ذكرى زيارة السادات إلى لقدس: 40 عاماً من نزيف السياسة والاقتصاد

19 نوفمبر 2017
خطاب السادات أمام الكنيست أصبح حجر الأساس للتسوية (Getty)
+ الخط -

تمرّ اليوم ذكرى 40 سنة على زيارة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، إلى القدس المحتلة، وإلقائه خطاباً "تاريخياً" أمام الكنيست الإسرائيلي، أصبح حجر الأساس لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل الموقعة في 17 سبتمبر/ أيلول 1978، والتي ما زالت مثار جدل واسع في المجتمع المصري، خصوصاً بعدما فرض السادات تمريرها على مجلس الشعب في حينه، وأغلق خلفاؤه الباب في وجه مطالبات متكررة بتعديلها أو إلغائها للتحلل من تلك الصداقة الباردة.

تحل المناسبة والإعلام المصري يرزح تحت سيطرة سياسية وتنفيذية شبه كاملة من نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. فليس من الوارد شيوع الخطابات الإسلامية والناصرية المهاجمة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتي يخوّن بعضها السادات والرئيس المخلوع، حسني مبارك. كذلك ليس من الوارد فتح نقاش جاد حول ما استفادت منه مصر، أو خسرته، من زيارة السادات، ومن إبرام الاتفاقية، لا سيما أن السيسي هو أول رئيس مصري يجاهر صراحة باعترافه بالقدس "الشرقية" عاصمة لإسرائيل، بعد سنوات من إصرار مصر الرسمية على أن القدس مدينة عربية، أو تجاهلها طرح المشكلة أو تأجيل حسمها إلى حين إنهاء ملفات أخرى، كإعلان الدولة الفلسطينية وتمكينها من الحياة.

فالسيسي، الذي يعتبر أول رئيس مصري من خلفية عسكرية لم يخض حرباً ضد إسرائيل، يعتبر أن هناك ضرورة لتطوير اتفاقية السلام وتوسيعها لتشمل دولاً عربية أخرى، على رأسها السعودية، بل إن الوثائق المتبادلة بين القاهرة وتل أبيب، والتي أرفقت باتفاقية تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، كشفت بما لا يدع مجالاً للشك أن السعودية باتت طرفاً رئيسياً في العلاقات الأمنية مع إسرائيل، عبر دخولها كطرف أساسي لتنظيم الأوضاع في خليج العقبة. كما أن الخطاب الرسمي والسري الذي ينتهجه السيسي، لتسويق سياساته في الدول الغربية، أصبح قائماً على "حرصه على أمن المواطن الإسرائيلي إلى جانب أمن المواطن الفلسطيني"، وكذلك "حل المشكلة الفلسطينية، لأنها الذريعة الأساسية للإرهاب في الشرق الأوسط"، وهو ما يجد ترحيباً من الدوائر اليهودية والصهيونية النافذة في مختلف دول العالم، خصوصاً الولايات المتحدة، والتي يوليها السيسي اهتماماً كبيراً، بالحرص على مقابلة قياداتها، سواء في القاهرة أو لدى زياراته إلى واشنطن ونيويورك.

وبينما يزداد المجتمع المصري رفضاً لتطبيع العلاقات، بحسب مراقبين سياسيين، يتدنّى مستوى الخلافات الظاهرة بين الدولتين كثيراً في عهد السيسي، خصوصاً في الملفات الأمنية والسياسية. فعلى سبيل المثال، بدا الطرفان متناغمين في ما يخص تنفيذ خطة إدخال السعودية كطرف، بصورة غير مباشرة، في اتفاقية السلام. وفي فبراير/ شباط الماضي، أعلن الوزير الإسرائيلي، أيوب قرا، أن السيسي لديه خطة لإقامة دولة فلسطينية في غزة وسيناء لتخفيف الضغط في الأراضي المحتلة. ولم تنف الرئاسة المصرية ذلك صراحة، بل كررت حديثها عن حرصها على إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. كذلك يتطوّر التعاون الأمني والعسكري بينهما على صعيد محاربة تنظيم "ولاية سيناء"، التابع لتنظيم "داعش" في شمال سيناء، إلى حد شن غارات مشتركة أحياناً، والسماح لإسرائيل بتنفيذ عمليات جوية محدودة داخل الحدود المصرية، بحسب شهادات متواترة من الأهالي، وهو ما لم يكن مطروحاً على الإطلاق في العهود السابقة.



ويحمل الملف الفلسطيني إحباطات مصرية أخرى تتعلق بإسرائيل. فبعد عقود من التنسيق المباشر بين الجانبين في التعامل مع الفصائل الفلسطينية، قطعها فقط نجاح مصر في عهد رئيسها المعزول، محمد مرسي، في رعاية وقف الحرب على غزة في عام 2012، ما دفع حركة "حماس" لإعلان انتصارها، وهو ما لم ترحب به إسرائيل، كان السيسي يظن أن جهوده المدعومة مالياً من الإمارات والمباركة من السعودية لإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة ستكون باعثاً لارتياح إسرائيلي وأميركي يرفع أسهمه كقائد له وزنه في المنطقة. إلّا أن ردة الفعل من الدولتين لا تشي بهذه الحفاوة، في ظل الارتياب الإسرائيلي الدائم من حركة "حماس"، وعدم ترحيبها باستمرار محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للسلطة، ومحاولة الأخير بطرق شتى بعثرة الأوراق، قطعاً لطريق عودة خصمه اللدود محمد دحلان من الإمارات.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تكف بين فترة وأخرى عن بث مزاعمها بعدم ملاءمة الظروف الأمنية في مصر لإقامة سفيرها، كنوع من الضغط على القاهرة لتحسين عوامل تأمينه، إلّا أن نظام السيسي اعتاد عدم الرد على هذه المزاعم، حتى عاد السفير الإسرائيلي، دافيد غوفرين، إلى القاهرة في أغسطس/ آب الماضي، وذلك بعد تسعة أشهر في إسرائيل، ليتحرك بسهولة بين المدن المصرية المختلفة، إلى حد زيارته ضريح الحاخام اليهودي، "أبو حصيرة" في محافظة البحيرة شمال شرقي دلتا النيل، للمرة الأولى منذ 2011. علماً أنه سبق أن صدر حكم قضائي في عام 2014 على خلفية "وطنية معادية لإسرائيل" لمنع الاحتفال بذكرى الحاخام، ولشطب ضريحه من قائمة الآثار تمهيداً لهدمه.

تردّي العلاقات الإقليمية

وفي وقت تتردّى فيه علاقة مصر بمحيطها الإقليمي الأفريقي، عبر خلافات مع السودان وإثيوبيا وكينيا بشأن مشروع سد النهضة وحصص النيل، تتخللها محاولات للوجود الفعال في جنوب السودان وليبيا واستئناف العلاقات الدافئة مع أوغندا، تقف اتفاقية السلام عائقاً أمام اتخاذ خطوات ملموسة للتصدي للتوغل الإسرائيلي في وادي النيل، سياسياً واقتصادياً، إلى حد مشاركة إسرائيل الآن في إنشاء وإدارة 33 مشروعاً للري في إثيوبيا وحدها، فضلاً عن تعاون أمني وزراعي وصناعي، يدخل ضمن 13 مليون دولار، تخصصها إسرائيل سنوياً لتعزيز العلاقات مع الامتداد الاستراتيجي الجنوبي لمصر. وبدلاً من اتخاذ مصر مبادرات فعالة لمجابهة هذا التوغل الذي يقترب من التطويق، استعان السيسي، بدءاً من العام الماضي، برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لمحاولة حلحلة أزمة سد النهضة، علماً أن شركة كهرباء إسرائيلية تساهم فيها الحكومة تتولى إدارة قطاع الكهرباء في إثيوبيا منذ 2012، بما في ذلك تقديم الاستشارات وإدارة مشروعات إنشاء محطات الطاقة، ومنها الخاصة بسد النهضة.

وحصيلة مواقف التماس بين الدولتين المرتبطتين بعلاقة سلام رسمية غير مترجمة اجتماعياً، أن القاهرة لم تعد قادرة على الجهر بمخاوفها ومشاكلها إزاء إسرائيل، بل إن الوضع بعد 40 عاماً يبدو كحراك من طرف واحد يستغل السلام المعلن لتحقيق مزيد من النجاحات مقابل عجز متنامٍ لمصر، وتقزيم دورها الإقليمي، والذي كان قائماً يوماً ما باعتبارها دولة الممانعة الرئيسية والمناوئ الأول للمطامع الإسرائيلية في المنطقة. هذا الدور المصري الكبير بدأ بالتراجع قبل 40 عاماً، إذ فصلت الزيارة المسار العسكري المتلازم بين مصر وسورية للمرة الأولى منذ الخمسينيات، كما أبعدتها عن المعسكر العربي الإسلامي المعادي للصهيونية الذي كان متمسكاً باستمرار مجابهة إسرائيل بصور شتى. وبعد توقيع الاتفاقية، تحديداً في نوفمبر/ تشرين الثاني 1978، عقدت القمة العربية في بغداد، التي قررت تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية لخرقها حظر عقد صلح منفرد مع إسرائيل، ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة.




وعلى الرغم من عودة مصر إلى الجامعة والمقر إلى القاهرة في عام 1989، واحتفاء نظام مبارك بذلك، تزامناً مع تحسن علاقاته بالعراق والأردن واليمن وتشكيل مجلس التعاون العربي الذي كان ينظر إليه كتجمع إقليمي مناوئ لمجلس التعاون الخليجي، إلّا أن تغيير مبارك بوصلته الإقليمية، استجابة للتوجيهات الأميركية، نحو دول الخليج، وبالأخص السعودية والإمارات، بالمشاركة في حرب تحرير الكويت، أضاف عاملاً جديداً لتقزيم الدور الإقليمي المصري وتكريس صورتها كتابع لقوى إقليمية أصبحت بكل وضوح أكثر نفوذاً بالمال والإعلام والقدرة على إعلان مواقفها. واجتمع العاملان ليكرّسا واقعاً جديداً هو انعزال مصر، واتساع الفجوة بين شواغلها وشواغل أشقائها العرب، ما أدى تدريجياً إلى تحول علاقاتها إلى البرود الدبلوماسي المقتصر على الغرف المغلقة واتفاقات التشغيل والتجارة، ما سمح بنقل ريادة المنطقة إلى دول أخرى. وتفاقم الأمر في عهد السيسي إلى مقاربة مصر القضايا العربية، إما في صورة صفرية لا تبدي أي موقف، أو في صورة التبعية، للسعودية والإمارات تحديداً، كما تجلّت في الأزمة الحالية لحصار قطر.

مزيد من الأعباء الاقتصادية

أما على الصعيد الاقتصادي فلم تجنِ مصر من تطبيع العلاقات إلا مزيداً من الأعباء على اقتصادها المأزوم أصلاً. فمع مرور 12 سنة على توقيع اتفاق تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى إسرائيل، ومنح شركة الغاز الإسرائيلية إعفاءً ضريبياً خاصاً لمدة ثلاث سنوات للمساهمة في شركة شرق البحر الأبيض المتوسط للغاز، التي كان يديرها بشكل أساسي رجل الأعمال حسين سالم المقرب من نظام الرئيس المخلوع، حسني مبارك، نجد أن مصر قد تحولت إلى خانة محاولة استيراد الغاز من إسرائيل بدلاً من تصديره. كما أن التجربة باتت تُثقل كاهلها بغرامات وقعها التحكيم الدولي تتجاوز 1.7 مليار دولار لمصلحة شركة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية. ودفعت مصر، أكثر من مرة، ثمن مسارعة نظام مبارك إلى عقد ذلك الاتفاق مع إسرائيل، بالمخالفة لإرادة الشعب المصري وعدم تحضير حاضنة شعبية لهذه الإجراءات. فبدأت الخسائر في عام 2008 بصدور حكم قضائي بوقف تصدير الغاز لانخفاض السعر المتفق عليه عن المستوى العالمي، ثم في فبراير/ شباط 2010 أصدرت المحكمة الإدارية العليا، وهي أعلى جهة قضائية إدارية في مصر، حكماً نهائياً وباتاً بإلزام الدولة بإعادة النظر في الأسعار المتفق عليها وإلغاء الحد الأقصى لسعر التصدير المسترشد بسعر برميل البترول الخام، وذلك في ظل أزمة طاحنة ضربت البيوت المصرية بنقص أسطوانات الغاز في فصل الشتاء، ثم إقدام حكومة مبارك، في صيف 2010، على قطع الكهرباء عن معظم مناطق الجمهورية ترشيداً لاستهلاك الكهرباء.

ونظراً لاتساع الهوة بين ما يترتب على التعاقد من تفريط في حقوق المصريين ومخالفة مزاجهم العام، وبين الواقع الاقتصادي المؤلم، شهد العام التالي لثورة يناير/ كانون الثاني 2011 ظهور مطالبات عديدة بإلغاء الاتفاقية أياً كان الثمن، تبعتها وقائع عدة لتفجير خطوط تنقل الغاز لإسرائيل، ما ترتب عليه خلاف حاد بين الحكومتين، إذ لم تلتزم إسرائيل بدفع الأقساط الشهرية المستحقة عليها، بحجة عدم قدرة، أو عدم إرادة مصر، لوقف عمليات تفجير خطوط الغاز، حتى جرى فسخ التعاقد من الطرف المصري في إبريل/ نيسان 2012. وكانت النتيجة أن إسرائيل لجأت إلى التحكيم الدولي في اتجاهات عدة، منها مركز تسوية منازعات الاستثمار (إكسيد) عبر دعوى أقامها المساهمون الأميركيون في الشركة المستوردة. كذلك لجأت شركة الكهرباء الحكومية إلى المحكمة الفدرالية العليا السويسرية، لتستصدر منها حكماً قياسياً بتغريم مصر 1.7 مليار دولار، وهو ما يفوق قدرة الحكومة المصرية على الدفع حالياً، ما أجبرها على اتباع إجراءات قانونية أكثر تعقيداً للطعن على الحكم، وملاحقة إسرائيل بدعاوى تحكيم أخرى.

وعلى الرغم من تطور العلاقات بين نظام السيسي وإسرائيل سياسياً، إلا أن ترك هذا الملف عالقاً لا يضر بمصالح مصر المباشرة بتهديد التحفظ أو مصادرة ممتلكات لها في الخارج كنوع من إجراءات تنفيذ الحكم وحسب، بل أيضاً يعرقل عمليات استثمارية ضخمة تحتاجها مصر حالياً لإنعاش اقتصادها. فهذا الحكم يبعث برسالة سلبية للمستثمرين المنفردين والدول بعدم التزام وجدية الدولة المصرية في حماية المستثمرين والتعاقدات.
وساهمت هذه الظروف، مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر منذ ست سنوات، في تحويلها إلى دولة مستوردة للغاز بعدما كانت تصدره فقط، وذلك حتى إشعار آخر يتمثل في دخول الحقول الجديدة المكتشفة شمال شرق الدلتا، والمدارة بواسطة شركة "إيني" الإيطالية، إلى الخدمة. ولذلك سمحت الحكومة المصرية لشركاتها باستيراد الغاز من إسرائيل، وتم بالفعل عقد اتفاقات مبدئية مطلع العام الحالي، إلّا أن استمرار تعثر الملف القانوني السابق ذكره، دفع القاهرة إلى اتخاذ خطوة أخيراً بمنع شركاتها من الاستيراد إلى حين حل قضايا التحكيم المختلفة، وعلى رأسها القضية الإسرائيلية، الأقسى تكلفة لمصر.

التبادل التجاري

أما في ملف التبادل التجاري والعلاقات الصناعية والزراعية المشتركة، فالواقع أن الدعاية التي روجها أنصار التطبيع، على نطاق واسع في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عن المكاسب المضمونة لكل مصري بإنهاء المقاطعة الاقتصادية بين الدولتين، محض خيالات، حتى بعد إقرار اتفاقية "الكويز" في عام 2004 التي اشترطت أن تتضمن الصادرات المصرية لأميركا مكونات إسرائيلية لتحظى بالإعفاء الجمركي والعكس بالنسبة للصادرات الإسرائيلية، والتي تم الترويج لها أيضاً بدعوى أنها ستوفر 400 ألف فرصة عمل في مصانع الغزل والنسيج المصرية، التي جرت خصخصة معظمها وتسريح قطاعات واسعة من عمالتها وبيع بعضها لمستثمرين أجانب. وتظهر الأرقام الرسمية أن الاستثمارات الإسرائيلية المباشرة في مصر توقفت عند حد إنشاء سبع شركات، بنظامي المساهمة والمناطق الحرة. كذلك تراجعت بشكل ملحوظ مشروعات التعاون الزراعي والعلمي في مجال الإنتاج الحيواني بعد تعرض سياسات مبارك في هذا السياق إلى انتقادات شعبية قاسية. أما حجم التبادل التجاري فهو في تراجع مستمر، خصوصاً بعد خلع مبارك. ففي عام 2011 استوردت مصر من إسرائيل منتجات بقيمة 236 مليون دولار، وصدّرت بقيمة 178 مليون دولار، وفي 2014 استوردت بقيمة 147 مليون دولار وصدرت بقيمة 58 مليوناً، وفي 2015 استوردت بقيمة 113 مليون دولار وصدّرت بقيمة 55 مليوناً فقط. أما في 2016 فأشار تقرير وحيد من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن القيمة الإجمالية تراجعت بنحو أربعة ملايين دولار.

والحاصل من هذه الأرقام أن تبادلاً تجارياً بهذه القيمة لا يحمل أي إضافة للاقتصاد المصري، خصوصاً أن السلع المستوردة ليست متفردة، ويأتي استيرادها في الغالب لإتمام شروط التصدير لأميركا، على عكس إسرائيل التي استفادت مادياً بفتح أسواق جديدة لها في المنطقة، وبتسويق تجربتها مع مصر كانطلاقة لإقامة تعاون اقتصادي مع دول عربية أخرى. كما أن استيرادها الغاز والبترول المصريين كان له دور كبير في دعم أنشطتها الصناعية والاستهلاكية خلال السنوات السبع السابقة على فسخ التعاقد. لكن التوجهات الجديدة لنظام السيسي، المغازلة لإسرائيل والدوائر اليهودية الأميركية، دفعت وزارة الصناعة إلى تبني مقابلات لم تعلن عنها في الإعلام المصري بين رجال أعمال مصريين وإسرائيليين في القاهرة وتل أبيب، لزيادة التبادل التجاري ومضاعفة حجم الأعمال المستهدفة باتفاقية "الكويز"، وذلك على مدار 2016 و2017، لتكون هذه الاجتماعات هي الأولى التي تعقد منذ عهد وزير الصناعة الأسبق، رشيد محمد رشيد، الذي كانت لشركاته الخاصة الريادة في التعامل مع إسرائيل تطبيقاً لاتفاقية "الكويز".

المجال السياحي

أما المجال السياحي، الذي يظن بعضهم أنه "درة التاج" للعلاقات الاقتصادية بين الدولتين، فالواقع أن إسرائيل تحتل مركزاً متأخراً على قائمة الدول المصدرة للسياحة إلى مصر، وبما لا يتناسب مع التسهيلات التي يحصل عليها الإسرائيليون للتردد على منتجعات جنوب سيناء الأقرب إليهم من الداخل المصري. فأكبر عدد لهم كان نحو 227 ألفاً في 2010، وبعد خلع مبارك تراجعت الأعداد بشكل مذهل، لا سيما مع حدوث اضطرابات في شمال سيناء. وفي عهد السيسي تزايدت الأعداد تدريجياً، لكنها بلغت في حدها الأقصى 151 ألف سائح في 2016 من إجمالي 5.3 ملايين سائح، قضى معظمهم عطلات قصيرة في منتجعي طابا ودهب، أخذاً في الاعتبار أن إسرائيل هي أكثر دولة شرق أوسطية أصدرت تحذيرات لرعاياها من السفر لمصر، إلى حد إغلاقها معبر طابا في مارس/ آذار الماضي.

الجيش والشرطة يحصدان الثمار

وعلى الصعيد الداخلي الاجتماعي والسياسي، كان الخطاب الساداتي منذ 40 عاماً يروج للسلام مع إسرائيل كنهاية مرجوة لحالة التضييق على الحريات وإنفاق معظم موازنة الدولة على الجيش والشرطة، والانتقال إلى مرحلة جديدة من قطف ثمار السلام والتنمية وتطوير مرافق الدولة المختلفة. وبالفعل شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حركة متنامية في هذا الاتجاه، لكنها تزامنت مع بداية التفات الجيش والشرطة إلى حصد النصيب الأكبر من هذه الثمار، فشهد العقد الأول من عهد مبارك إصدار تشريعات تسمح لكل منهما بتملك الأراضي وإقامة المشروعات، ثم في مرحلة لاحقة ضمان استقلال اقتصاد الجيش تحديداً وانفصاله عملياً عن موازنة الدولة. وكانت الحجة أن القوات المسلحة قدمت كثيراً في فترة الحروب، وبات من الواجب تمتعها بقدر وفير من ثمار السلام.

وبمرور 4 عقود بدا جلياً ابتعاد الواقع عن الأهداف المرجوة، ليس فقط لأن الجيش استمر محتفظاً بالسلطة بصور مختلفة، عدا في عام واحد، أو أن سلطاته اتسعت على الصعيد الاقتصادي، في ظل تهديد دائم بأن "البلد في حالة حرب"، بل أيضاً لأن التطبيع مع إسرائيل، مع عدم سعي الدولة لفتح المجال العام والاستماع إلى الآراء المخالفة، أدى إلى زيادة التوتر والسخط الاجتماعي، فوجدت الجماعات المتطرفة مساحة واسعة للتحرك، بل وتطوير الخطاب التكفيري ليشمل شرائح أكثر من المواطنين، وليبلغ حد السعي لإنشاء إمارات إسلامية في سيناء والصحراء الغربية في عهد السيسي، باعتبار الدولة المصرية كافرة بذاتها، بالإضافة إلى الترويج لأسباب معاداتها، بأنها طبّعت مع دولة مغتصبة لأرض عربية إسلامية.

ويرتبط هذا الإشكال مع أمر أكثر خطورة كان نتيجة مباشرة لاتفاقية السلام، وهو إخلاء معظم أجزاء شبه جزيرة سيناء، خصوصاً في شمالها، تنفيذاً لبروتوكولات الوجود الأمني المرفقة بالاتفاقية، ورغبة إسرائيل في استمرارها خالية من صور التنمية والعمران، سواء لأسباب استراتيجية أو للترويج لاحقاً لمشروع إنشاء وطن للفلسطينيين في سيناء. وابتداءً من 2011 دفعت مصر ثمن هذا الإخلاء المتعمد والتقصير الحكومي في حق أهالي سيناء في صورة تصاعد الخصومة بين مواطنيها المهمشين وأجهزة الدولة، ثم إيجاد حاضنات اجتماعية وجغرافية للمجموعات المتطرفة التي حملت السلاح صراحة ضد الجيش المصري، ابتداءً من حادثة استهداف المجندين في رفح، في عهد مرسي، وصولاً إلى إعلان جماعة "أنصار بيت المقدس" وغيرها من المجموعات مبايعة تنظيم "داعش" وإنشاء تنظيم "ولاية سيناء"، في الوقت الذي تسعى فيه مجموعة "جند الإسلام" التابعة إلى تنظيم "القاعدة" إلى إنشاء إمارة لها أيضاً. ويعجز المراقبون والدولة عن تصور نهاية قريبة للمعارك العسكرية المستمرة التي تكبد الدولة مليارات الجنيهات، وتعطي النظام الحاكم سبباً لاستمرار غلق المجال العام وقمع حقوق الإنسان باسم مكافحة الإرهاب.

المساهمون