زوجة الأستاذ تشكو تلاميذه إلى الله والقراء (2)

30 اغسطس 2018
+ الخط -
لم أكن أنتظر من عاشقة مخلصة لا زالت تعيش على ذكرى حبيبها، أن تقدم رؤية نقدية لمشواره في الصحافة والسياسة، لكنني لم أكن يمكن أن أتجاهل الحديث مع السيدة هدى التابعي عن علاقة زوجها الصحفي الكبير محمد التابعي بثورة يوليو خصوصاً خلال أيامها الأولى، التي اتهمه البعض ـ صراحة أو تلميحاً ـ بأنه التزم فيها الصمت المطبق، حتى يتبين له اتجاه الريح، ثم يتحول إلى تأييد الثورة بقوة فور تأكده من نجاحها. أنكرت السيدة هدى ذلك بشدة، وقالت إن قراءة ما كتبه التابعي خلال العهد الملكي، وهو أكبر وأهم حَكَم على مشواره، سيدفع أي منصف للتأكد من أن التابعي كان مؤيداً للثورة على الملكية بشدة ومنذ البداية، وقبل أن يتضح مصير الثورة، وفي وقت كان يمكن أن يعتبر تأييد الثورة مغامرة، لكنه لم يتردد في تأييدها، وأنها تشهد على ذلك بنفسها لأن ذلك كان أول ما شهدته في حياة التابعي، لكنها ترى أن أهم ما يشهد على موقف التابعي من الملكية والثورة هو كتاباته الموجودة في أرشيفه والتي دفع ثمنها غالياً.

محمد التابعي في الثلاثينات 


تقول السيدة هدى: "يكفي مثلاً أن التابعي كان أول من تعرض للسجن بسبب موقفه ضد تجاوزات الشرطة في عام 1932، فيما عرف بقضية الحصاينة، لما أطلقت الشرطة النار على أهالي قرية الحصاينة مركز السنبلاوين دقهلية، وقتلت ثلاثة رجال وفتاة، ولما اصطدم الأهالي بالشرطة وقتلوا باشجاويش المركز وأحد الجنود، أرسلت الشرطة تجريدة من أربعمائة جندي لحصار البلدة، وكتب التابعي عن اللي جرى ووقف إلى جانب الأهالي صدر عليه الحكم بالسجن أربعة أشهر، فهل يمكن أن يوصف من يأخذ موقفاً كهذا في وقت مبكر بأنه ممن يجاملون أو يهادنون؟، وهل يمكن ننسى له سلسلة المقالات التي كتبها عن حياة ملوك وملكات أوروبا السابقين، والتي دفعت النيابة للقبض على إبراهيم خليل رئيس التحرير المسئول عن مجلة (روز اليوسف) والذي اعترف أن محمد التابعي هو الذي كتب المقالات وأنه رئيس التحرير الحقيقي للمجلة، فحكمت عليه محكمة الجنايات بالسجن ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ. وهل يمكن أن ينسى منصف مقاله الشهير الذي حمل عنوان (يحيا الظلم) والذي كتبه في أكتوبر 1950، وقال فيه "نعم يحيا الظلم لأنه خير مربٍ للنفوس، ونفوس المصريين تجيش اليوم بمعنى واحد، لقد صبرنا طويلاً ولن نصبر بعد اليوم وتحملنا كثيراً ولن نتحمل بعد اليوم"، وهو مقال تقول السيدة هدى أن التابعي عرف من بعض أصدقائه في القصر الملكي أن الملك فاروق قرأه وقام بالتأشير على بعض عباراته، وتوقف عند عبارة تتحدث عن "العظيم الفاجر الذي يسرق ويعتدي على الأعراض"، وسأل الملك رجاله في الديوان الملكي غاضباً: من الذي يعنيه التابعي؟

التابعي مع روز اليوسف وعدد من المتضامنين معه 


قلم السوابق
ما ذكرته السيدة هدى عن مواقف زوجها التي لن يشهد عليها أفضل من كتاباته، أعادني إلى مقال شهير للتابعي بعنوان (قلم السوابق)، كان قد نشره في مجلة آخر ساعة بتاريخ 26 ديسمبر 1950، تمنى فيه على كل دار صحفية أن تخصص في مبانيها حجرة واحدة تضع فيها سجلات سوابق للساسة والعظماء "حتى يمكن الرجوع إليها وقت الحاجة ومواجهة السياسي أو العظيم بما قاله ذات يوم أو بما فعله ذات يوم في مناسبة ما، وإقامة الدليل المادي مصحوباً بذكر العام والشهر واليوم على أن السياسي فلان يقول اليوم عكس ما قاله بالأمس أو يعارض اليوم رأياً كان ينادي به في الأمس... أريد من الدور الصحفية أن تخصص حجرتين لسجلات السوابق حتى يمكن أن تتعقب هذا الرأي أو تعقب عليه أو تقتنع بأن هذا الموقف المعين الذي اتخذه حزب مصري ما، إنما اتخذه الحزب عن عقيدة وإيمان وليس مناورة حزبية رخيصة أو خداعاً وتضليلاً للجماهير".

للأسف لم تجد فكرة التابعي الرائعة من يتبناها، ولذلك ظل توثيق وتحليل مواقف الساسة والكُتّاب ـ بمن فيهم التابعي ـ خاضعاً للحظ والنصيب، ففي حين وجد القليلون من أصحاب المواقف المتناقضة المخزية من الآكلين على كل الموائد، من يقوم بتوثيق مواقفهم وتنبيه الأجيال الجديدة إليها، لكي لا يحصل هؤلاء على ما لا يستحقون من تقدير، لم يجد الكثيرون من أصحاب المواقف المشرفة المحترمة التي دفعوا ثمنها غالياً، من ينصفهم ولو على الأقل برصد وتوثيق مواقفهم وحمايتها من بطش النسيان المؤقت أو الأبدي.

ومع أن التابعي لم يحظ بدراسة شاملة تستعرض تطور مواقفه السياسية منذ بدأ العمل الصحفي وحتى غادره إلى رحاب الله، إلا أن المؤرخ الدكتور شريف يونس أشار في كتابه الرائع (نداء الشعب) إلى العديد من مواقف التابعي التي بالغت في تأييد ثورة يوليو في مراحلها المختلفة، مشيراً إلى قيام التابعي بتحويل مقالاته السياسية في (أخبار اليوم) و(الأخبار) إلى مشتمة علنية لكل من اختلف مع النظام الحاكم من حكام وسياسيي الدول العربية والأجنبية، بصورة فجة جلبت له الانتقاد من بعض تلاميذه الموالين للثورة مثل محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين، وللأسف لم يتم توثيق هذه المعركة الصحفية المهمة بشكل موسع، كما لم تنل هذه الفترة الخطيرة حتى الآن حقها الوافي من الدراسة النقدية، التي يمكن أن تكون مفيدة لرصد الأسباب التي أوصلت الصحافة المصرية إلى حالتها المزرية الآن، لأنها حالة لم تنشأ من فراغ، بل جاءت بعد عقود من عمل الكثيرين من رموز الصحافة المصرية في خدمة السلطة طوعاً أو كرهاً.

التابعي والروس
واصلت السيدة هدى التابعي النظر إلى زوجها في "مراية الحب" وهي تتحدث عن علاقته بثورة يوليو قائلة: "بعد كده لما حاد قادة الثورة عن الطريق السليم اللي كان يتمناه التابعي، ما كانش حابب اللي بيحصل في البلد، لكن ما كانش ممكن يعلن رأيه إلا على قد اللي يتحمله الوضع العام للصحافة، كان ممكن التابعي يكتفي بصداقاته مع أهم الفنانين والأدباء اللي كانوا بيحبوه ويحرصوا على صداقته من أم كلثوم وعبد الوهاب لأصغر فنان في البلد، كان ممكن يكتفي بالكتابة للسينما أو كتابة الروايات والقصص، ويكتب كتابات عامة ما لهاش صلة بالواقع، لكن في عز عنفوان الثورة كتب مقالة لسه فاكراها كويس بيقول فيها: أعطني قلماً وصحيفة وأنا أجعل لك من أي هلفوت زعيماً، ودي عبارة ما كانش حد يقدر يقولها وقتها، وكان في ناس من معارفنا وقرايبنا بيكلموني ويسألوني: اعتقلوه ولا لسّه؟، وبعدها كتب مقالة بيقول فيها هل من الاشتراكية أن نأكل حقوق الآخرين، وحصل وقتها واقعة حضرتها بنفسي، وأذكر إن التليفون ضرب يومها الساعة واحدة بالليل، وكان اللي بيتكلم حسن أبو سعدة اللي كان زي ما تقول ممثل شخصي لجمال عبد الناصر في إدارة أخبار اليوم، وكان عبد الناصر وقتها في استراحة القناطر، سأل على الأستاذ التابعي قلت له نايم، فقال لي عايزين نشيل جزء من المقال بتاعه اللي هينزل بكره، فرديت عليه قلت له أعتقد لازم حضرتك تشيل المقال كله، قال لي لأ عايزين نشيل جزء بس، قلت له يبقى حضرتك تكلمني الصبح، لإن التابعي بيصحى تمانية الصبح، وأنا ما أقدرش أصحيه أبداً، وبالفعل التابعي الصبح قال له نفس الكلام، وطلب منه الاحتكام لعبد الناصر اللي قال بعد ما قرا المقال: التابعي عنده حق وتُنشر المقالة كاملة، وأذكر أن عبد الناصر قال للتابعي قبل كده أنا كنت باكرهك جداً، وفي مرة قريت لك كتاب أسرار الساسة والسياسة، جت مراتي لقتني ما نمتش لغاية الصبح، وما سبتش الكتاب إلا لما خلصته".

أم كلثوم في صالون التابعي ـ الموهوبون 


تواصل مدام هدى ذكرياتها عن تلك الفترة من حياة التابعي في الصحافة قائلة: " أذكر برضه إنه كتب عن الدكتور عزيز صدقي لما كان رئيس وزارة مقال عنوانه أبو لمعة في الوزارة، وكلمه الدكتور عبد القادر حاتم وقال له كأصدقاء، يا ريت تخف شوية على الدكتور عزيز، فقال له: أنا مش هاوشوش الوزراء في ودنهم، وتقدروا تسألوا الدكتور حاتم في الواقعة دي، أما أغرب خلاف ليه مع الرقابة في الفترة دي كان بسبب وزير التموين كمال رمزي استينو اللي قال هنبطل نستورد حاجات رمضان وأنا هاجيب من الهند كاجو وحاجات زي كده، وكتب التابعي مقالة عن حقوق المواطن الغلبان، وكانت المقالة عنيفة شوية، وطلبوا حذف فقرات منها وأصر التابعي على نزولها كاملة، وفضل الموضوع كده لغاية ما بعد النكسة لما أصيب التابعي باكتئاب شديد، وقلت له مرة انت قعدت تقول لي روسيا صديقة لينا، وأهي طلعت مش صديقة ولا حاجة، وقعدت أحمِّسه إنه يكتب عشان يتخلص من حالة الاكتئاب اللي عنده، فكتب مقال جامد ضد الروس، ورغم إن موسى صبري شال جملة من المقال، إلا إن الروس هاجوا وماجوا وكلم عبد الناصر التابعي، أنا فاكرة من المقالة تعبير لحد دلوقتي بيقول: حلقات سم زعاف أصبها في حلوق هؤلاء، على أي حال أنا أؤكد إن التابعي لم يكن يكن بداخله عداء للثورة، وكان شايف إنها كان ممكن تنقل البلد لقدام، لكنه كان بينشر في حدود المتاح وقتها وكان صريح في رأيه، وكان بيكلمني كتير في اختيار موضوعاته وأحط له خطوط بالقلم الأحمر حول بعض الفقرات ونتناقش فيها".

تنبغي الإشارة إلى أن الدكتور شريف يونس يشرح بشكل مدهش في دراسته لتلك الفترة طبيعة السياق السياسي الذي دفع بقادة ثورة يوليو إلى السماح في فترة معينة لعدد من الكتاب والصحفيين بشن حملات صحفية على بعض الوزراء خصوصاً الوزراء المدنيين، إسهاماً منهم في ما كانت تسميه ثورة يوليو (الديمقراطية السليمة)، والتي لا يحصل فيها على بعض الحرية إلا من لا يمكن اتهامهم من قبل السلطات الرسمية بأنهم من "أعداء الشعب"، وكان محمد التابعي بالتحديد أهم فرسان تلك الحملات التي كانت السلطة تتسامح معها، ومع ذلك فقد كان ذلك التسامح يختفي فجأة، ويتبدل إلى سخط يعصف بحريات البعض وأرزاقهم، ولم يكن التابعي من هؤلاء، فقد حماه تاريخه المديد واسمه الكبير من العسف الذي نال بعض الصحفيين، الذين داسوا على ما لم يكونوا يتصورون أنه خطوط حمراء، مثل موسى صبري الذي تم فصله من رئاسة تحرير مجلة الجيل التابعة لمؤسسة أخبار اليوم لأنه وصف صوت المذيعة همت مصطفى بأنه صوت مخنث، أو الصحفي المخضرم محمود عبد المنعم مراد الذي تم فصله من صحيفة الأخبار لأنه شن حملة ساخرة على أعضاء أول مجلس أمة تم انتخابه أو "استنخابه" عام 1957، ومن المفارقات التي تجب الإشارة إليها في هذا الصدد، أن الصاغ العجيب صلاح سالم أحد أكثر الضباط الأحرار صخباً ومشاركة في الحياة السياسية، علّق في تلك الفترة ساخراً من توقف الحملات التي كان يشنها الصحفيون على وزارة النقل والمواصلات، حين تولى مسئوليتها صلاح سالم بنفسه، في حين كانوا ـ وكان على رأسهم التابعي ـ يهاجمون أداء الوزارة بضراوة، حين تولاها لفترة فتحي رضوان أحد أشهر المدنيين الذين تحمسوا للثورة بشدة ودافعوا عنها، وهي سخرية توقف عندها بعض تلاميذ التابعي في مقالاتهم غامزين لامزين، وهو أمر أحزن التابعي كثيراً.

صبر التابعي كثيراً على خيبة أمله فيمن انتظر منهم الوفاء له، خاصة وهو واحد من أساطين الصحافة المعتادين على ما يصاحب أجواء العمل فيها من مؤامرات وحروب ضارية، لكنه فقد صبره، حين أصيب ابنه محمد بأزمة صحية حادة كاد يفقده فيها، فقرر في لحظة ضيق شديدة أن يشارك القراء في همه، فكتب في 4 يوليو عام 1964 مقالاً غاضباً في صحيفة (أخبار اليوم) في باب (من السبت إلى السبت) فيه عن الكتاب والشعراء المنافقين الذين طالما نافقوا الملك فاروق وكتبوا ونشروا المقالات والقصائد في مديحه، بل كانوا يذهبون إلى قصره لتقديم فروض الولاء والطاعة في كل عيد، ثم دارت الأيام وأصبحوا يتملقون الثورة وينافقون قادتها، ثم تحدث في نهاية مقاله عن الأزمة الصحية التي أصابت ولده وشفاه الله منها، وأشار إلى قيام بعض هؤلاء المنافقين بالسخرية منه والطعن فيه في المحافل والجلسات الخاصة.

أثارت المقالة شهية القراء ـ والعاملين في الصحافة أيضاً ـ لتخمين أسماء الذين يقصدهم التابعي في مقاله، وقد كانوا كثيرين على أية حال، وبعضهم كان من كبار المتنفذين في البلاد بأسرها وليس في الصحافة فقط، على رأسهم محمد حسنين هيكل الذي كان قد نشر مقالاً في مجلة (روز اليوسف) بتاريخ 11 مايو 1944 بمناسبة العيد الثامن لجلوس الملك فاروق على العرش بعنوان (في يوم عيدك يا مولاي)، ولم يكن المقال منشوراً في السنوات الخمسة الأولى التي كان الملك يحظى فيها بشعبية كبيرة، بل جاء في وقت احتدام أزمته مع الوفد، ولم يكن هيكل وحده الذي قام باستخدام قلمه لتملق الملك ونفاقه، فقد كان لمصطفى أمين مئات المقالات في مديح الملك والطعن في خصومه وعلى رأسهم مصطفى النحاس بأحط الألفاظ والطرق، لكن قيام أحد مسئولي التحرير في (أخبار اليوم) بتغيير بعض الكلمات في احدى فقرات مقال التابعي، ليجعلها تتحدث عن شاعر قام بمدح الملك ومع ذلك يقوم بمهاجمة التابعي في جلساته الخاصة، جعل الكثيرين يظنون أن التابعي قصد الهجوم بشكل مباشر على شخص كامل الشناوي الذي كانت تربطه علاقة صداقة بالملك فاروق، الذي قام بمنحه رتبة البكوية في سن مبكرة، وكان الشناوي يكتب وقتها في نفس الصحيفة مقالات تؤيد النهج الاشتراكي الذي تبنته الثورة بقوة في تلك الفترة، بالإضافة إلى ما كتبه من قصائد مؤيدة للعهد الجديد غنى بعضها كبار المطربين، ولأن التابعي لم يكن يقصد شخصاً بعينه، بل كان يقصد الكثيرين من تلاميذه ناكري الجميل، فقد حرص في المقال الذي نشره في الأسبوع التالي مباشرة، أن يكشف ما جرى من تلاعب في المقال، وإن كان قد وصف ما جرى بأنه تم بشكل حسن النية، مؤكداً أنه لم يكن يتحدث عن شخص بعينه، بل كان يتحدث عن عدة أشخاص، مؤكداً للقراء أنه لن يقوم بكشف أسمائهم، لكنه يتحداهم أن ينكروا ما كتبه، قائلاً بلهجة حادة أثرت فيما يبدو على صياغته المتماسكة لأفكاره، حتى بدا لمن يقرأ أن هناك بعض السطور أو الكلمات التي تم حذفها لكي يعبر المقال: "... واللي على راسه بطحة يحسس عليها، وهؤلاء هم من اتهمتهم بالنفاق مقالي إذن لم يكن فيه غموض أو ابهام. ولكل صحفي وزميل أن يكتب ويقول انه كتب عن ظلم فاروق وفجره مقالات كذا وكذا وكيف وأنا مستعد لأن أنشر له هذا البيان. كما أنني مستعد دائما لأن أنشر له هذا البيان. كما أنني مستعد دائماً لأن أنشر بيانا مطولاً مسهباً بالمقالات التي كتبتها في عهد فاروق وعهد أبيه أحمد فؤاد، ومنها مثلا مقال نشرته في صحف أخبار اليوم عنوانه الصحافة الحرة حيث يوجد الصحفيون الاحرار، وقد نشرته في عام 1950 في الفترة التي تعد أسوأ أيام في عهد فاروق ظلماً وفساداً"، لتكون هذه السطور آخر ما كتبه التابعي في هذه المعركة التي اندلعت فجأة وأخمدت على ما يبدو بتدخلات عليا، رأت في مثل هذه المقالات شقاً لصف الواقفين تحت "الراية المنصورة".

علي أمين وهيكل 


دموع الأستاذ
قبل أن ينتهي حواري مع السيدة هدى، كان لا بد أن أسألها عن تفاصيل أكثر، لما سبق أن قالته إجمالاً في بداية حديثها عن تنكر تلاميذ التابعي له، خصوصاً حين فاقت شهرتهم شهرته في الستينات، وكان مسار الحديث قد طمأنها على ما يبدو لتحكي لي بتفصيل أكثر فقالت: "والله شوف محمد حسنين هيكل هو الوحيد لغاية دلوقتي اللي بيعترف ويقول أنا وصلت للي أنا فيه بفضل الأستاذ التابعي، طبعا هو بيقولها الأستاذ تابعي لإنه بياكل الألف واللام، وبرضه التابعي كان بياكل الكلام، لكن بصراحة برضه هيكل طول علاقته بالتابعي ما ترجمش كلامه لمواقف محددة خاصة بعد موت التابعي. لكن نيجي بقى لمصطفى أمين، التابعي كان يحبه جدا، وإن كنت أنا أحب علي أمين أكتر، لما خرج مصطفى أمين من السجن أيام السادات، كان التابعي في المستشفى وكتبت يومها تلغراف باسم التابعي من المستشفى أهنئ فيه مصطفى، وللأسف لم يزر مصطفى أستاذه المريض ولا كلمه حتى في التليفون، وكان التابعي يبكي لما يفتكر ده، وقلت له معنفة: بتبكي على إيه، وأعتقد إن هيكل كان بشكل ما سبب في القطيعة دي، لإنه وصلت لي معلومات لا أدري مدى صحتها، إن هيكل قال لمصطفى أمين إن التابعي كان له دور في اعتقالك".

التابعي مع الأخوين مصطفى وعلي أمين 


قلت لها: لكن علاقة هيكل في ذلك الوقت بمصطفى أمين كانت في غاية التوتر، بعد موقف هيكل منه، وطبعا كان ذلك قبل سنوات مما كتبه هيكل عنه في كتابه (بين الصحافة والسياسة)، كما أن كل الذين كتبوا عن علاقة الاثنين وقتها يقولون أنها كانت قاصرة على المجاملات السطحية، وفي كل الأحوال حتى لو صح ما قيل لمصطفى أمين، فهو ليس غبياً ليصدق كل ما يقال له، لذلك ربما كان هناك سبب آخر لهذه القطيعة، ردت علي السيدة هدى قائلة: "مش عارفة والله، زي ما قلت لك لا أجزم بصحة ما سمعته، لكن المؤكد والمهم عندي إن مصطفى أمين ما قابلش أستاذه التابعي ولا كلمه لحد ما مات، ولما التابعي مات راح صوان العزاء، وأفتكر دلوقتي إنه لقى يومها هيكل خارج وما سلموش على بعض، المهم إنه منذ رحيل التابعي لم يتصل بي لا هيكل ولا مصطفى، وبدأت أنا أهاجم مصطفى لما كتب عن التابعي حاجات فيها إثارة وتهويل، من غير ما يشير إلى مشوار التابعي في الصحافة والسياسة بشكل فيه إنصاف، وده اللي خلاني أقرر إني أنزل بالكتابين اللي عملتهم مع صبري أبو المجد عن أعمال التابعي وكتاباته، عشان أفكر الناس بمشوار التابعي، لإن التابعي كشخصية عامة من حق الناس إنهم يكبتوا عنه، لكن كل اللي باطلبه إنهم يعطوه حقه".

كان لا بد أن أشير إلى ما كتبه مصطفى أمين عن المكاسب المادية الطائلة التي حققها التابعي من وراء الصحافة، وهو ما كان يتناقض مع ما حكته السيدة هدى عن الظروف المادية للأسرة منذ رحيل التابعي، والحقيقة أن السيدة هدى تعاملت مع السؤال بصدر رحب وقالت بهدوء: "لا شك إن التابعي كسب من وراء الصحافة، لإنه كان أهم وأنجح صحفي في مصر، لكن مصطفى أمين بالغ في اللي كتبه، وصوره كإنه أهم إنجاز عمله التابعي في حياته، بعيداً عن إنجازاته الصحفية الأهم، التابعي صرف ملايين ولم يترك مليما واحدا بعد ما مات، لا سرق ولا نهب ولا أخذ مصاريف سرية، كان رجل شريف وأتحدى من يقول العكس، اختلف أو اتفق معاه، لكنه كان رجل شريف، مصطفى أمين قال في اللي كتبه إن التابعي باع مجلة آخر ساعة بمائتين ألف جنيه، مع إن التابعي تنازل وما باعش مجلة آخر ساعة أبدا، وأذكر إني عندما سألته عن الواقعة دي وهو مريض، قال لي مين قال كده، قلت له مصطفى أمين فبكى وقال لي الله يسامحه، حتى عقد صحيفة المصري التي قالوا إنه باعها بأرقام خيالية، موجود عندي عقد بخط مصطفى النحاس باشا الذي باع له محمد التابعي الجزء الخاص بيه بسعر عادي".

كانت السيدة هدى تشير إلى مقالين كتبهما مصطفى أمين عن التابعي عام 1985، ضمن سلسلة (شخصيات لا تنسى) التي كان ينشرها في صحيفة (أخبار اليوم) وحققت نجاحاً كبيراً، حيث كتب عنه بوصفه (سلطان الحب في القرن العشرين)، واتهمه بتزوير تاريخ ميلاده وإزالة عشر سنوات كاملة منه ليكون أصغر في السن، وبرغم أنه أشار إلى بعض مواقفه السياسية والصحفية المهمة، إلا أن لغة الهمز واللمز التي ملأ بها سطوره وتركيزه على الجانب الفضائحي في حياة التابعي، أثار ضيق السيدة هدى وأسرتها وكل محبي محمد التابعي، وكان كما قالت السبب الرئيسي في أن تتحمس لمنح كل ما لديها من وثائق ورسائل لصبري أبو المجد ليقوم بإنجاز كتابيه الذين لم يخرجا كما تمنت، ولم يحققا الأثر الذي رجته لإنصاف زوجها من تلاميذه، وربما وجدنا في نفوذ مصطفى أمين في تلك الفترة، سبباً في أن يقوم صبري أبو المجد بنشر كتابيه عن دار صغيرة مثل دار التعاون، برغم أن مؤسسة أخبار اليوم التي كان التابعي أبرز نجومها، كانت تنشر الكثير من الكتب الناجحة، فضلاً عن امتلاكها لجهاز توزيع قوي يمكن له أن يوصل كتابين مثل هذين إلى أكبر عدد من الجمهور، وهو تفسير لم تشر إليه السيدة هدى في حديثها، لكنه يظل قابلاً للطرح.

حندس ومصمص!
تقول السيدة هدى مواصلة شكوى تلاميذ التابعي إلى الله والقراء: " للأسف التابعي تعرض لحالة تشويه محمومة على يد تلاميذه ومنهم جليل البنداري اللي أنا كنت مسمياه حقير البنداري. أذكر أن التابعي قال لي مرة إن جليل سيزوره في البيت وقلت له الراجل ده ما باحبوش، حاسب في كلامك معاه، وفوجئت في أخبار اليوم بكلام سيئ مكتوب عن الحياة الخاصة للتابعي زمان، وزعلت من التابعي وكلمت مصطفى أمين، قال لي أهلا، قلت له لا أهلا ولا سهلا، انتو عرائس ماريونيت بيحركها التابعي، إزاي تسمح باللي كتبه فلان عن التابعي، وتمت مجازاة البنداري وكلموني ناس يستعطفوني عشان أعفو عنه، وأكلم مصطفى يلغي عقوبته لإنه متجوز اتنين وفاتح بيتين، وأنا يومها هزأت مصطفى أمين وهو ما ينساهاليش، لكن أنا والله لست عدوة لمصطفى أمين، ولا أكره أحدا، وزعلت على مصطفى أمين يوم ما مات. اللي بيزعلني إن ناس كتير نسوا إن التابعي هو اللي حولهم من جورنالجية محتقرين إلى صحفيين محترمين، وبالمناسبة دي والكلام عن الثروة أفتكر إن محمد محمود خليل باشا رئيس مجلس الشيوخ زار مرة التابعي في مرضه ولما شاف بيت التابعي قال ما كنتش أعرف إن الجورناليست بيعيشوا العيشة الفخمة دي، لكن كل ده كان في الماضي والسؤال الأهم دلوقتي ليه ما تمش تكريم التابعي وليه السكوت على لصوص الأفكار اللي نهبوا حقوق طبع وتوزيع كتبه وبعدين جمدوها في المخازن لغاية ما اتنست وليه تم السكوت على ضياع كل ما له علاقة بالتابعي من مكتبة التلفزيون، كفاية السهرة اللي سجلتها له السيدة أماني ناشد في ساعتين ونصف، وبعد كده لما ناشدت التلفزيون إنه يعيد إذاعتها اتضح إن الشريط اتمسح في ظروف غامضة".

كنا قد وصلنا إلى نهاية الحوار، حيث تحدثنا عن أهمية إعادة طبع كتب التابعي في مكتبة الأسرة، بعد أن استغربت السيدة هدى من تجاهل التابعي الكامل في إصدارات المكتبة، وبعدها استأذنتني أن نوقف الحديث، على أن نواصله في وقت آخر بعد أن أنشر ما قالته، وحين طلبت منها أن تسمح لي بزيارتها في منزلها، لكي تعطيني صوراً لها مع التابعي لأنشرها مع الحوار، رفضت وقالت لي ضاحكة أنها وافقت على الحديث الهاتفي معي تقديرا لما كتبته عن التابعي، وأنها أصبحت تتشاءم من الصحفيين، منذ أن زارها صحفيون مصريون لعمل حوار لجريدة الأنباء الكويتية في الذكرى السابعة عشرة على رحيل التابعي، ولما وجد أحدهم أنها صغيرة في السن قياساً بما كان يتوقعه "خبطني عين فجالي انزلاق غضروفي ومن ساعتها ما رجعتش زي الأول مع إني كنت زي الورد والله". ضحكت حين أقسمت لها أن "عيني حلوة"، ثم قالت لي أنها عانت كثيراً من تحريف واجتزاء واختصار ما تقوله، وأنها تثق في أنني لن أفعل ذلك، لأنها أحبت الروح الجديدة التي قدمتها الصحيفة، وتمنت لو كان التابعي حياً ليقرأها، وأنها تصدق ما قلته لها عن تأثر رئيس تحرير الصحيفة الأستاذ إبراهيم عيسى بمحمد التابعي، وكيف أنه كان يقرأ لنا بحماس مقاطع من الرسائل المتبادلة بين التابعي أو (حندس) كما كان يوقع بعض مقالاته، ومصطفى أمين أو (مصمص) كما كان يوقع رسائله، وحين قلت لها إنها ستشاهد بنفسها كيف ستحتفي صحيفتنا بالحوار الذي سأنشره بكل أمانة، فقالت لي أنها تعدني بالتفكير في منحي بعض القصص التي لم ينشرها التابعي، وبعض رسائله الخاصة التي لم تعطها لصبري أبو المجد، ولكن حين تتحسن حالتها الصحية أكثر.

لم أكن حسن الحظ للحصول على ما تمنيته، فقد تأخر نشر الحوار عدة أشهر لكي يوافق ذكرى رحيل محمد التابعي، ولم يكن أمامي سوى أن أرجئ الاتصال بها حتى يتم نشر الحوار، على أمل أن تكون صحتها قد تحسنت فيتاح لي أن ألتقيها في منزلها وأحصل على المزيد من الوثائق وربما الصور، وحين جاءت ذكرى رحيل التابعي، توافقت للأسف مع أحداث سياسية عاجلة شغلت المساحات المتاحة في الصحيفة، وجعلت نشر الحوار غير مناسب، فتم تأجيل نشره من جديد إلى أجل غير مسمى، على أساس أن ما به من مادة ستظل صالحة للنشر في أي وقت، وحين صدر قرار إغلاق صحيفة (الدستور) بقرار رئاسي غاشم في نهاية شهر فبراير 1998، حملت أوراق الحوار معي ضمن ما حملته من مواد ومشروعات اكتظت بها أدراج مكتبي، لينتقل عبر السنين من درج إلى آخر، حتى استقر بين يديك الآن.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.