لم يجد طاولةً فارغة يجلس إليها في كافتيريا جريدة "الغد" الأردنية. فالصحافيون يتحلّقون حول الطاولات، يتبادلون أخبار العالم، بينما هو يقف عند الباب، ما يتيح له إشعال سيجارة ليبقى داخل المنطقة المخصصة للتدخين، وعينُه على النافذة.
هكذا كان اللقاء الأول بالشاعر زياد العناني (1962)، الذي دفعني فضولي ووصف بعضهم له بـ"الجدلي"، إلى التعرف إليه. فطلبت منه أن يجلس مكاني، لأقف أنا عند ذاك الباب وأنوب عنه في التحديق من النافذة، لكنه رفض.
لم يكن طلبي بريئاً أو شكلاً من اللياقة الاجتماعية التقليدية، بل كان بهدف الحديث معه. فرغ كرسي فدعوته مرّة أخرى، جاء مُواصلاً تحديقه عبر النافذة وقال: "وجودنا هنا، في الجريدة، ليس سوى ساعات عملٍ سوداء، ثمة الكثير يحدثُ هناك، في الحياة، على غفلةٍ منّا".
أخذَنا الحديث عن الشعر إلى "خزانة الأسف"، مجموعته الأولى الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، والتي استهلّت الرقابة الأردنية الألفية الثقافية الجديدة بحظرها. وحين يُسأل العناني عن سبب "إقفالِها"، يكتفي بالاقتباس منها: "أمّي/ دوّخَها السُّكَّرُ/ بتروا قدميها/ أمّي.. أمّي.. أمّي../ ماذا عني؟ / كيف سأبحثُ عن جنّة ما قالوا/ تحت الأقدام". ثمّ يضيف: "هنالك جزءٌ مني لا يزال على الحدود".
والمفارق في الأمر أن بتْر قدمَي أمّه لم يكن سوى تساؤلٍ شِعري افتراضي لما قد يكون. والذي "دوّخه السُّكّر" في الحقيقة كان زياد نفسه، فبُترت ساقه اليُسرى لأن "الغرغرينا" وصلتها بعد سنة من إصابته بجلطة دماغيّة في صيف 2011، وتدهورت حالته الصحية بشكلٍ كبير وتعطّل نطقُه. ما يُعيدنا إلى مجموعته "تسمية الدموع" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - (2004) التي ورد فيها ما يُشبه النبوءة: "كأنّني مجموعةٌ من شيوخٍ/ أمضوا حياةً غابرةً في غاية الألم/ ثم استراحوا فوق مصطبة الوداع بأعضاءٍ/ ترتجفُ كما يرتجفُ الديكُ/ المذبوح".
يمضي العناني وقته الآن في بيته، مُتّكئاً على أريكته يشاهد التلفاز، ويواصل التدخين معارضاً سلطة الطبيب والعائلة. ورغم الصعوبة الشديدة التي يواجهها في النطق، إلا أن لذاكرة الأغنيات معجزتها، إذ توقظ حنجرته وتطلق لسانه، لينتقي ما يفضّل من الأغاني وينشد بصوته - المبحوح دائماً: "أنا قلبي ليك ميال"، ويطرب رأسه متمايلاً حين يصل إلى "إنت وبس اللي حبيبي".
وما أن ينتهي من الغناء حتى "يتورّط في الضحك"، كقوله عن أمّه: "ما من مرّةٍ/ لم أجدها/ جالسةً في كتلة السواد/ وتنتظر/ إنها أمي التي درّبتها المقابر على ذرف الدموع/ وحين تورّطت في الضحك/ تمزّق وجهها". وهذا في الحقيقة وجه زياد. فملامحه البدوية السمراء تُخبر قارئها عن عمُرٍ شقيٍّ يحياه الشاعر "بلا بطولة في حياته"، وسط "السيوف الكثيرة" يعيش "مكسوراً مثل قشّة" تحت وطأة "الخسائر التي لا تنام".
لم تكن بيئته العشائرية، أبويّة الطابع، ما يُثقله وحسب، بل أيضاً شراسته تجاه الطغاة. وفي هذا السياق، لم يضع مجموعة من إصداراته من دون أن يعيد فيها رسمَ العالم مقتحماً "حدائق الطاغية"، ليبتكر عالماً آخر ينتمي إلى الفطرة الإنسانية وبديهياتها التي أُقيمت من أجلها المقاصل السلطوية: "روّعكِ العالمُ/ روّعني العالمُ/ في السّلم/ وفي الحرب/ وفي رسم الأوطان/ على طاولة التشريح".
ومن واقع هذه الحياة التي تنصبُ "كمائن طويلة الأجل"، يقتنص العناني إشراقاته الشعرية بدقّة وحسّ فكاهي يقترب من الكوميديا السوداء. يتجلّى هذا في اسم مجموعته "مرضى بطول البال" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2002)، التي يجسُّ عبرها نبض السخرية في شريانٍ طويل تبدأ دورته "مذ كانت الأرض الصغيرة محض ماء"، وتنتهي بانتظارنا - غير المُجدي - على "المقاعد الأرضية الفارغة": "الرّحمة هابطةٌ/ الرحمةُ صاعدةٌ/ الرحمةُ/ ضاعت في المصعد".
هذه الروح الفكاهية، المُدهشة بقدرتها على أن تصير شعراً، لم تتولّد إلا من التماعات الشاعر في حياته اليومية وجلساته التي يُشاكس ويُناكف فيها أصدقاءه، ومن علامات الطاولة التي يتواجد عليها زياد هو ارتفاع أصوات الضحك القادمة منها.
ذات مرة سُئل، بعد انتهاء إحدى الأمسيات التي لم ترقْهُ، عن رأيه في الشّعر الذي سمعه، فأجاب مُراوغاً كثعلبٍ، مُخلّصاً نفسه من فخّ المجاملة: "المكان مزدحمٌ والكراسي لم تكن مريحة".
بعد مجموعته الأخيرة "زهو الفاعل" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2009)، كان العناني يضع اللمسات الأخيرة على مجموعة أخرى حين دهمه المرض، ورفض لمدة عامين بعد إصابته إطلاع أحد عليها، رغم كل محاولاتنا معه للعمل على نشرها؛ إلى أن تحسّن مزاجه، وقرّر أن يطبعها أخيراً، فجاء بها من مخبئِها وأعطاها لأصدقائه.
وها هو يراجعها وينقّحها برفقتهم، لترى النور في وقتٍ قريب، وتكون إصداراً غير متوقّع في ظلّ الأزمة الصحية التي يمرّ بها، مستنهضاً قُواهُ الشعريّة، عائداً إلى الدنيا، هامساً في أذنها: "نامي/ نامي/ لن أُصغي إلى أحدٍ/ فأسي بيدي/ والمعبدُ يرتجف".