زماننا الدموي وتفقيس الهويات

05 يوليو 2015
+ الخط -
ما يجري في بلادنا اليوم، وفي المنطقة عموما، وفي العالم أجمع، صراع تذابحي وتقاتلي، إفنائي على الهوية، وإن أخذ طابعاً دينياً بتفرعاته الطائفية أو المذهبية، أو طابعاً قوميا وإثنيا، مختزلا في ما يضاد ويعادي تلك الرؤى الحضارية العقلانية، انحيازاً لرؤى متخلفة، تعادي العقل والتفكير العقلاني. 
في خضم هذا الصراع، نشأت وتنشأ تداخلاتٌ لا حصر لها، حتى بات الجميع يعيش أوقاتاً عصيبة وعصبية من التجييش، لتأخذ المسائل أبعاداً عسكرية، حتى لم يعد للسياسة من معنى أو قابلية اتخاذ المواقف. وفي ظل هذه العسكرة المتزايدة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية كافة، بتنا وكأننا بالفعل في حلبة صراع دولي شامل، يوازي، في مفاعيله وتأثيراته الآنية والمستقبلية، حربا عالمية، وربما ما يفوق أو يتفوق على ما شاهدناه في حربين عالميتين، أفرزتا عوالم متصارعة، لم يستتب السلام إثرها إلا فترات قصيرة ومحدودة، تفجرت بعدها دمامل صراعات وحروب من نوع جديد.
ها نحن الآن في ذروة صراعات أعنف، أشرس وأكثر دموية، خصوصاً التي تجري داخل الجبهة أو الصف الواحد، أي داخل الهوية الواحدة، وليس بين هويات متخالفة أو مختلفة، ذلك أن "تفقيس" الهويات بات سمة طاغية على تذابح أبناء الهوية الواحدة، أو ما يفترض أنها واحدة، وإن تكن متمايزة من داخلها، كتلك الطائفية، وإلى حد ما المذهبية، أو الإثنية والقومية. وفي هذه الحالة، نحن في مواجهة انكسار الهويات، وتنافيها، وحتى نفي الهوية ذاتها، حين تجعل من ذاتها "آخر" لا ذات له، أو من "الآخر" ذاتاً لا آخر له.
في معمعان هذا التنابذ، لم يعد من وجود لـ "هوية خاصة"، صافية أصيلة أو أصلانية، صار الجميع يدّعي الوصل بتلك الهوية، كمن يدّعي الوصل بليلى، وليلى لم تعد تدري، أهي ليلى أم أنها غيرها. هنا ينشأ التعصب والانحيازات القاتلة، وصارت العصبويات تقدس أيدولوجياتها الخاصة، وتجعل منها المطلق الذي لا يأتيه الباطل من أي اتجاه. بل إن الآخر، كل آخر، هو الباطل، أما معتقدات هذا الفريق أو ذاك فهي الحق، وليس غيره، وتلك أوهام الذين لا يغبّون إلا من فضاءات الأوهام والهلام، والانغلاق على ذاتٍ تقدس ذاتها، ومعها هويتها المفترضة.
الهوية إما أن تكون منفتحة متسامحة، أو هي إلى التعصب أقرب، بانغلاقها على ما تؤدلجه ذاتياً، وما لا يمكن أدلجته موضوعياً، ونزوعها الإقصائي الدائم، المنبعث من داخلها ومن عصبويتها، وتعصبها لذاك الشكل الهجين، لما تسميه هويتها، طائفية أو مذهبية؛ إثنية أو قومية أو جهوية أو فئوية، على ما تشهده ليبيا اليوم بعد إطاحة نظام القذافي، وانتشار المليشيات على اختلاف هوياتها المتنازعة والمتصارعة، حتى داخل الجهة أو الجهوية الواحدة، أو القبيلة الواحدة.

هذا التنازع والتصارع على الهوية/السلطة، واحد من علامات موت الهوية أو الهويات الكبرى، واختراع هويات صغرى ميكروسكوبية، لا تقيم وزناً ولا بأي ثقل لوطنية أو مواطنية جامعة، كما لا تقيم أي وزن لقانون دولةٍ يفترض بمدنيتها أن تمثل الجميع، وأن يتساوى الجميع أمام قانونها الأساس، وكل ما يتفرع عنه من قوانين ناظمة للاجتماع البشري.
تقدم النزاعات الطائفية والمذهبية واحدة من صراعات واصطراعات الهوية المتشظية بالأساس، الفاقدة أي مرجعية، كما وأي منظور فكري أو رؤية مستقبلية، فيما هي تنحاز، وبشكل واضح الآن، في لحظة سلوك وممارسات الشخص، أو الأشخاص الذين يعتنقون فكرة مبهمة عن الهوية، يريدون للجميع الانضواء تحت ظلماتها وظلاماتها، في سرديات استبداد وطغيان يؤسس سلطة مطلقة، لا يحدّها سوى الموت، ولا تقول إلا بالتماثل، وإلا فالفناء، على ما يذهب "الدواعش" من كل صنف ولون ومذهب وطائفة، دولاً كانت أو تجمعات أهلية أو فئوية؛ سلطات حاكمة في الواقع أو بالأمر الواقع.
ما نراه اليوم مجسداً في الواقع، يفيد بأن اصطراعات الهوية في طريقها إلى أن تبدد كل أمل، بل الآمال الجماعية كلها، في بناء مستقبل واعد لمجاميع بشرية هائلة في بلادنا، وفي غيرها من بلاد، أصيبت وتصاب بهوس وهواجس ولوثة الهوية القاتلة، وعصبوية الجنون التديّني، والنزوع الإمبراطوري، وشهوة السلطة، والرغبة في القتل لمجرد القتل، وكأن التعصب لا يرويه أو يرتوي أصحابه، إلا بالغرق في بحار من دماء الضحايا الذين لا يريدون أن يكونوا سوى أنفسهم، وليسوا "أواخر" يضعون رؤوسهم بما فيها، في خدمة السيد أو السادة "الخلاصيين" الذين اعتقدوا أو هم يعتقدون واهمين، أن "نعمة الحلول" حلت فيهم؛ بدءا من "الخليفة" أو "الأمير" أو "الوالي" أو "الفاتي والمفتي"، إلى المستبد والطاغية، المريض بأوهامه التسلطية والسلطانية، الحالم بمجد ارتكاباته والتسرّي بالحواري، وكل هذا وقبله، من أجل التسرّي والتلذذ بالقتل الإجرامي الذي لم يعد يقتصر على الأفراد، بل فاض حتى بات يبلغ الجماعات والمجتمعات والدول، والآثار والتواريخ التي رفضت وترفض الاستسلام، أو الانهيار تحت أقدام برابرة "دواعش" زماننا الدموي هذا.
وإذ تفيض الهويات عن حاضناتها، وتذهب بعيداً نحو حواضن أخرى، فلأن لاعقلانية بعضهم في مسار الثورات العربية، لا تجد ذاتها إلا في سواقي ما يُضاد تلك الثورات والشعوب والمجتمعات، وحتى منطق الدولة والهوية ذاتها. هكذا تحول "الدواعش" ومليشياتهم، داخليين وخارجيين، إلى حواضن معادية، ليس للدولة فحسب، بل ولكل نسخ الهويات التي اختاروها لتعرّف بهم وتدل عليهم، فالنزوع الإمبراطوري للنظام الإيراني لم يبق من الدولة في إيران سوى الاسم، كما لم يبق "الدواعش" من "دولة الخلافة" سوى الاسم أيضا. فأي هوية يمكن أن تسود في المستقبل على يد قوى ماضوية، لا تقدس سوى الماضي والسلطة، ولا تبغض أو تعادي سوى الصدق، والأمانة، والإيمان بالمستقبل، كونه المفتوح على التشكل الدائم للهويات المتعايشة والمتسامحة، لا تلك "الناجزة" المتذابحة، القاتلة والمتقاتلة.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.