سؤال التحولات

07 ابريل 2016
بقيت أسئلة المعرفة مجرد مشاريع فردية (Getty)
+ الخط -
أفترض أننا إزاء تحولات كبرى تلف عالمنا الاجتماعي الكبير، تحولات تطاول بناه المعرفية والسياسية والأخلاقية والحقوقية والقانونية والجمالية، وبكلمة فإنها تطاول بنيته الثقافية على نحو من الشمول، ومن البداهات في مثل هذه الحالة أن نطرح سؤال التحولات على البنية الثقافية ومدى ما ستنجزه من حفريات في هذه البنية، على افتراض أنها محمّلة بشحنات صدامية وإشكاليات مشاكسة، تقيم حداً "معرفياً" وأخلاقياً "ضرورياً" على تلك البنية العتيقة الحاملة لبشارة العاجز، والمنبئة بخروج بائس من دائرة الفعل والتاريخ.


هذا على الرغم من التشوهات الضرورية المرافقة لهذه التحولات، بما هي محكومة بمفاعيل تلك البنية العتيقة، وستحتاج وقتا "طويلا" كي ترفع الأنقاض وتغسل ما علق فيها من الرواسب، وعلى الرغم من إمكانيات التشظي المنظورة والندب الحالية على الجسد الاجتماعي، المتمثلة بالصراعات على السلطة والمشروعية، والتي تتخذ شكلا "مذهبيا وطائفيا"، هو تجليات الراسب وانفجار البنية العتيقة نفسها، ذلك أنها حملت بحكم طبيعتها قابليات التوظيف الخارجي والسلطوي الاستبدادي لإجهاض الحراك على المسرح الاجتماعي، الهادف لكسر الهيمنة وقلب موازين القوى التي كسرتها الطغم السلطوية منذ أمد بعيد، قبل أن تغلق نهائيا المسرح الاجتماعي على أقوالها الإيديولوجية الخالصة، والمقنعة لرغبتها الأبدية بالسلطة.

هذه الصراعات تحمل في طياتها إمكان انفجار الفضاء العمومي، السياسي والثقافي السائد، لكنها بالمقابل تمثّل عرضا "ضروريا" لجوهر التحولات الجارية في رحم البنية الاجتماعية، ولا يمكن لأي ولادة أن تتم دون آلام المخاض.

تحاول هذه المقاربة أن تجيب عن السؤال المتعلق بأثر حركة الشارع وإبداعاته وتطلعاته الفكرية والجمالية على البنية الثقافية، وإمكان إحداثها لكسر في القوالب التي تشكل لحمة هذه البنية وسداها، تحاول أن تتلمس ولو بخطوط عريضة سيرورة هذه التحولات، وإمكان أن تكون مفصلا "تاريخيا" يضع حدودا "وينتج فروقا"، تمس بنية الثقافة العربية وأسئلتها وقراءاتها للواقع وتطلعاتها نحو المستقبل.

أعتقد أن لهذا الحراك أثرا "حاسما" على مستوى البنية والأنساق المغلقة، الفكرية والإيديولوجية والمنظومية، والتصورات التي تتعاطى مع مسائل الإنسان والوجود والمصير، الدولة والحرية والمجتمع والحق والقانون والعدالة وما يرتبط بالفرد والمجتمع من قيم.

وهذا ينبىء بانفتاح هذه البنية على العلاقات المنتجة لها، وبالتالي إعادة تركيبها خلال عملية بناء جديدة، ترفدها بعناصر ورهانات مختلفة تروم الخلاص من ربقة التقليد ودائرية الزمن اللتين وسمتا تلك البنية خلال تاريخ طويل من التخثر الثقافي، تعينت خلاله بوصفها بناء نسقي يحدد منتجات ثقافية يعاد تدويرها باستمرار.

لم تتضح مآلات الحراك الاجتماعي بعد، ولم يبلغ مراماته ومراميه السياسية والحقوقية والاجتماعية، ما يؤجل ظهور الأشكال والمضامين الثقافية المرتبطة بهذه التحولات المرجوة لكن هذا لا يعني عدم ارتسامها ولو بصورة أولية، ما يؤشر على أن حركة الشارع المشفوعة بتضحيات جسيمة، تعد بتوجهات ثقافية مختلفة منذ أن حملت مشروع الدولة والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية كرهانات أساسية، وأحلام رصدت لها الكثير من الدم والروح.

يكفي أن نعاين كيف أستطاع هذا الحراك امتلاك تعبيراته الثقافية وأدواته، من خلال الرقص والرسم والخط والأغاني والأفلام التسجيلية والوثائقية، وتوسل قصيدة النثر كانعتاق من إسار الوزن وما لهذا من دلالة الرغبة بالتحرر، حتى من سلطة الأدوات التقليدية للنص وتوجهات الجمالية الكلاسيكية.

في رأيي أن غياب الدولة بما هي تمثيل وتعبير سياسي عن الجميع، يشكل القانون والحياد والعمومية أبرز سماتها، وغياب الحريات والحقوق لاسيما حق التعبير والتفكير، لهو أبرز معوقات الانفتاح والتجديد الثقافي وبالتالي انغلاق البنية الثقافية على مطلقات ويقينيات وتهويمات إيديولوجية، تغيب فيها النسبية والتعددية والتلاقح، وبالتالي إمكانية إعادة التشكيل والتشكل، الأمر الذي حول البنية الثقافية إلى آلة جبارة لإعادة إنتاج المجتمع ثقافيا بوصفه قطيع، وبقيت أسئلة المعرفة والحرية والحق والإبداع مجرد مشاريع فردية على هامش الإنتاج الاجتماعي المعطل أساسا بفعل الاستبداد، وقوانينه الصارمة والمغلقة، وبالتالي بقيت أسئلة الثقافة غائبة عن المجموع وأصبحت أسئلة فردية قلقة ومترنحة، لا تجد تعبيراتها الجمعية.

حركة الشارع تعيد الاعتبار لسؤال عمومي في الثقافة وعن الثقافة، بما هو سؤال المجموع على الأقل في الجانب السياسي والحقوقي والقانوني منها، بوصف المجموع هو الحامل الموضوعي للثقافة، وتعيد الاعتبار للمثقف كذلك، بوصفه الحامل الذاتي الذي لا رقابة على وجدانه واعتقاده وتصوراته إلا ضميره وقوانين بلاده، ولا حاجة به لأن يكون خادما لما سوى الحقيقة.

باعتقادي أن جوهر الخلل في أحد وجوهه يتمثل بعلاقة مختلة بين السياسة والثقافة، قائمة على تكافؤ معدوم و توازن مختل، علاقة يهيمن فيها السياسي (المستبد) على المثقف القلق والمهزوم، وهنا ثمة رهان على قدرة الحراك في إعادة ترتيب الاصطفاف، حيث يقف المثقف في مكانه الطبيعي من هذه العلاقة كمعلم للسياسي، وتقف الثقافة في مكانها الطبيعي من هذه العلاقة بوصفها نسغا "يغذي بعدا إنسانيا" في السياسة.

ولا يغيب عن الذهن أن التحولات على الصعيد الثقافي تميل إلى الهدوء، كي تظهر في مجرى الزمن وتتعين في التاريخ.

(سورية)
المساهمون