زمن الفساد الحاكم والمعولم

09 ابريل 2016
+ الخط -
لم يُفاجَأ المهتم بمسائل الفساد في العالم بتسريبات "أوراق بنما" التي كشفت المستور عن الشبكات الضخمة والعولمة لتهريب الأموال إلى الملاذات الضريبية. إذ أكد المختصون من باحثين وصحافيين استقصائيين، وبالتحديد في الدول الغربية، وجودها أكثر من مرة من خلال دراسات وتحقيقات ميدانية، على الرغم من صعوبة الحصول على المعلومات، فضلاً عن وجود تحقيقاتٍ قضائية في عدة بلدان حول عمليات الفساد من هذا النوع.
لكن، تنفرد "أوراق بنما" بأنها أكبر عملية تسريب، عرفها العالم عن الفساد المعولم، بالنظر لحجم الملفات المسرّبة وحجم المعلومات التي تحتويها والأموال المعنية. وهي تكذيب ما بعده تكذيب لتصريحات رسمية لمختلف الدول التي قالت، عقب الأزمة المالية لعامي 2008-2009، إن عهد الفراديس الضريبية قد ولى. وأطنب حينها قادة مجموعة العشرين، لاسيما الغربيين منهم، في الحديث عن الشفافية ومحاربة التهرب الضريبي وإصلاح النظام المالي العالمي. لكن ما حدث هو أن هؤلاء ضخوا مبالغ ضخمة من المال العام في البنوك الخاصة لإنقاذها من الإفلاس. إفلاس كان محدّقاً بها بسبب خيارات تلك البنوك ومغامراتها ومضارباتها وتلاعباتها. وبدل إصلاح النظام البنكي العالمي لإنقاذ البنوك من نفسها، عمدت مجموعة العشرين إلى ترميم الجزء الظاهر من العمران المالي العالمي المتصدّع، فكان أن عادت البنوك إلى عادتها، بمجرد أن استعادت عافيتها بفضل المال العام. والضحية هي دائماً الشعوب المغلوب على أمرها، فهي خسرت الكثير بسبب مضاربات البنوك، ودفعت نقداً إنقاذ هذه الأخيرة لتعود مياه المضاربة والفساد إلى مجاريها. نركز هنا على البنوك، لأن تسريبات "أوراق بنما"، مثل تسريباتٍ سابقة، توضح لمن له أدنى شك في الأمر، أن دور البنوك أساسي، ولولاها لما حدث ما يحدث. فبعضها يتولى بنفسه ترتيب شبكات تهريب الأموال، وكلها (تلك المتورطة في التهريب) تفتح حسابات بنكية لمهربي الأموال في الفراديس الضريبية. بل وهناك مؤسسات مالية ومكاتب محاماة (تسمى مكاتب محاماة الأعمال) تنشط أمام مرأى ومسمع الجميع في تهريب الأموال.
وتورط، حسب هذه التسريبات، حكام وسياسيون ورجال أعمال ورياضيون... عبر العالم في
عمليات تهريبٍ ضخمةٍ نحو الملاذات الضريبية، بينهم حكام ووزراء عرب حاليون وسابقون ومقربون منهم. وهنا المشكلة. إذا كان الحاكم الأول في البلاد مهرّباً للأموال، فماذا نقول عن معاونين وغيرهم من المسؤولين في البلاد. يا له من زمن القدوة العربي! وفي الدول الأخرى لاسيما الغربية، شرع بعضها في فتح تحقيقات قضائية ومواصلة تحقيقات أخرى (لأن التسريبات تخص أيضاً أشخاصاً متابعين قضائياً للأسباب نفسها، كما الحال في فرنسا مثلاً)، أما أيسلندا فقد أجبر رئيس وزرائها على الاستقالة، تحت الضغط الشعبي، لتهريبه أموالاً إلى الملاذات الضريبية.
يتعين هنا التمييز بين "الفساد الغربي" و"الفساد العربي"، فالأول يخص تهريب أموال خاصة إلى الملاذات الضريبية، لتجنب دفع الضرائب، وبالتالي، لا يتعلق الأمر بتحويل للمال العام، وإنما بإخفاء المال الخاص للتهرّب من الضريبة. وفي الدول الغربية، تفتح تحقيقات قضائية وتقود إلى الحكم على المتورطين في الفساد. وفي بعض الأحيان، إلى تسوية وضعيتهم على أساس اتفاق بينهم وبين مصالح الضرائب، يدفعون ما عليهم، فضلاً عن عقوباتٍ ماليةٍ، تجنباً للمتابعة القضائية، إن هم تقدموا بمحض إرادتهم لمصالح الضرائب لتسوية وضعيتهم.
أما "الفساد العربي" فيخص تهريب المال العام إلى الفراديس الضريبية، ليس لتجنب دفع الضرائب، لأن الأخيرة تكاد تكون منعدمة، بل ومنعدمة في دول عربية عديدة نفطية، وإن وجدت، فإن الرشوة تحول دون دفعها، وإنما لتبيض هذه الأموال العامة التي تدخل الفراديس الضريبية لتصبح أموالاً خاصة. والسؤال المطروح: لماذا يلجأ حكام عرب يتحكمون في مصير البلاد والعباد إلى تهريب المال العام على الرغم من غياب المحاسب؟ حسبنا أن هؤلاء يلجأون إلى هذه الحيلة، بحثاً عن السرية في نهبهم وتهريبهم المال العام، وخصوصاً تحسباً لما قد تؤول إليه الأمور مستقبلاً. فتهريب المال العام وسيلة لضمان مستقبلهم، ومستقبل ذويهم (الذين يتورطون أيضاً في الجرائم المالية نفسها) خارج الوطن إن أزيح بهم من السلطة. وربما من الأهمية بمكان البحث إحصائياً في "أوراق بنما" في العلاقة بين تهريب المال العام وأحداث الربيع العربي، لمعرفة حجم هذا التهريب، فهناك أيضاً علاقة بين هذه التهريبات والربيع العربي، على الأقل في بدايته (أي قبل انتكاسته).
وبما أن المتهم في العالم العربي هو نفسه القاضي، فلا يتعيّن توقع أي تحرك رسمي حقيقي، يقود إلى فتح تحقيقات قضائية، للنظر في عمليات الفساد التي فضحتها تسريبات "وثائق بنما". وبهذا ينفرد العالم العربي، مرة أخرى، باستثنائية إضافية: عدم التحقيق في الفساد، على الرغم من تأكده. يقوم الفقه القانوني في مختلف بقاع المعمورة، بما فيها العربية، على قاعدة أساسية هي أنه "لا جريمة بدون نص قانوني". لكن وجود الجريمة في الدول العربية لا يقود، بالضرورة، إلى المتابعة القضائية. ومن هذا المنطلق، وعلى أساس ما أكدته تسريبات "أوراق بنما"، لا جدال في أن الفساد أصبح مؤسسةً في الدولة العربية.