زيارة ماكرون الصينية: صفقات بالمليارات واستعادة دبلوماسية الخيول

11 يناير 2018
أوروبا لا تلقى كثيراً من الاحترام (شارل بلاتيو/فرانس برس)
+ الخط -

السياسة الفرنسية عادة تتأسس على ثلاث ركائز، الصفقات الاقتصادية وشيء من الثقافة وقليل من التذكير بحقوق الإنسان، حين يكون الأمر مسموحاً به. وطبعاً في ما يخص زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى بكين، فقد توفر البندان الأولان وغاب الثالث. لقد أعدّ ماكرون العدة جيداً، لزيارته الصين، الحليف لفرنسا في قضية المناخ، بعد أن تخلى عنها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. وشاء لهذه الزيارة أن تكون تاريخية بمقاييس عديدة. كيف لا وفرنسا والصين يتعايشان في أفريقيا منذ عقود، بعد أن قررت الصين الانفتاح، بكلّ ثقلها، على القارة السمراء والاستثمار فيها، خصوصاً في مناطق نفوذ فرنسا.

وتأتي الزيارة في ظروف ملائمة لفرنسا، في ظل المتاعب التي تعاني منها المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، في أفق تشكيل حكومتها الجديدة، علماً أن ألمانيا هي الشريك الاقتصادي الأهم بالنسبة إلى الصين. هذا الأمر يطرح سؤالَ من المستفيد الأكبر من الزيارة؟ هل هو ماكرون أم نظيره الصيني، شي جين بينغ؟ لكن الحقيقة أن ماكرون هو من يصبو لتحقيق الكثير، حتى وإن حرص على التذكير أنه لم يأت من أجل عقود كبرى لا تتحقق في النهاية، في إشارة إلى تبجح ترامب بعد زيارته الأخيرة إلى بكين. فالصين مرتاحة بتربعها في المرتبة الثانية على عرش الاقتصاد العالمي، وتستطيع أن تشتري التكنولوجيا من بلدان عديدة، وليست فرنسا هي الحل الوحيد أو الضروري، كما أن فرنسا هي من يعاني من عجز تجاري في مواجهة العملاق الصيني.

وقد أعدّ لكل شيء في الزيارة حتى تبدو ناجحة، بما فيها خطاب ماكرون، الخالي من أي زلة لسان، والمتحبب إلى الصينيين، والذي يُذكّر أحد أكثر البلدان تلويثاً في العالم بإيجابيات الحفاظ على مناخ ملائم. كما أن دبلوماسية الحيوانات لا تزال مفيدة، للشكل، طبعاً. فبعد حيوانات الباندا العملاقة التي أعارتها بكين إلى باريس، لم يجد ماكرون أفضل من إهداء حصان فرنسي عريق لنظيره الصيني. هذا الحصان القادم من الحرس الجمهوري، مع سرج يعود إلى سنة 1874، إضافة إلى سيف نقش عليه اسم إيمانويل ماكرون. هذه الأشياء الرمزية لها سحرها، ويمكن أن تبيع بعض الورق، كما يدل على ذلك الاهتمام الجماهيري الصيني بزيارة ماكرون لبلادهم، لكن نظرات العملاق الصيني تتجه إلى أماكن أخرى. بكين تريد صفقات اقتصادية مهمة، ولا تريد من أحد، خصوصاً إذا حل ضيفاً عليها أن يعطيها دروساً في حقوق الإنسان. وتستطيع، بسهولة، أن تصبح عدوانية، وتنتقم اقتصادياً من مهاجميها، وهذا الأمر يعرفه ماكرون جيداً.

يريد ماكرون زيادة الاستثمارات الصينية في فرنسا، لأن الاستثمارات الفرنسية في الصين أكبر. لكنه، في الوقت ذاته، يريد استثمارات طويلة المدى، ولا تنصب على امتلاك التكنولوجيا الفرنسية فقط. ولا تطمح فرنسا، بسهولة، أن تحل محل ألمانيا، أفضل زبائن الصين. فالسبق التاريخي كبير، والألمان أكثر براغماتية من الفرنسيين. إضافة إلى بعض العوائق التي لا يمكن لفرنسا أن تغفل عنها. وهي تنفتح أكثر على الصين، تدرك جيداً أن عليها ألا تغضب دولاً أخرى منافسة للصين، كالهند وفيتنام واليابان، بالإضافة إلى أن هناك مقترحات مشتركة للبلدان الأوروبية تم التنصيص عليها في منتدى "طرق الحرير"، في بكين عام 2017. وكان المقترح الأوروبي، الذي لا يزال التنين الصيني يرفضه، يقتضي بتبنّي قواعد الحوكمة الأكثر نزاهة.

وإذا كان الوفد الصناعي المرافق للرئيس الفرنسي يعبّر عن رضاه عن نتائج الزيارة، فإن ماكرون تحدث عن صفقة تقدر بـ18 مليار يورو لشراء 184 طائرة "إيرباص إي 320". كما هنّأ مربي الماشية الفرنسيين بقرب رفع الحظر الصيني عن لحم البقر الفرنسي، منذ تفشي ما يعرف بجنون البقر في عام 2001. ويستطيع الفرنسيون أن يعبروا عن الارتياح بسبب اتفاق آخر حول النووي، بقيمة 10 مليارات يورو، وهو ثمرة 10 سنوات من المفاوضات الشاقة حول بناء مصنع لمعالجة الوقود المستخدم في المفاعلات الصينية، وهو ما يمنح بعض الفخر لماكرون لقدرته على إنقاذ شركة "أريفا"، التي أصبحت كل أنشطتها منصبة على اليورانيوم، من الانهيار. ولأن فرنسا لن تكون فرنسا من دون ثقافة، وهو ما يعرف بـ"الاستثناء الفرنسي"، فإن هذه الزيارة تمخضت عن اتفاق سيوقع، في الأشهر الستة المقبلة، من أجل تأطير إنشاء "مركز بومبيدو مؤقت" خلال فترة خمس سنوات في مدينة شنغهاي.

واختتم ماكرون، أمس الأربعاء، زيارته الأولى إلى الصين بدعوة إلى التحام الأوروبيين في مواجهة "قوة النار" الصينية. وهيمنت على زيارة ماكرون مبادرة "طرق الحرير الجديدة"، المشروع الصيني الضخم لإقامة بنى تحتية تربط البلد بأوروبا وآسيا. ومن بين الدول التي تستهدفها هذه المبادرة، عدد من بلدان شرق أوروبا وجنوبها، وهي عموماً تسارع إلى قبول الأموال الصينية بما في ذلك في قطاعات استراتيجية، مثل اليونان التي باعت قسماً من مرفأ "بيريوس" لشركة شحن صينية عملاقة. وقال ماكرون، خلال مؤتمر صحافي عرض فيه حصيلة زيارته، إن "بعض الدول أكثر انفتاحاً على المصالح الصينية، وأحياناً على حساب المصلحة الأوروبية. لا يمكن أن نأخذ عليها ذلك، لأننا أرغمناها على القيام بعمليات خصخصة أليمة جداً". واعتبر أن أوروبا لا تلقى الكثير من الاحترام في الصين، طالما أنها منقسمة وعاجزة عن الدفاع عن قطاعاتها الاستراتيجية، داعياً دول الاتحاد الأوروبي إلى تبني موقف مشترك في مواجهة بكين يغلب المصلحة الأوروبية على مصالحها الوطنية على المدى القريب. وأضاف "سيتحتم علينا وضع موقف مشترك على المستوى الأوروبي" إزاء طرق الحرير الجديدة لأن "هذه المبادرة لا يمكننا تجاهلها، فهذا سيعني أننا قررنا الرضوخ لها، وهذا سيكون خطأ استراتيجياً جسيماً"، مقراً بأن المشروع الصيني يثير انقسامات في التكتل الأوروبي. وتابع "لا يمكن للصين أن تحترم قارة حيث قسم من الدول الأعضاء يشرع أبوابه ويبيع بنى تحتية أساسية فيه لمن يقدم أفضل عرض. وبالتالي، حين تقوم فرنسا أو أوروبا بالدفاع عن قطاعاتها الاستراتيجية، فهذا أمر جيد لنا وللحوار في آن".

المساهمون