انقسام حول "السترات الصفراء": الإعلام الفرنسي يُشيطن المتظاهرين ويروّج للرواية الأمنية
والإعلام الفرنسي ليس موحَّداً في رؤيته لهذه الحركة، وخصوصاً منه المرئي والمسموع، الذي منح صدىً كبيراً للإعلانات الحكومية وللكلفة المالية، التي يتطلب على الفرنسيين تحمّلها. لكن في ما يخص ردّ "السترات الصفراء"، التي يجمع الكثيرون أنها لم تكن تتوقع شيئاً وهو ما دفعها لمقاطعة "الحوار الوطني الكبير"، لم يحظَ بتغطية كافية. إذ لم تُركّز معظم وسائل الإعلام سوى على تظاهرات السبت، مانحةً وقتاً كبيراً للعنف الذي "قد" يحدث أثناءها، مع تخصيص وقت مهم للخبراء الأمنيين وممثلي نقابات الشرطة الذين لا يخفون عداءهم للمتظاهرين، مع اضطرار تلك الوسائل، دفاعاً عن التعددية بين حين وآخر، إلى دعوة عدد محدود ومحدَّد من وجوه "السترات الصفراء".
هذا أيضاً موقف صحف عديدة، مثل "لوفيغارو" و"لوباريزيان" و"لو جورنال دي ديمانش"، إذ كان مُلفتاً تركيزها على إحصاءات وزارة الداخلية، التي أعلنت انخفاض عدد المتظاهرين.
وإذا كانت صفحات "السترات الصفراء" في "فيسبوك" توقعت أن يكون عدد متظاهري السبت الماضي منخفضاً بعض الشيء مقارنةً مع أسابيع سابقة، مؤكدة تركيز استعداداتها للتظاهر بقوة في عيد العمال يوم الأربعاء المقبل، إلى جانب النقابات العمالية والطلابية، إلا أن "لو جورنال دي ديمانش" المقرّبة من دوائر الرئاسة الفرنسية، توقعت أن "تكون التظاهرات الموحدة فرصةً لعنف جديد".
قناتا "بي إف إم تيفي" و"سي نيوز" لم تتوقفا خلال أسابيع عن البحث، بكثير من الإصرار، عن استطلاعات للرأي، تكشف عن أغلبية من الفرنسيين تطالب حركة "السترات الصفراء" بوقف احتجاجاتها. وحتى حين تتم دعوة بعض وجوه الحراك للظهور التلفزيوني، تحديداً جيروم رودريغيز، يتم إمطارها بأسئلة محرجة، تتطرق لموقفها من العنف الذي يمارسه بعض المتظاهرين، ومن الشعارات التي طالبت السبت ما قبل الماضي، من قوى الأمن الانتحار.
ويندُر أن يُسمحَ لهؤلاء أن يتحدثوا عن العنف البوليسي، رغم أنّهم من بين ضحاياه. فجيروم رودريغيز فقد عينه اليمنى في إحدى التظاهرات، وكان حينها يصور التظاهرة بالقرب من ساحة الباستيل، كما عرف ضحايا آخرون نفس المصير. وحين يفعلون، يُقاطَعون على الفور من صحافيي التلفزيون أو من سخرية الضيوف الآخرين، الذي يدافعون عن رواية قوى الأمن ووزارة الداخلية.
وللمفارقة، يستحضر جيروم رودريغيز في كلّ تدخلاته الإعلامية قضية الصحافيين والمصورين الذي يتعرضون لقمع بوليسي، (وهو ما حدث السبت الأخير، حين اعتقل بعض الصحافيين وصدر في حق أحدهم قرار بحظر وجوده في تظاهرات 1 مايو/ أيار، وهو ما أعلن أنه سيتحداه باسم حرية التعبير)، وهو ما يدفع صحافيي هذه القنوات للمسارعة بتأكيد أن صحافييها يمارسون مهنتهم بكل حرية.
ومن أجل منح صدىً أكبر للحراك وللقمع الذي تعرفه التظاهرات في فرنسا، ومن أجل فضح التجاهل الحكومي لبعض مظاهر العنف البوليسي، الذي أدانته منظمات حقوقية وطبّية فرنسية وأوروبية ودولية، قرر العديد من ضحايا القمع البوليسي ممن إصاباتهم خطيرة، إنشاء تجمع ثم الدعوة إلى تظاهرة وطنية كبرى في باريس يوم 26 مايو/ أيار المقبل. وأكد التجمع أن عدد من فقئت عينه وصل إلى 22 شخصاً، بينما قُطعت أيدي خمسة آخرين، إضافة إلى تشوهات أخرى، تسببت في فقدان حاسّة الشم وفي بتر الخصى للبعض.
ويطالب التجمع بوقف استخدام الأسلحة القاتلة، ساخراً من وزير الداخلية الذي يتحدث فقط عن 10 أشخاص أصيبوا في رؤوسهم، بواسطة سلاح "إل بي دي" الذي تعترف الداخلية بأنها استخدمت 13 ألفاً و95 طلقة منذ بداية الحراك الاجتماعي، والذي يُحظر استخدامه في دول الاتحاد الأوروبي.
ويمنح هذا الجواب الأمني المتشدد جرعات قوة لحركة "السترات الصفراء"، التي أعلن الكاتب الفرنسي الكبير جان ماري لوكليزيو، في لقاء له بصحيفة "لو جورنال دي ديمانش" في عددها الأخير أنه "في المجمل، يُكنّ الإعجاب لأناس عبروا عن غضبهم بلا مداوَرَة، وفي لغة بسيطة، وعَبر أعمال يائسة". لكنه اعتبر أن "العنف الذي ينفجر أحياناً في الحركة والقمع العنيف الذي يثيره يبدو لي خطيراً ومن دون مَخرَج".
وإلى جانب الجواب الحكومي الردعي، جاءت الإعلانات الرئاسية من أجل وضع حد للأزمة دون المستوى المطلوب. فقد رأت أغلبية الفرنسيين أنها لا تلبي طلبات "السترات الصفراء" ولا يمكن لها أن توقف الحراك، إذ إنّها تغفل معظم مطالب الحراك. ورأى فيها معظم ممثلي ووجوه "السترات الصفراء" تأكيداً لما يقولون إنه احتقار الرئيس للفقراء ومن هم في وضعية هشاشة، وهو ما سيدفعها لمواصلة احتجاجاتها.
وإلى جانب المواقع الإعلامية التي لا تخفي تشكيكها في مطالب "السترات الصفراء"، والتي تركّز في كل مرة على مظاهر العنف التي تورط فيها أشخاص من حركات يسارية متطرفة وحتى من بعض ناشطي "السترات الصفراء" الذين استبدّ بهم التشدد بعد أسابيع من التظاهرات ومن التجاهل الحكومي، ثمة صحف أخرى وتحديداً من اليسار، ومنها "لومانيتيه"، لا تزال تدافع، كما يفعل أكثر من نصف الفرنسيين، عن شرعية مَطالب المتظاهرين.
وقد رأت الصحيفة الشيوعية في الإعلانات الرئاسية "خدعة" ليس أكثر. وأضافت أنّ "مناورات رئيس الدولة لإخماد الأزمة الاجتماعية لم تخدع آلافاً من الأشخاص الذين تظاهروا السبت الماضي استجابة لنداء "السترات الصفراء" ونقابة سي جي تي". وقالت: "بينما يريد ماكرون إنهاء الأزمة الاجتماعية التي ولدت من تعبئة "السترات الصفراء"، إلا أن الغضب تضَاعَف منذ مؤتمره الصحافي". وإذاً "ففي الأول من مايو/ أيار سيخرج كثير من المتظاهرين، إذ إن نفس المَطالب تتقاسمها "السترات الصفراء" والنقابات. ويجب أن يتخلى الجميع عن تصوراته المسبقة، من أجل تكوين كتلة تستطيع إخضاع ماكرون".
وحركة "السترات الصفراء" موجودة في كل الجبهات الاجتماعية والأمنية والديمقراطية، وهو ما يمنحها رؤية أكبر وجمهوراً أرحب. كما يجعل من الصعب أن تساهم إجراءات حكومية "يمينية" اعتبرها اليمين الفرنسي نفسه غير كافية، في إخماد نار كانت مخبَّأة تحت الرماد، منذ عدة عقود.