سجالات وجدالات

01 فبراير 2019
+ الخط -
لا أحملك على الاتفاق معي، ولكن لننطلق من مبدأ منصف، ونتجرد من التعصب والانغلاق؛ فما تراه اليوم أمرا مستجدا أو طارئا، وكثيرًا ما تجد في كل مجال منافسة، وفي كل فن مباراة، وينعقد اللواء لأحدهم فيتحزب الناس إلى مؤيدين ومعارضين، وتضطرم نيران مشبوبة الأوار، وربما يخفت صوت الحق بين عجيج الصراخ، لكنه لا يموت.
أوقف المفكر السوري الراحل، جورج طرابيشي، ربع قرن من حياته لنقد محمد عابد الجابري! في البداية كان مغرمًا به، وسرعان ما تفتق ذهنه إلى أمور أوسع؛ فأخذ على الجابري ما ظنه بالأمس مزية، وهذه طبيعة لا ينفك عنها كثيرون؛ ففي البدء يكون الإعجاب مشوبًا بالتقدير المبالغ فيه، ثم ينزوي الإعجاب شيئًا فشيئا ليحل محله النقد، وربما يحمل النقد ملامح الجلادين لمعادلة التقدير المبالغ فيه سابقًا.
أعمل طرابيشي معاول هدمه للجابري، بعد أن جلس على مائدة فرويد وهيغل وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وغيرهم، وقد نفهم ذلك جليًا إذا وضعنا بين أيدينا مقالة الخليل بن أحمد (ت 170هـ) "لا يعرف المرء خطأ شيخه حتى يجالس غيره"؛ فكان أن أمسك طرابيشي مبضع الجراح 25 عامًا يمزق به أوصال فكر الجابري.
لو عدنا إلى الوراء قليلًا، ونظرنا إلى مصطفى لطفي المنفلوطي؛ لوجدناه الاسم الأول في عالم النثر العربي في الربع الأول من القرن العشرين، ولرأينا في جملة المعجبين بأدبه أحمد حسن الزيات وطه حسين والعقاد والمازني، وكتب الزيات في المنفلوطي تقريظًا ومدحًا، وكذلك العقاد وحسين وغيرهم.
يومها كان المنفلوطي قد تسلّم راية النثر، تمامًا كما اعتلى شوقي سنام الشعر، لكن هؤلاء الأشبال شبوا عن الطوق، رأوا أنهم يقدرون على النقد واستعمال المباضع؛ فحمل بعضهم على المنفلوطي حملة شعواء، واتهموه بالإسراف في استعمال المحسنات والبديع، ومنهم من أسرف في تشويه صورة المنفلوطي لسبب أو لحاجة في نفس يعقوب.
الجهل حجاب، ونقصد بالجهل هنا الجهل بقدر الآخرين، ويتبع ذلك المبالغة في المدح أو المبالغة في الذم، وقد يكون المرء عالمًا متمكنًا من فنه، لكن حزازات النفوس تقصيه عن الإنصاف؛ فعندها يكون التعصب للمذهب أو المنهج حجابًا يمنع صاحبه عن الإقرار للآخرين بأفضالهم، ويتعامى عن مسح الواقع الذي عاشوه بنظرة متأنية، وإن فعل فإنه يتلمس مواطن ضعفهم ويغض الطرف عن آثارهم الحسنة في العلم أو الأدب أو غيرهما من فنون الحياة.
إذا أوغلنا في التاريخ، تحقق لنا مبدأ جناية الحجاب، ولقرع آذاننا قول ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ) "المعاصرة حجاب"، وهو قول صادق على الأرجح، ولم يسلم ابن رشيق من هذه القاعدة؛ فكانت بينه وبين صنوه ابن شرف القيرواني ما صنع الحداد.
مبعث غبن الآخرين إما حزازات النفس وما تحمله من غيرة وحسد، أو المنافسة غير الشريفة التي تعمي الأفئدة عن حسنات الخصم، أو لصرف الأنظار عنهم والاستحواذ على عطايا الخلفاء والأمراء والرؤساء، وربما للصدارة في الفن والمذهب، أو الحصول على قاعدة عريضة من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي.
في القرن الرابع الهجري، نعت الناس رجلين بلقب "الجاحظ الثاني"، والجاحظ معروف للجميع، والتشبه به في عالم الأدب مكرمة لكل منتسبٍ لهذا الفن؛ فكان أبو حيان التوحيدي وابن العميد يتنافسان على اللقب، ثم دخل على الخط الصاحب بن عباد، وابتسم القدر لابن العميد وتلميذه بينما كشر عن نابه للتوحيدي؛ فكتب التوحيدي "مثالب الوزيرين" ينتقص قدريهما، ولو أنهما سبقاه زمنيًا أو تأخرا عنه، لما فكر في تأليف هذا الكتاب، وكما يقول المثل الشعبي "ما يكرهك إلا ابن كارك".
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)