10 نوفمبر 2024
رَبيع كاميرون أمْ رَبيع أوروبا؟
(1)
خرجتْ بريطانيا خروجاً مفاجئاً من الاتحاد الأوروبي، لكنه خروجٌ أفرزته القيمُ الديمقراطية الرّاسخة في الغرب، ورعته معاييرُ الحكم الرشيد، وعزّزته قيمة احترام خيارات شعوب تلك البلدان، من حُكّامها. يتابع العالم آثار ذلك الخروج، في اهتزازات أسواق المال، وفي وتيرة هروب الفارّين من النزاعات من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، وفي مهدّدات الأمن العالمي، وفي مخاطر الإرهاب الدولي، وفي ملفاتٍ كثيرة انفتحتْ شهية المحللين، لمتابعتها ورصد تداعياتها، ورسم سيناريوهات المستقبل القريب والبعيد حولها.
استدعت ذاكرتي، على الفور، مع فوارق النوع، تلك الآثار وتلك التداعيات، التي احتدمتْ في منطقة الشرق الأوسط، إثر اندلاع أعاصير "الربيع العربي" من مغربه إلى مشرقه. لكن، أليس "ربيعاً أوروبياً" هذا الذي نراه ماثلاً، بعد اختيار بريطانيا الخروج من الجمعية الأوروبية؟
(2)
كلا.. إنه ليس موسماً مثل مواسم الربيع العربي التي شهدنا منذ 2011. شهد موسم الربيع العربي هروب رئيس جمهورية بطائرة رسمية، بعد أن صارح شعبه أنه فهم الآن ما حاق بشعبه، فكان مثل رضا بهلوي، إذ دمعتْ عيناه، حين رأى من الطائرة العمودية جماهير الشعب الإيراني تنادي بسقوطه، وسأل بعد أن فاق من غيبوبته: هل تكرهني كل هذه الجموع؟
خرج رئيس الحكومة البريطانية الذي قال له شعبه: لن تجبرنا على البقاء في الاتحاد الأوروبي، من مكتبه، واثق الخطوة في كامل ثباته وأناقته، ترافقه زوجته في تلك اللحظة التاريخية، ليعترف، في هدوء، بأن رهانه السياسي لم يجد القبول. خاطب شعبه عبر منصة إعلامية، ومن دون أن يضيّع وقته ووقت شعبه. قال لهم، بأوضح عبارة، إنه يحترم رغبة الشعب، ويغادر منصبه ليأتي بديل له، يقود السفينة بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، وفق إرادة الأغلبية. كان شجاعاً ومحترماً ونبيلاً، إذ خسر خياره، وكسب الشعب خياراً آخر.
(3)
حتى وإنْ أحاطتْ بخيارات شعبه انهيارات وشيكة ومحتملة، وتهديداتٌ بتفكّك مفاصل المملكة المتحدة، فإنه تحمّل المسؤولية الكاملة أمام شعبٍ رأى غير رأي رئيس حكومته. كان شجاعاً ومحترماً ونبيلا، فاختار الاستقالة، لا المكابرة والبقاء متحدّياً رغبة شعبٍ خالف توجهاته. لم يرسل رئيس الحكومة البريطانية زبانيةً لقهر شعبه بالمدرّعات، ولا فرّق تظاهراتهم بمسيلات الدموع، ولا أطلق الهجّانة على جمالهم لدهس معارضيه، ولا أرسل عناصر أمنه مدجّجين بالرشاشات، لقتلهم في الحواري والطرقات. ذلك ما فعله رئيسٌ عربيّ في الشرق الأوسط، تربّع عقوداً في كرسي الحكم، فسقط في مزبلة التاريخ، ذليلاً في محكمة الشعب، مُتخفياً وراء نظاراتٍ سوداء، حائراً يُداري دموع حسرته، خجلاً ليُعمي عينيه عن مشهد قضاته الحازمين.
مُستبدٌّ آخر، أحرق الهلال الخصيب، ولم يبلغ سمعه أبداً درس "الربيع العربي" مع مجايليه من أباطرة الشرق الأوسط الكذبة الذين لفظتهم شعوبهم، فطفق يمارسُ ذبح شعبه "متسلطناً" متلذّذاً. لم يكتفِ بذلك، بل طارد من نفد بجلده من أبناء الشام في المعابر الحدودية إلى المهاجر البعيدة. ذلك طاغيةٌ ينتظر يوماً حين لن تحميه طائراته، ولا براميل النار التي قهر بها شعبه، فيهلك مع الهالكين.
(4)
لم يهتبل كاميرون، وهو ربيب ديمقراطية راسخة، الفرصة للتلاعب في صناديق الاقتراع، فالنزاهة هناك لا تحتاج إلى مراقبين، لا محليين ولا دوليين، إذ الالتزام باحترام صوت الناخب هو من رسوخ ثقافة الديمقراطية فكراً ومسلكاً، في وجدان الرؤساء والمرؤوسين، على حدٍ سواء. غيره من سلاطين العالم الثالث، من بالغ في التفريط في تُراب بلده، لكنه أعفى نفسه من المسؤولية، وألقاها على آخرين أجانب متآمرين، ولو تركوا له شِبراً واحداً من تراب بلده، لوقف عليه متسلطاً مستبداً، إلى آخر نفسٍ في رئتيه.
(5)
أما ثقافة الاستبداد، فقد كان لزاماً لاقتلاعها أن نجعل من ذلك "الربيع العربي" عواصفَ هوجاء كاسحة، تكنس أوشاب الاستبداد بعيداً. المستبد الطاغية الذي وصف شعبه بالجرذان، كُتب له أن يموت في حفرة حقيرة. طاغية آخر رفضه شعبه، فلجأ إلى الجبال والمغارات، يقاتل مؤمّلاً أن يعود ليطأ بحذائه خيارات شعبٍ رفضه. إنه طاغية حكم اليمن عقوداً، ولم يشبع بعد من سُحْت السياسة.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صنع بداية لـ"ربيع أوروبيّ" كامل السّمات، على الرغم من تداعياته الإيجابية والسالبة على صعيد السياسة والاقتصاد، وعلى الرغم من سيناريوهات تفكك بعض أوصال تلك القارة العجوز على خرائط الجغرافيا، يبقى ربيعاً حقيقياً لا زائفاً، ونسائم طريّة لا رياحاً عاصفة، وربيعاً ديمقراطياً، لا يشبه ذلك الذي عصف ببعض أنظمة الشرق الأوسط.
خرجتْ بريطانيا خروجاً مفاجئاً من الاتحاد الأوروبي، لكنه خروجٌ أفرزته القيمُ الديمقراطية الرّاسخة في الغرب، ورعته معاييرُ الحكم الرشيد، وعزّزته قيمة احترام خيارات شعوب تلك البلدان، من حُكّامها. يتابع العالم آثار ذلك الخروج، في اهتزازات أسواق المال، وفي وتيرة هروب الفارّين من النزاعات من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، وفي مهدّدات الأمن العالمي، وفي مخاطر الإرهاب الدولي، وفي ملفاتٍ كثيرة انفتحتْ شهية المحللين، لمتابعتها ورصد تداعياتها، ورسم سيناريوهات المستقبل القريب والبعيد حولها.
استدعت ذاكرتي، على الفور، مع فوارق النوع، تلك الآثار وتلك التداعيات، التي احتدمتْ في منطقة الشرق الأوسط، إثر اندلاع أعاصير "الربيع العربي" من مغربه إلى مشرقه. لكن، أليس "ربيعاً أوروبياً" هذا الذي نراه ماثلاً، بعد اختيار بريطانيا الخروج من الجمعية الأوروبية؟
(2)
كلا.. إنه ليس موسماً مثل مواسم الربيع العربي التي شهدنا منذ 2011. شهد موسم الربيع العربي هروب رئيس جمهورية بطائرة رسمية، بعد أن صارح شعبه أنه فهم الآن ما حاق بشعبه، فكان مثل رضا بهلوي، إذ دمعتْ عيناه، حين رأى من الطائرة العمودية جماهير الشعب الإيراني تنادي بسقوطه، وسأل بعد أن فاق من غيبوبته: هل تكرهني كل هذه الجموع؟
خرج رئيس الحكومة البريطانية الذي قال له شعبه: لن تجبرنا على البقاء في الاتحاد الأوروبي، من مكتبه، واثق الخطوة في كامل ثباته وأناقته، ترافقه زوجته في تلك اللحظة التاريخية، ليعترف، في هدوء، بأن رهانه السياسي لم يجد القبول. خاطب شعبه عبر منصة إعلامية، ومن دون أن يضيّع وقته ووقت شعبه. قال لهم، بأوضح عبارة، إنه يحترم رغبة الشعب، ويغادر منصبه ليأتي بديل له، يقود السفينة بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، وفق إرادة الأغلبية. كان شجاعاً ومحترماً ونبيلاً، إذ خسر خياره، وكسب الشعب خياراً آخر.
(3)
حتى وإنْ أحاطتْ بخيارات شعبه انهيارات وشيكة ومحتملة، وتهديداتٌ بتفكّك مفاصل المملكة المتحدة، فإنه تحمّل المسؤولية الكاملة أمام شعبٍ رأى غير رأي رئيس حكومته. كان شجاعاً ومحترماً ونبيلا، فاختار الاستقالة، لا المكابرة والبقاء متحدّياً رغبة شعبٍ خالف توجهاته. لم يرسل رئيس الحكومة البريطانية زبانيةً لقهر شعبه بالمدرّعات، ولا فرّق تظاهراتهم بمسيلات الدموع، ولا أطلق الهجّانة على جمالهم لدهس معارضيه، ولا أرسل عناصر أمنه مدجّجين بالرشاشات، لقتلهم في الحواري والطرقات. ذلك ما فعله رئيسٌ عربيّ في الشرق الأوسط، تربّع عقوداً في كرسي الحكم، فسقط في مزبلة التاريخ، ذليلاً في محكمة الشعب، مُتخفياً وراء نظاراتٍ سوداء، حائراً يُداري دموع حسرته، خجلاً ليُعمي عينيه عن مشهد قضاته الحازمين.
مُستبدٌّ آخر، أحرق الهلال الخصيب، ولم يبلغ سمعه أبداً درس "الربيع العربي" مع مجايليه من أباطرة الشرق الأوسط الكذبة الذين لفظتهم شعوبهم، فطفق يمارسُ ذبح شعبه "متسلطناً" متلذّذاً. لم يكتفِ بذلك، بل طارد من نفد بجلده من أبناء الشام في المعابر الحدودية إلى المهاجر البعيدة. ذلك طاغيةٌ ينتظر يوماً حين لن تحميه طائراته، ولا براميل النار التي قهر بها شعبه، فيهلك مع الهالكين.
(4)
لم يهتبل كاميرون، وهو ربيب ديمقراطية راسخة، الفرصة للتلاعب في صناديق الاقتراع، فالنزاهة هناك لا تحتاج إلى مراقبين، لا محليين ولا دوليين، إذ الالتزام باحترام صوت الناخب هو من رسوخ ثقافة الديمقراطية فكراً ومسلكاً، في وجدان الرؤساء والمرؤوسين، على حدٍ سواء. غيره من سلاطين العالم الثالث، من بالغ في التفريط في تُراب بلده، لكنه أعفى نفسه من المسؤولية، وألقاها على آخرين أجانب متآمرين، ولو تركوا له شِبراً واحداً من تراب بلده، لوقف عليه متسلطاً مستبداً، إلى آخر نفسٍ في رئتيه.
(5)
أما ثقافة الاستبداد، فقد كان لزاماً لاقتلاعها أن نجعل من ذلك "الربيع العربي" عواصفَ هوجاء كاسحة، تكنس أوشاب الاستبداد بعيداً. المستبد الطاغية الذي وصف شعبه بالجرذان، كُتب له أن يموت في حفرة حقيرة. طاغية آخر رفضه شعبه، فلجأ إلى الجبال والمغارات، يقاتل مؤمّلاً أن يعود ليطأ بحذائه خيارات شعبٍ رفضه. إنه طاغية حكم اليمن عقوداً، ولم يشبع بعد من سُحْت السياسة.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صنع بداية لـ"ربيع أوروبيّ" كامل السّمات، على الرغم من تداعياته الإيجابية والسالبة على صعيد السياسة والاقتصاد، وعلى الرغم من سيناريوهات تفكك بعض أوصال تلك القارة العجوز على خرائط الجغرافيا، يبقى ربيعاً حقيقياً لا زائفاً، ونسائم طريّة لا رياحاً عاصفة، وربيعاً ديمقراطياً، لا يشبه ذلك الذي عصف ببعض أنظمة الشرق الأوسط.