زهايمر

21 سبتمبر 2016
+ الخط -

تتفقّد الأرقام المسجلة على هاتفك، فتعثر على رقم لعزيز لم تتصل به منذ زمن. بالقطع، تنتحل العذر لنفسك، بسبب انشغالات الحياة، ولا تجلد نفسك، بل تعاجلها بترضيةٍ حيث تتصل بالرقم، ويأتيك صوت صاحبه وتعرّفه بنفسك. بعد لحظات صمتٍ، يردّد اسمك ويتردّد معه صدى معدني رتيب، يوحي لك أنه قد تذكّرَك بصعوبةٍ، فتعاجله بسرد قائمةٍ من الذكريات والأحداث التي لا تُنسى، فيردّد عبارات الترحيب، وحين تشعر بالرضا، يعاجلك بسؤال موجع: من أنت؟ أو أي "أحمد" أنت؟

انتهزت مناسبة العيد، وقرّرت أن أتصل بها، وهي تعيش وحيدةً، وقد تجاوزت السبعين من عمرها، وتوفي زوجها منذ سنوات بعيدة، ولم تنجب، وتركها في بيت فسيحٍ يتسع لكتيبة، وحين ذكّرتها بنفسي، لم ألمح سوى كلمات مجاملةٍ في صوتها المشروخ.

موجعٌ أن تكتشف أنها مصابة بالزهايمر، وأن من حولها، وأعني قلة من الأقارب، يتعاملون مع حالتها، كأنها لم تكن، فهم يطيعونها في كل ما تقول، ويكرّرون أمامها الأسماء، ولا يتركونها تخرج وحدها، ولو خرجت تكتشف بطاقاتٍ صغيرةً كثيرةً  تحمل اسمها وعنوانها، قد ألصقت بحقيبتها وجيوب معطفها الجلدي الفاخر. ولكن، في النهاية، توجه إليك نظراتٍ خاويةٍ كالتي وجهتها لي، حين قرّرت أن أترك الهاتف، وأهرع جزعةً إلى بيتها، فكيف يفقد أمثال هؤلاء ذكرياتك المشتركة الغالية على قلبك؟

 تأكّدت أن الزهايمر قد هاجمها بضراوة، بسبب الوحدة القاتلة، والتي يؤكد الأطباء أنها أحد أسباب إسراع الزهايمر نحو الإنسان، وإنْ كانت الضغوط النفسية والإرهاق العقلي من أسبابه الأخرى، كما حدث مع الروائية البوليسية، أغاثا كريستي، والتي كانت تسأل المارّة: من أنا؟، أما معلمتي وصاحبة أمي فهي تتحدّث مراراً عن عملها معلمة، ثم ينقطع حبل حديثها، وتسألك عدة أسئلةٍ تجعلك تشك بأنها لم تخرج من باب بيتها منذ قرن.

عندما رأيت حالها، دعوت الله في سرّي ألا يصيبني ما أصابها، فحين جلست معها، ومع إحدى قريباتها التي ترعاها تحت شجرةٍ وارفةٍ في حديقة بيتها، اكتشفت أنها أصبحت سجلاً كبيراً ضخم الحجم. ولكن كل أوراقه بيضاء، وربما كانت فيه بعض الحروف المتناثرة على صفحات داخليةٍ من الصعب العثور عليها. وسألتني للمرة الثالثة: من أنت؟ وتنهدت، وأنا أذكر لها نفسي، فضحكت، وبانت أسنانها المهشّمة، وقالت لي: كنت تلميذةً متفوقةً. ولكن، بعد دقائق، وحين عثرت على طرف خيطٍ للحوار والدردشة، كرّرت السؤال نفسه، فلكزتني قريبتها في ذراعي، وكتمت ضحكاتها، وقالت: كل من تراهم تعتبرهم تلميذاتها، حتى زميلاتها وصديقاتها ممن يماثلنها في العمر. إذن، هي لم تنس أهم محطةٍ في حياتها، فقد كانت معلمةً في مدرسةٍ إعداديةٍ للبنات، وقد تخرجت أجيال من البنات على يديها، وكانت محبوبةً لظرفها وخلقها وجمالها وأناقتها.

 مرض الزهايمر، وهو أكثر الأشكال شيوعاً في العالم لمتلازمة الخرف، وقد أحصت منظمة الصحة العالمية في العام 2015 ما يقارب 47,5 مليون حالة خرف، تطورت من الزهايمر، لكن المؤسف أن أكثر من نصف هذا العدد يعيش في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ما يعني أنهم لا يلقون الرعاية والاهتمام، بل وحسبما نرى، فهم يُتركون لمصيرهم المحتوم وكأنهم لم يكونوا، وتكثر قضايا الاستيلاء على ممتلكاتهم وثرواتهم، فالسينما أتحفتنا بالأفلام التي تجعل من المصاب بالزهايمر مادةً لحبك المواقف الكوميدية، كما فعل عادل إمام في فيلم "زهايمر". وأخيراً، وتأكيداً لقسوتنا في التعامل مع هذه الفئة، اختطفت ابنتان والدهما المصاب بالزهايمر، وطبعتا بصمته على أوراق تنازلٍ عن ثروته لهما، دون باقي الإخوة.

مريضةٌ أخرى بالزهايمر تمنيت أن تسترجع ذاكرتها دقائق، فهي قد تجاوزت السبعين، ولم تسمع، طوال ربع قرن، من زوجها كلمة رقيقة، وظل يعاملها بقسوة وجفاء، حتى بعد أن أصبحت جدّة. ولكن، يوم أن ضربها الزهايمر، بدأ يناديها بأجمل الألقاب على غرار، حبيبتي وقلبي، فهل أصيب هو الآخر بالزهايمر؟

 

 

 

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.