بعد سويعات قليلة من توليه رئاسة البلاد، أطلق الرئيس التونسي الجديد قيس سعيّد سلسلة مشاورات مع الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية بهدف بحث تشكيل الحكومة الجديدة، باستثناء الحزب "الحر الدستوري" الذي لم يلتقِ الرئيس بعدُ لأسباب لم تتضح حتى الآن، وربما يحدث ذلك لاحقاً، أو لا يتم أصلاً.
وبدا سعيّد حذراً جداً في أول تجربة له مع الممارسة السياسية الحقيقية، في ظل واقع صعب وخلافات كبيرة وتضارب في المصالح والرؤى، بعيداً عن عناوين خطاباته الكبرى المتعلقة بالمُثل والغايات النبيلة والمقاصد السامية. ولعله بدأ يدرك مع أي ساحة سيتعامل ومع أي نوعية من الزعامات والتفكير السياسي سيعيش طيلة السنوات الخمس المقبلة، ويستشرف ما هو مقدم عليه في هذه التجربة السياسية الفريدة في كل الأحوال. ولكن التونسيين بدأوا أيضاً في متابعة رئيسهم وامتحان قدراته السياسية في تأليف ما لا يتألف وجمع ما لا يجتمع: أضداداً وطموحات متضاربة وتقييمات متناقضة لواقع سياسي صعب، خساراته وضحاياه كثيرة وكبيرة.
ويتابع التونسيون، منذ أسابيع، معارك طاحنة وتصريحات نارية بين أهم الكتل النيابية وأحزابها، "النهضة" و"التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" و"ائتلاف الكرامة"، وبدرجة أقل "تحيا تونس"، وتطل كل يوم شاشات التلفزيون والإذاعات لتكرار الفكرة نفسها، وطرح التساؤل نفسه، من يحكم مع من؟ لتصل إلى الإجابة أن لا أحد يريد حكومة مع الآخر… وهو ما يعكس نوعاً من الانتفاخ السياسي وقراءة متسرعة لما أراده الناخبون من تصويتهم. لا يتعلق الأمر بمجرد مسعى لتحسين شروط التفاوض عبر إعلاء سقف المطالب، لأن ما سمعناه يتجاوز ذلك بكثير ويصل إلى حد العداوة والاحتقار السياسي أحياناً، ولا أحد يتصور كيف يمكن لهؤلاء أن يجتمعوا بعد ذلك ويحكموا معاً شعباً ملّ من خصوماتهم، وظنّ لوهلة أن انتخاباتهم ستغيّر قليلاً من المشهد التعيس الذي عايشناه طيلة السنوات الماضية، خصوصاً في البرلمان، بينما يعد البرلمان الجديد بهذا الشكل أن يكون صورة رديئة أكثر من سلفه.
ومع تصاعد فكرة إعادة الانتخابات بسبب هذا العناد، وأوهام كل منهم بأن يكون صاحب الشأن، يتناسى أغلبهم إمكانية مطروحة، أن يعاقبهم الشعب جميعاً ويقترح موجة جديدة لا يتوقعونها، كما لم يتوقعوا سعيّد.