سعيّد يحكم قبضته على الحكومة: انتصار أم تأجيج للصراع؟

27 اغسطس 2020
يستفيد سعيّد من الخلافات الحزبية (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -

تتجه الأوضاع في تونس إلى مزيد من التعقيد وإلى أزمة سياسية لا مناص منها، خصوصاً أن قائمة منتقدي حكومة هشام المشيشي المقترحة تتسع يوماً بعد آخر. فبعد رفض حركة "النهضة" و"ائتلاف الكرامة" و"التيار الديمقراطي" و"قلب تونس" بشكل قطعي حكومة الكفاءات المستقلة، انضمت حركة "الشعب" لقائمة المنتقدين، وكشف الأمين العام للحركة زهير المغزاوي، عن تحفظ حركته على العديد من الأسماء وعلى هيكلة الحكومة ككل، مضيفاً أنه سبق للمجلس الوطني للحزب أن اتخذ موقفاً بالمساندة المبدئية لحكومة المشيشي نظراً لعدم تحمّل البلاد مزيداً من الفراغ. وأعلن المغزاوي في تصريح إذاعي أن المكتب السياسي سيواصل التنسيق مع بقية الأطراف في البرلمان لاتخاذ الموقف النهائي من حكومة المشيشي.

لكن الأزمة الفعلية والأسئلة الحقيقية لا تتعلق بمكونات حكومة المشيشي وهيكلتها ولا باستقلالية أعضائها من عدمها ولا بالتصويت لمنحها الثقة من 109 نواب في البرلمان، لأن هذا تقريباً من قبيل الحاصل في جلسة الأول من سبتمبر/أيلول المقبل، وإنما ما يتخفى وراء كل هذه العوامل مجتمعة، أي جوهر الصراع، ليس بين الرئيس التونسي قيس سعيّد وحركة "النهضة" وحدها كما كان يصوّر كثيرون، وإنما مع المنظومة السياسية كلها، وهو ما بدأت تفهمه بعض الأحزاب ولو بشكل متأخر.
استطاع سعيّد حتى الآن اللعب باقتدار مفاجئ، باعتبار أن لا تجربة سياسية تُذكر له على عكس منافسيه، وسحب الجميع إلى ملعبه المفضل الذي يتقن آلياته وقواعده، الدستور والقانون، واستثمر في الخلافات الحزبية وتناقضاتها، وفي نقاط ضعف الدستور أيضاً، وهو بصدد كسب نقطة تلو الأخرى، آخرها تشكيل حكومة المشيشي.
ويبدو أن سعيّد أحكم قبضته على الحكومة، ولم يكتفِ بما يتيحه له الدستور، تعيين وزيري الخارجية والدفاع، وإنما أضاف إليهما الداخلية أيضاً، فقد منحها للمشيشي نفسه في حكومة إلياس الفخفاخ، وهو مستشاره السابق، ويمنحها الآن لتوفيق شرف الدين، الذي تؤكد أخبار متقاطعة أنه كان المشرف على الحملة الانتخابية لسعيّد في منطقة سوسة، وهو ما يعني أن سعيّد أحكم قبضته على الملف الأمني والخارجي بالكامل، وعيّن ذوي ثقة في المناصب الحساسة السيادية وحتى في بعض الحقائب الأقل أهمية.

لم يكتفِ سعيّد بتعيين وزيري الخارجية والدفاع، وإنما أضاف إليهما الداخلية أيضاً
 

وعن ذلك، قال المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الرئيس التونسي أوّل الدستور وطوّعه وفق رؤيته وقراءته الخاصة الدستورية، ففي غياب محكمة دستورية فاصلة، أضحى سعيّد مفتي الدستور، يفسر أحكامه وبنوده من دون اعتراض على فهمه أو رد على منهجيته، مشيراً إلى أن الفراغ المؤسساتي وضعف الأحزاب مكّناه من الذهاب بمشروعه بعيداً. وأضاف: "بعد أن خضنا حكومة الرئيس الأولى مع إلياس الفخفاخ، نعيش اليوم مرحلة حكومة الرئيس الثانية في نظام برلماني معدل، إذ يشرف سعيّد على التشكيلة الحكومية وعلى برنامجها وأسسها من دون سند دستوري، فلا وجود لحكومة الرئيس في الدستور ولا لاختيار رئيس حكومة وحكومة من خارج أحزاب الحكم البرلماني... إلا في مشروع سعيّد".
ولفت المحلل السياسي إلى أن سعيّد يتمسك بالشكليات الدستورية عندما يخدم ذلك الفهم توجهه، على غرار التشاور الكتابي لاختيار رئيس الحكومة، ثم يذهب بعيداً في تأويل روح الدستور ليتمكن من مفاصل السلطة التنفيذية، ففي الظاهر لم يخالف الدستور ولكن في الممارسة انحرف بالنص حتى يتمكّن من قيادة الحكومة في نظام شبه رئاسي. وأشار المؤدب إلى أن "المتابع لسيرورة الأحداث منذ تولي سعيّد الرئاسة والصراع الخفي الدائر بين السلطة التنفيذية والبرلمان وتنازع الاختصاصات، يعجب لعدم طرح الرئيس التونسي وهو رجل قانون، مبادرة قانونية لتغيير القانون الانتخابي مثلاً أو الإعداد لتغيير النظام السياسي، لنكتشف أن سعيّد يعد الأرضية المريحة جداً لهذه التغييرات التي يعي أن قبول الشارع والمواطن والشعب بها أهم من طرحها أمام البرلمان الرافض لها سلفاً"، مشيراً إلى أن الرياح كانت مؤاتية لكل ذلك بسبب تشتت البرلمان وصراعاته الداخلية التي تخدم نظرية نهاية الأحزاب وعدم جدواها، إلى جانب تردي الوضعين الاجتماعي والاقتصادي اللذين يغذيان مطالب الناس في التغيير المجدي والسريع مهما كان مصدره.

وأضاف المحلل السياسي أن الأحزاب التونسية أصبحت شبه عاجزة عن المبادرة والتحرك للخروج من الوضع السياسي المتأزم، "فنلاحظ أن النشاط الحزبي موسمي ومناسباتي يتصاعد في الفترة الانتخابية ويخبو بقية المدة، ما عدا حزب النهضة الذي يعد الحزب الوحيد المهيكل والمنظم الذي يعقد اجتماعات دورية لمؤسساته وينظم الندوات المحلية والملتقيات الجهوية وورشات التفكير، ولكن باقي الأحزاب تعيش في سبات سياسي تقطعه أحياناً ببيانات التهاني والتعازي".

ولكن هل يمكن اعتبار هذه الجولة الجديدة التي كسبها سعيّد بمثابة الانتصار الفعلي في مشروعه العام أم أنها ورطة يسير إليها؟
عدنان منصر، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، ومدير ديوان الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، اعتبر في تدوينة على صفحته على "فيسبوك" أن "سعيّد قد وقع في فخ عظيم... لأن هذه الحكومة لن تقدر على شيء، مع رئيس حكومة بلا تصور، ورئيس جمهورية لا أعتقد أنه واعٍ تماماً بدقة المنعرج. الآن سيصبح بإمكان الأحزاب أن تترك الرئيس وحكومته يغرقان ببطء في أزمة تتلاشى إمكانية الخروج منها. كنت أرجو أن يكون في القوم بعض رأي، يمنع الرئيس من فقدان دور الحَكَم، ذلك الدور الذي نحتاجه جميعاً، ولكن الرئيس اختار أن يكون لاعباً... في لعبة ككرة القدم مثلاً، اللاعب معرض للإصابات، وبعضها قد يكون خطيراً".

عدنان منصر: سعيّد وقع في فخ عظيم لأن هذه الحكومة لن تقدر على شيء
 

وكان منصر قد كتب منذ أيام أيضاً "ربما ربح قيس سعيّد جولة تكتيكية في معركته ضد الدستور الحالي (نعم، يتضح أن معركته الأصلية ضد الدستور، وأن الباقي معارك تفصيلية)، ولكن أفق أي تغيير عميق في المنظومة السياسية مغلق أمامه بحكم عدة اعتبارات. هناك حل واحد لتغيير الأمور بعمق، وهو إلغاء الدستور أو عدد من فصوله، وهذا غير متاح له في الحالات العادية، حتى لو تم حل البرلمان، أو ذهب في تفعيل فصل الخطر الداهم". وأضاف منصر "في كل الحالات، بتكليفه شخصية وفية له لا ماضي سياسياً لها، وبالتوجه نحو حكومة تقصي الأحزاب، في ظرف بالغ الحساسية، فإن الرئيس يواصل معركة تأويل الدستور في سياق عام يجعل من المعارك حول الصلاحيات وحتى حول الدستور أمراً تفصيلياً جداً. الأسئلة الحقيقية في المرحلة التي ستفتح بعد أسابيع هي: ما هي قدرة الحكومة على مواجهة تداعيات نسبة نمو سلبية قد تبلغ 12 بالمائة؟ ما هي قدرتها على اقتراح قوانين في مواضيع خلافية، وعلى تمرير الميزانية، وعلى أي تحرك داخل المجلس؟".
وختم منصر "ما نراه بوضوح هو أن المعركة التي يخوضها الرئيس ضد الأحزاب، لن يكون من الممكن التغطية عليها بالمواجهة مع النهضة وحلفائها. لقد بدأت الأحزاب الأخرى (حتى التي كانت في حكومة الرئيس الأولى، وبالخصوص تلك التي كانت أيضاً في مواجهة النهضة) تستشعر خطورة أطروحات الرئيس وسلوكه إزاءها وإزاء البرلمان والدستور. بعض الكتل الانتهازية في المجلس التي صفقت لحكومة الكفاءات لن يكون بمقدورها عرقلة التوجه العام داخل البرلمان، وهو نشوء جبهة موضوعية ضد الرئيس ستتغذى من ضيق أفق الحكومة القادمة ومحدودية قدرتها على مواجهة تداعيات الأزمة المتصاعدة. سيكون الرئيس، ببساطة، في عين العاصفة!".

تقارير عربية
التحديثات الحية