ريشير وغلوكسمان يغادراننا: للموت أيضاً فلسفته

10 نوفمبر 2015
إياد القاضي/ العراق
+ الخط -

تشتّتت، صبيحة اليوم، الصفحات الثقافية الناطقة بالفرنسية بين خبرين: رحيل الفيلسوف البلجيكي مارك ريشير والمفكّر الفرنسي أندريه غلوكسمان. يأتي ذلك بعد فترة وجيزة من رحيل فلاسفة آخرين؛ مثل رونيه جيرار قبل أسبوع وفرانسوا داغونيي قبل شهر. يحدث أن يكون الموت ذا اختيارات فلسفية.

حين ألّف المفكّر المغربي محمد الشيخ كتاب "المثقّف والسلطة: دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر" (1991)، تحدّث عن مغامرة جيلٍ مثّلت "ثورة 1968" (ربيع الطلاب) نقطة ارتكازه.

وكأن تلاحق رحيل أبناء ذلك الجيل يعلن عن نهايات "المغامرة"، وهم الذين توزّعوا على موجات وانقسموا إلى شظايا وتشكّلوا في مدارس وتيارات، حتى بدوا للناظر اليوم وكأنهم لا يجتمعون على شيء.

يمثّل داغونيي (1924 - 2015) حالة خاصّة، فهو ابن ذلك الجيل، لكنه أعلن القطيعة بوضوح، خصوصاً في مؤلّفه "هل ينبغي إحراق ريجيس دوبريه؟" (بالاشتراك). لعلّ موقعه بين العلوم الصحيحة والفلسفة، جعله يأخذ مسافة من معاصريه وما أنتجوه من أفكار.

كان أحد أساتذة هذا الجيل، ريمون أرون، يقول - غير بعيد من زمن مايو 68 - إنه زمن "أنصاف آلهة ما بعد الحرب"، قاصداً الثالوث الذي اتّكأ عليه كل مطلقي الأفكار الجدد: ماركس ونيتشه وفرويد.

من بوابة هذا الأخير، تسرّب جيرار (1923 - 2015) إلى عالم الفكر، بنظريات عن الرغبة ناقض فيها صاحب "قلق في الحضارة"، كما مثّل امتداداً له في الوقت نفسه، ثم أخذ هيكلية مشروعه (تفسير منشأ الحضارة) وأعاد صياغته بمفردات جديدة.

على صهوة أخرى، ركب ريشير (1943 - 2015)؛ صهوة الفينومينولوجيا، وتحت رعاية نصف إله آخر أغفل ذكره آرون؛ إدموند هوسرل. يشبه ريشير داغونيي في التخصّص العلمي قبل ولوج الفلسفة، كما يشبه جيرار في أن فكره عانى من الجحود وعرف صعوبات في الوصول إلى الجمهور، لكن اعترافاً عاماً بفكره أخذت تتوسّع دائرته في السنين الأخيرة، حين اكتُشفت شاعرية ما فكّر فيه، خصوصاً حديثه بأن العالم والأشياء يمكن وضعها بين قوسين حين نفكّر في أنفسنا.

مارك ريشير


أخيراً، يمكن القول إن غلوكسمان (1937 - 2015)، هو الأكثر ارتباطاً بـ 68، وهو الذي وضع نفسه على سكك اليسار مبكّراً، ويمكن اعتبار أن الكثير من نقد داغونيي لـ ريجيس دوبريه قابل للانطباق عليه أيضاً.

أندريه غلوكسمان


كانت السياسة - لا العلم - منصّة إطلاق غلوكسمان، فعُرف بدفاعه عن الثورة الثقافية في الصين، وانتمائه إلى الحركات السرية الماوية في أوروبا، قبل أن تنقلب بوصلته ليعرف تحوّلات عميقة ضمن جماعة "الفلاسفة الجدد" التي انتمى إليها، ويصبح من أكبر نقّاد الفكر الماركسي.

تشير انتقالات غلوكسمان إلى أن أي مفكّر، ما دام على قيد الحياة، قابل للتراجع عن أفكاره وتقديم خطوة جديدة لا أحد يعلم اتجاهها، لذلك فإن كل حالة موت هي تجميد نهائي لمسيرة أفكار رجل، حيث لم يعد ممكناً تغيير الاتجاه بعد ذلك.

جدالات هؤلاء وعلاقاتهم مع بعضهم ومع غيرهم، هي ما يصنع دينامكية مشهد فكري، والأكيد أن المجموع يتغيّر حين نحذف منه عدداً من العناصر. يتوقّف التاريخ بهؤلاء، ويظل يسير بآخرين. لكن هل قرأنا هؤلاء لكي نبدأ في قراءة الآخرين؟



اقرأ أيضاً: ميشيل فوكو.. من أجل جنون عربي

المساهمون