سعيد عقل
أستطيع أن أقول الكثير عن سعيد عقل. مثلاً:
كنت في الثلاثين من عمري، حين كان سعيد عقل في السبعين. وكان، وقتئذٍ، يدعو إلى إبادتي ومحقي من الوجود كفلسطيني. استغاث بالإسرائيليين الذين قتلوا اللبنانيين، أبناء "قوميته" السامية، كما قتلوني. كان يجهل ذلك. ففي صبرا وشاتيلا ذبح لبنانيون، كما ذُبح فلسطينيون. على أيدي رعاعه، أبناء فلسفته وفكره المريض. حتى أن الإسرائيليين الذين توسّلهم إبادتنا كانوا أكثر رحمةً وتعقّلاً وذكاءً. فليس في أجندتهم إبادة الشعب الفلسطيني حتى آخر فلسطيني، فهم في حاجة لوجودنا، فنحن، كما يتوهّمون، نؤبّد في عقل العالم صورة الضحية اليهودية، فقط، لأننا نبحث عن حقنا.
وأستطيع أن أقول إن سعيد عقل شاعر حرفي، مثل ميكانيكي بارع، أو حجَّار يقطع الصخر من الجبل، ويستخدم إزميلاً فولاذياً، ومطرقة من حديد، وينحت المفردات. لكن، هذا ليس كافياً ليجعل شعره إنسانياً، وإن نجح، أحياناً، في بعض القصائد، وفشل في بعض القصائد التي بلا روح وشغف.
وأستطيع أن أقول إن فلسفة سعيد عقل الفاشية العنصرية التي لا تدعو إلى القتل وحسب، بل إلى الإبادة لشعب بأكمله، بقضه وقضيضه، لا نستطيع أن نغفر تهويماتها وخبطها في وحول وقذارة الدم الذي كان، ربما، سيلوّن قصائده، لو أن البطل "مناحيم بيغن" استجاب لدعوته التي تقطر دماً.
لا تجوز مقارنة سعيد عقل بأي شاعر آخر، رأى في الفاشية حلماً لتحقيق رغباته، أو أفكاره. فحتى الشاعر الأميركي، إزرا باوند، الذي لا تزال مواقفه الداعمة للفاشية الإيطالية والنازية الألمانية تشغل النقاد إلى اليوم، على الرغم من سجنه بتهمة الخيانة العظمى، والتعامل مع عدو الإنسانية في الأربعينيات، ثم الإفراج عنه، بعد تدخل كتّاب، مثل همنغواي وغيره.
لم يبدع باوند فاشيةً لائقة لروحه كشاعر، فلا فاشية قادرة أن تتآلف مع روح الشاعر، وتعيش معها، وترسم طريقها. فللشاعر روح محلّقة في أسمى فضاءات الإنسان، وأرق مستويات النفس البشرية. انطلق باوند من تحليل إيديولوجي معاد للرأسمالية، حين اعتبر أن جذور الحرب العالمية نبتت في القرن السابع عشر، منذ تأسيس "بنك انكلترا"، وأن هذه الحرب التي خاضتها بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب الرأسمالي هي حرب المستغلين ضد الجنس البشري كله، وحرب المستغلين ضد الفلاحين والعمال وغيرهم. وقاده تحليله هذا إلى الوقوف إلى جانب الفاشية، كمعادية لتلك الرأسمالية المتوحشة كما رأها.
لكن سعيد عقل انطلق من صميم فلسفة القومية اللبنانية التي بلا قدمين، والتي أبدعها من المخيّلة نفسها التي أبدع منها الشعر. وفي إطار هذه الفلسفة، لم يرَ عدواً لقوميته هذه التي اندحرت غير الفلسطينيين، كشعب يرى فيه مرتبة أدنى حضارة وثقافة وتاريخاً.
وأستطيع أن أقول إن فاشية سعيد عقل لا تشبه مديح سلفادور دالي الجنرال الفاشي، فرانكو، فكلاهما ينتميان إلى قومية واحدة وجنون واحد، والفاشية التي مدحها دالي قتلت صديق شبابه الشاعر الخالد، معلم سعيد عقل، وكثيرين من شعراء العربية، فريدريكو غارسيا لوركا. فهل كان سعيد عقل واعياً متفكّراً لمصرع الشاعر الأرقّ والأمهر صنعة في تاريخ الشعر في القرن العشرين؟
وأستطيع أن أقول إنني لا أرى عظمةً، ولا سموّاً للشعر خارج إنسانية الشاعر، فنحت اللغة من الحجر وإبداع المفاهيم المتوحشة في الصراعات يقود، بالضرورة، إلى قطع الرقاب والذبح، وكأني بسعيد عقل، مفكراً سياسياً، الأب الروحي للدم المراق، اليوم، على مساحة هذا العالم العربي، متدفقاً من فلسفةٍ لا تختلف بأبعادها الدموية عن فلسفته.
أخيراً، أستطيع أن أقول: ماذا لو أن محمود درويش كان آخر فلسطيني في لبنان، شملته دعوة سعيد عقل إلى البطل مناحيم بيغن، ليخلّص لبنان منه بالإبادة، كي يصير هذا اللبنان نظيفاً؟