برحيل فناني الكاريكاتير اللبنانين؛ ستافرو جبرا وملحم عماد هذا الشهر، يكون هذا الفن في لبنان والبلاد العربية قد خسر اسمين أساسين، اختلفا في الأسلوب من حيث معالجاتهما للوحة الكاريكاتيرية إن بالخطوط أو بالأسلوب أو بالمواد المستخدمة، كما اختلفا أيضاً في منطلقاتهما الفكرية والموقف السياسي الذي يمثّلانه. وفقدت الصحافة رسامين أجادا إعادة صياغة الحدث اليومي في رسومات مؤثّرة.
انتشر الكاريكاتير في الإعلام الورقي منذ عقود طويلة، ومن بعده امتدّ ليأخذ حيّزاً واسعاً في الفضاء الإلكتروني، ولمعت أسماء ماضية وحاضرة ارتبطت بهذا الفن، ورفدته بأساليبها وأفكارها وألوانها حتى بات جزءاً لا يتجزأ من الصحافة. ومن دون الدخول عميقاً في التاريخ بالبحث عن نشوء لفظة الكاريكاتير، وتطوّرها، فقد حظي فن الكاريكاتير منذ القرن السابع عشر بمقوّمات ومحدّدات عدة شكّلته، وأضحت مع الوقت بديهية في تكوينه؛ منها مثلاً إدخال الحركة على مفهوم الصورة، من خلال إسقاط المسرح على اللوحة كما لدى الفنان الإنكليزي وليام هوغارث، واتجاهه أكثر نحو السخرية، والتدوين للحادثة محل الاهتمام، مع ميل نحو التشويه والمبالغة.
من هنا، ومع رحيل ستافرو وعماد، وقبلهما بيار صادق وجان مشعلاني ومحمود كحيل وغيرهم، هل يصح القول بأن فن الكاريكاتير اليوم ما زال هو نفسه الذي أسّسه ومارسه هؤلاء الرواد، أم أن تحوّلات طرأت عليه قوامها التقنيات المستخدمة في التنفيذ والفكرة وطريقة معالجتها؟
والسؤال الأهم، هل ما زال لفن الكاريكاتير تلك السطوة في التأثير على الرأي العام والحال أن الصحافة نفسها تعيش أزمة تاريخية؟ ما مدى تأثّر الكاريكاتير العربي المعاصر بثورة التكنولوجيا والإنترنت والانفتاح على التجارب الأجنبية؟ ماذا عن القضايا التي يعالجها اليوم وطبيعة علاقته مع السلطة؟
في الواقع، لم تكن علاقة الكاريكاتير بالسلطة إشكالية ومأزومة دائماً، فمع إن هوغارث قد ابتدع أسلوباً للنشر على نطاق واسع عبر طباعة لوحته، ما ضخّ في بدن الفن التشكيلي أولى المحاولات في تحرّر الفنان من سلطة البلاطات والقصور، ومع غضب جورج الثالث ملك بريطانيا على الرسام جيمس غيلراي، وغيرها من الشواهد، تعاون رسّامو الكاريكاتير في بعض الأحيان مع السلطة القائمة في أكثر من واقعة؛ ما أنتج الكثير من الرموز الوطنية للشعوب كالعم سام على يد الفنان الأميركي من أصل ألماني توماس ناست، ومن ثم على يد الفنان الأميركي جايمس مونتغمري فلاغ. كما عمل رسامو الكاريكاتير في الحربين العالميتين على الترويج والتعبئة لشعوب الدول المتحاربة ضد أعدائهم.
وبالرغم من أن الكاريكاتير في كثير من الأحيان فن تثويري، إلا أنه استخدم في بعض الأحيان للتنفيس عن الشعوب، والتخفيف من نقمتها على حكامها المستبدّين. أما في واقعنا الراهن، فإن غالبية رسامي الكاريكاتير العرب وقفوا موقف التأييد للقضية الفلسطينية أولاً، ولثورات الربيع العربي ثانياً.
تقوم الرسمة الكاريكاتيرية في الغالب على المزج المتناغم بين المتناقضات في الفكرة أو الرسمة أو التعليق، أو تتدرج ممّا هو معلوم تصوّري لتنتهي إلى نتيجة مخالفة لما هو متوقّع، وهو قوام النكتة أو الطرفة. ومن الجدير الإشارة إلى أن الكاريكاتير بلفظته العربية ينقسم الى قسمين؛ الأول: رسم الوجوه مع المبالغة بالتكوين والسخرية، والثاني: رسم الواقعة أو الفكرة أو الحدث.
وهذا لا يلغي أن فن الكاريكاتير فن مشاكس يقوم أساساً على العلاقة بين الرسمة والفكرة. وعلى الرغم من كثرة انتشار الكاريكاتير السياسي في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعية، إلا أن هناك أصنافاً أخرى من الكاريكاتير منها الاجتماعي والثقافي والإعلاني والتوجيهي وغيرها. كما أن عصر الثورة الرقمية يشهد اليوم انتشاراً واسعاً للمسابقات الكاريكاتيرية حول العالم التي تدعو إليها مواقع إلكترونية مدعومة من مؤسسات رسمية ودول بعينها، غير أن الحال في البلدان العربي ما زال يشقّ طريقه بصعوبة.
من جهة أخرى، يبدو أن الكاريكاتير قد نجا إلى حد ما من أزمة الصحافة الورقية، لا سيما أن الصحافة الورقية لم تكن لتتسع للأعداد الكبيرة من رسامي الكاريكاتير، إذ كانت الجريدة تكتفي برسّام واحد أو اثنين. بهذا فإن الكاريكاتير ركب موجة الإنترنت والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، ووجدها ملاذاً لإبداعات الشباب الذين رفدوها بكل جديدهم.
غير أن تحوّلاً آلياً طرأ على صناعة الكاريكاتير مع الثورة التكنولوجية والرقمية، فبعد أن كان الرواد يستخدمون القلم الحبر والورقة والألوان المائية، اكتفى عدد كبير من جيل الشباب باستخدام الوسائط الإلكترونية في رسم لوحاتهم وتلوينها وإنجازها.
ومن دون الدخول في تقييم صوابية الخيارين، أو قربهما من الفن أكثر، إلا أن هذه الوسائط قد خلقت جواً أكثر راحة للفنان، ومدّته بأساليب تزيينية جديدة للوحته، وخلقت له مساحة من اللعب الحر في القصّ واللصق والتحوير للأشكال المقصود رسمها وغير ذلك من التقنيات.
وبالحديث عن الإنترنت والانفتاح على التجارب الأجنبية الأخرى، فقد طرأ تطوّر في صناعة الكاريكاتير؛ من إطار اللوحة القائمة على سيناريو معيّن مع تعليقات طريفة بين شخصياته، إلى لوحة في غالبيتها صامتة، تقوم على ما أسلفنا على المزج المتناغم بين المتناقضات، يرفدها الفنان الكاريكاتيري بخياله الخصب، وموهبته المتّقدة.
أما الحديث عن واقع الكاريكاتير فيكفي أن نشير إلى حدثين كي نتبيّن مدى قدرة الكاريكاتير على التأثير في عالمنا الحالي، أولاً الرسوم الأوروبية المسيئة، التي أوصلت العالم العربي والإسلامي إلى الغليان منذ سنوات، وأدت إلى أعمال عنف وإرهاب في غير مكان من العالم، ومن ثم الكاريكاتير المعادي للسامية الذي أطلقته إيران منذ فترة ولاقى تنديداً واسعاً من أكثر من جهة رسمية وغير رسمية في الغرب وغيره، هذه أمثلة تنقل لنا واقع الصورة الكاريكاتيرية في عالمنا المعاصر وتأثيرها واختراقها للحواجز وتأجيجها للرأي العام.