كثيرون هم السوريون الذين لم يسجَّلوا كأزواج في السجلات الرسمية. ما زالوا "عازبين" و"عازبات" في نظر القانون. أمر ينعكس سلباً على أولادهم.
يعاني ملايين السوريين الذين يعيشون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، من غياب مؤسسات قانونية معترف بها دولياً تُعنى بشؤونهم. ويحتكم معظمهم اليوم إلى هيئات ومحاكم شرعية مختلفة، منبثقة عن فصائل المعارضة المسلحة التي تسيطر على مناطقهم والتي لا تحظى باعتراف قانوني لدى أيّ من مؤسسات دول العالم. أمّا اللاجئون السوريون في لبنان وتركيا على سبيل المثال، فتتعذّر على القسم الأكبر منهم الاستعانة بالمؤسسات القانونية المحلية، لعدم امتلاكهم إقامات شرعية فيها. وتترتّب على ذلك عواقب قانونية واجتماعية بدأت تتكشّف أخيراً، لعلّ أبرزها حالات الزواج غير المعترف بها قانوناً ومئات آلاف الأطفال غير المسجّلين قانوناً.
يوضح رئيس تجمّع المحامين السوريين الأحرار المحامي غزوان قرنفل أن "كلّ الوثائق القانونية التي تستخرج من الهيئات والمحاكم الشرعية في مناطق سيطرة المعارضة، لا تملك أيّ قيمة قانونية على الإطلاق. هي والعدم سواء". يضيف لـ "العربي الجديد" أنّه "في الواقع، كل دول العالم بما فيها تركيا ما زالت تعترف بنظام الأسد ومؤسساته كممثل قانوني وحيد للسوريين. بالتالي لا يستطيع السوريون الاستفادة من الوثائق الصادرة عن هذه الهيئات، لا في لمّ الشمل ولا في تسجيل أولاد العائلات. فوثيقة الزواج مثلاً ليست أكثر من مجرّد بيان للناس للتعريف عن فلانة وفلان كزوجَين. هي أشبه بعقد الزواج العرفي".
اليوم، يعمل عبد الله في تركيا فيما تعيش زوجته وطفله المولود حديثاً في ريف حلب. يقول "كنت أنتظر العثور على عمل حتى أتمكّن من لمّ شمل عائلتي. لكنّني حين تقدّمت بطلب عبر معبر باب الهوى، لم يوافقوا على ذلك، لأنّهم عدّوا عقد زواجنا في الهيئة الشرعية في حلب غير قانوني. حاولت إثبات صحّة زواجنا في المحاكم التركية، من دون جدوى". يضيف: "ولأنّ زوجتي لا تستطيع سلوك طريق التهريب مع طفل رضيع، لا أجد خياراً أمامي إلا العودة إلى حلب".
أولاد غير مسجّلين
يُعدّ عدم تسجيل الأولاد في قيود النفوس القانونية، إحدى أكبر مشاكل السوريين في سورية ودول الجوار. فيواجه هؤلاء الأطفال مشكلة انعدام الجنسية. يقول قرنفل إنّه "وفق تقديراتنا، يصل عدد الأطفال ممن هم ثمرة زواج غير قانوني وغير المسجّلين قانوناً، إلى ربع مليون طفل في سورية وخارجها". وحول مصير هؤلاء والحلول القانونية الممكنة، يشرح أنّه "أياً كانت طريقة انتهاء الصراع، لا شكّ في إيجاد حلّ قانوني لهؤلاء الأطفال. ومن ضمن الحلول التي يمكن تبنّيها، اعتماد وثائق الزواج التي صدرت عن الهيئات الشرعية أو المنظمات التي توثّق هذه الحالات، بغرض تسجيلهم على خانات آبائهم وأمهاتهم ومنحهم الجنسية".
إلى ذلك، فإنّ "في تركيا، بخلاف سورية، لا يوجد ما يسمّى تثبيت زواج، إنّما تسجيل زواج فقط". يضيف قرنفل أنّه "على السوريين الراغبين في تسجيل زواجهم في المحاكم التركية أن يعدّوا أنفسهم غير متزوّجين، ويبرموا من جديد صك زواج في البلدية. لكنّ المشكلة تقع عند الذين سبق وأنجبوا، إذ يُعدّ أولادهم غير شرعيين قانوناً".
مخاطرة بهدف التسجيل
يخاطر كثيرون في الذهاب إلى مناطق سيطرة النظام السوري، بهدف تسجيل أطفالهم في سجلات النفوس فيها والحصول على أوراق رسميّة معترف بها. يقول يوسف وهو مصوّر يعيش في الغوطة الشرقية (ريف دمشق) المحاصرة، إنّ "الناس بمعظمهم يسجّلون مواليدهم فقط في مركز نفوس تابع للهيئة الشرعية. والأمهات اللواتي يرغبنَ في الحصول على أوراق قانونية لأطفالهنّ، يخاطرنَ بالذهاب إلى دمشق عبر الأنفاق التابعة للفصائل العسكرية. بعدها يتوجّهنَ إلى دمشق ويسجّلنَهم قبل أن يعدنَ أدراجهنّ، مع ما يرافق ذلك من مخاطر كبيرة نظراً إلى احتمال اعتقالهنّ على الحواجز".
تخبر نورة التي تعيش في مناطق سيطرة المعارضة في إدلب (شمال) أنّه "طوال سنة ونصف السنة رحنا نحاول تسجيل طفلتنا في مناطق النظام عن طريق وسطاء، لكنّ جهودنا لم تفلح. كان لديّ شعور دائم بالذنب تجاه طفلتي، لأنّنا لا نستطيع أن نوفّر لها أبسط حقوقها... ورقة تثبت وجودها". تضيف أنّه "قبل نحو الشهرين، قرّرت المخاطرة وسافرت إلى مناطق النظام. على الرغم من بعض العقبات، إلا أنّني نجحت في النهاية".
يتامى بلا نسب
بعد ثلاث سنوات، تفاقمت مشكلة سميّة بسبب عدم تثبيت زواجها. لم تكن قد تجاوزت 17 عاماً عندما تزوّجت من أحد مقاتلي الجيش السوري الحر في ريف حلب، نزولاً عند رغبة والدها. كان الزواج بصورة عرفية عند أحد الشيوخ ومع شاهدين من المقاتلين رفاق زوجها. في إحدى المعارك، قضى زوجها، ونزحت لاحقاً مع عائلتها إلى مركز إيواء في مناطق سيطرة النظام في حلب. لا تسلم سميّة من المضايقات ومن الاتهامات القائلة بأنّ طفلتها غير شرعية. تقول: "فشلت كل محاولاتي لتسجيل ابنتي، إذ لم تعترف المحكمة بزواجي. رفعت قضية أطالب فيها بتثبيت زواجي وتسجيل طفلتي، لكنّ القاضي طلب إحضار شاهدَي الزواج، وهذا أمر مستحيل. فاطمة تكبر ولا تملك أيّ أوراق رسمية".
بالنسبة إلى قرنفل، "ثمّة أطفال كثيرون فقدون آباءهم وهم ثمرة هذا النوع من الزواج. لذا تعاني أمهاتهم في إثبات نسبهم. في هذه الحالة، على الأرملة أن تتقدّم بعقد زواجها العرفي، فيما يتوجّب حضور الشهود لتأكيد واقعة الزواج. بهذه الطريقة فقط تستطيع تثبيت نسب أولادها".
حلول محدودة
ويرى قرنفل أنّ "أحد أبرز أسباب الفوضى القانونية الحاصلة هو قصر نظر فصائل معارضة مسلحة كثيرة، عمدت إلى نسف البنية القانونية في مناطق سيطرتها وقد عدّتها ملكاً لبشار الأسد في حين أنّها ملك للسوريين". ويوضح أنّ "كثيرة هي تلك الجهات التي أوقفت عمل مؤسسات الدولة من دون أن تملك أيّ حلول بديلة. هذه الهيئات الشرعية تتحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية، لأنّها بنظر القانون ارتكبت جرم اغتصاب المسؤولية القانونية".
وعن الحلول المتوفّرة أمام السوريين لتجنّب ما يمكن من مصاعب قانونية، يقول قرنفل: "بالنسبة إلى اللاجئين في الأردن أو لبنان أو تركيا، من الأفضل أن يحاولوا جاهدين تسجيل زواجهم لدى سلطات الدولة حيث هم. أمّا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فيمكنهم التوجه إلى مناطق تخضع لسيطرة المعارضة لكنّها ما زالت على صلة بالمؤسسة القانونية الرسمية، ومنها محكمة معرة مصرين في إدلب على سبيل المثال. في الواقع، لا خيارات أخرى حتى اليوم".