سحّاب العيد.. دايماً عاليسار

19 فبراير 2017
+ الخط -
تمنّيت يومها لو أنه يسكن في الطابق الألف، حتّى لا نصل أبداً. أبي وأنا، صعدنا الدرجات المئة، ووصلنا للطابق الرابع حيث منزله. وضعت الكيس أمامه على طاولة الخياطة الصغيرة وتراجعت مراقباً وجهه، منتظراً الصدمة، ووقوع الكارثة.

ابن جيراننا، عبدو، خيَّاطٌ شاب يعمل في منزله على ماكينة السينجر القديمة، يقتصر عمله على تصليح الملابس ورفئها، تضييقها أو توسيعها إنْ أمكن. فتح عبدو الكيس، وأخرج البنطال المدرسي الخاكي، وفرده على الطاولة. تولَّى أبي المهمة عني، وأخبره أننا نريد تعديل البنطال على مقاسي. قلّب عبدو البنطال على جوانبه، ولم ينبِس ببنت شفة (لو نبس، ولو نبوسة زغيرة كنت متت يومها). أخذ عبدو مقاساتي، وسجلها بقلمه الرصاص، وهز برأسه أن موعدنا غداً مساءً. تجرأت وسألته: "هل يمكن تعديل وضعية السحاب لتصبح القماشة التي تغطيه على اليسار كما كل البنطلونات الرجالية؟". أجاب عبدو بحسم: "لا". ومضينا.

كان هذا البنطال المدرسي لأختي التي تكبرني بسنوات. تمزق بنطالي المدرسي بطريقة لا يمكن إصلاحها ولا أذكر كيف. ربما في لعبة طابة في إحدى حصص الفراغ، وصرت بحاجة لبنطال جديد بدلاً منه. لم يكن راتب أبي، المتواضع أصلاً، يسمح بتحمل عبء شراء بدلة جديدة، أو بنطال على الأقل في هذا الوقت من السنة. ولأني أكبر الذكور، فلا مجال لحل هذه المشكلة إلا بهذه المناورة؛ تعديل بنطال أختي القديم لأرتديه في المدرسة. لم يكن لدي مانع أو مشكلة سوى هذا السحاب اللعين. هذا السحّاب الثرثار الذي يفضح كل شيء فور خروجي من البيت باتجاه المدرسة. هذا السحّاب أبو قلبة عاليمين، وكأنَّه حبّة حلب على وجه أبيض ناعم، ويستحيل إخفاؤها بنظارة سوداء كبيرة، أو كأنه شارة (x) بيضاء على باب أسود لبيت مسيحي في الموصل.

بعد يومين، ارتديته ومشيت طريق المدرسة، شعرت أني كنساء فرنسا اللاتي ضاجعن الجنود الألمان في الحرب الكونية الثانية، وعوقبن بحلق شعورهن قبل سوقهن إلى السجن والإعدام. كنت أنا (و ربما لا أحد غيري) من ينظر إلى السحّاب وقلبته اليمين، و يجتر الشعور بالخجل مع كل خطوة وكل يوم.

بت أرخي السترة المدرسية، وهي مزررة على طولها لتغطيه، أو أرتدي كنزات صوف طويلة لإخفاء هذا الخلل وأمر هذا السحاب اللعين.

تكرر الأمر مع الحذاء المدرسي "بوط الفتوة" لكن دون مشاكل. بوط الفتوة لا يفرق بين ذكر وأنثى (بيفهم بالجندر من يوم يومه.. الله يخليه)، كذلك جاكيت الجلد الأسود الرخيص المبطَّن بفرو أبيض، عنده الكل سواء وسواسية (الله يرضى عليه)، وحده هذا البنطال اللعين (يلعن شرفه) كان مشكلة كبيرة.

في مناسبة أخرى، تكرر الأمر. رحلة المتفوقين التي تقوم بها المدرسة كل عام، لا بنطال جديداً عندي مناسباً لهذه الرحلة التي ستستغرق خمسة أيام كاملة، و كان الحل مرة أخرى؛ بنطالاً جديداً لأختي الكبيرة، لم ترتده مطلقاً. البنطال موجود، وعبدو موجود، والسحاب أبو قلبة عاليمين موجودٌ وباقٍ ويتمدّد أيضاً.

من هذا المأفون الذي اجترح هذا التقليد، أن تكون سحابات البنات قلبتها عاليمين والشباب على اليسار!

لم ألعن الفقر أبداً. لم ألعن قلة حيلة والدي وراتبه المتواضع. لم ألعن النظام ورئيسه. ربما كنت أعتبر كل هذا قدراً لا مفر منه. لعنت فقط مصممي الأزياء ودورها، شركات النسيج ومعامل الخياطة. لعنت كريستيان ديور بقبره، أمهات جيفنشي وكارولين هريرا، علكت شرفهن علكاً بفمي. تمنيت لو أن لي أخاً أكبر مني. كنت سأرتدي ملابسه بسرور، وربَّما بفخرٍ أيضاً.

كان العالم، يومها، مُنقسِماً بين شرق وغرب، يمين ويسار، معسكر اشتراكي وآخر رأسمالي. يراقِب سقوط الاتحاد السوفييتي وينتظِر. وأنا وحدي أراقب سحابات البنطلونات في الشارع وفي كل مكان. عمرو دياب يغني "حمدلله عالسلامة" عالتلفزيون، وأنا أنظر إلى سحّاب بنطلونه إلى أية جهة يميل.

ممدوح عبد العليم وهشام سليم يتنافسان على قلوب الصبايا في "ليالي الحلمية"، وأنا منشغل بجهة سحابهما. كلينت إيستوود يطلق النار في البار وقلبة سحابه عاليسار، غورباتشوف يملأ الشاشة بصلعته والبيرسترويكا، وأنا أفكر بجهة سحابه اللي عاليسار. حتى مارادونا العزيز، واقف على شرفته في نابولي، ويطلق نار بندقيته على الصحافيين المتجمعين أمام بيته وسحابه عاليسار. أنا وحدي دون رجال العالم، قلبة سحابي عاليمين.

يلعن اليمين واليسار، عالاشتراكية والرأسمالية، عالنظرية والتطبيق، عالرأسماليّة تحفُر قبرها بيدها، على الحلقة الأضعف والذين كانوا يريدون ضربها وضربوني أنا بدلاً منها، على هذا العالم والذي حين أراد أن يغير جلده ويبطل هذه العلامة، جعل بنطلونات البنات بسحابات يسارية، وتركني وحدي عاليمين.

وحده العيد، كان فرصة ومناسبة لشراء بنطال جديد في كل عام. أخرج من محل الألبسة حاملاً بنطالي الجديد وصوت أبي يردد: "هايّ للعيدين ومكابلة الحكّام" فحافظ عليه.

أحببت العيد وما زلت. وأكره كل من يقلل من شأنه ويسخّف حضوره. العيد صديقي وسيبقى. أفرحني كثيراً، و لم يخذلني يوماً.

لأن سحّاب بنطلونات العيد كان دائماً على اليسار.

EF9CDCFA-70F5-48FA-A951-FEAC223929E2
عسّاف العسّاف

كاتب سوري يعيش في في العاصمة الألمانيّة برلين. صدر له كتاب بالعربية والألمانية بعنوان "أبو يورغن يومياتي مع السفير الألماني".

مدونات أخرى