركة عمران خجولة لطوابق إضافية. تطور الوضع بطيئاً بهذا الاتجاه، فقد كان وجود الثورة المسلحة يعطي أملاً للاجئين بالعودة. ولذا، كان الشعور بالاستقرار داخل المخيمات يشوبه الاهتزاز والقلق. كان المؤقت هو السمة الغالبة في حياة اللاجئين، وقد مثّل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وهزيمة منظمة التحرير عسكرياً، وخروج قواتها وتشتتها، والدمار الذي أصاب المخيمات، وتحديداً في الجنوب، مثّل ضربة موجعة للشعور بالمؤقت، وصار الفلسطينيون في لبنان، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من المخيمات، وتمركزها في الشريط الحدودي، يعيشون يأساً حقيقياً في علاقتهم بحلم العودة إلى ديارهم. ولذا، شهدنا حركة عمرانية نشطة، لإعادة إعمار المخيمات من ناحية، وترسيخ هذا العمران، بما يشي بأنه دائم، فقد صارت المخيمات، بأبنيتها المؤلفة من عدة طوابق، لا تختلف عن المدن الفقيرة في أي مكان، إلا ربما بالأزقة الضيقة التي فرضتها المساحة الضيقة للمخيم.
لطالما تصيبنا الحياة بسخريتها ومفارقاتها، ففي وقت كان يسعى الفلسطيني فيه إلى تحسين شروط حياته في المخيم، يقوّي سقف بيته، فيضعف أمله بالعودة، ويخرج من المؤقت، ليدخل في ما يشبه الاستقرار في منفىً، فُرض عليه، وقاومه أكثر من ستة عقود.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.