روسيا والغرب... الحرب الباردة ليست على الأبواب

22 مارس 2014
الحرب البادرة مستبعدة مع تداخل المصالح فوق الجغرافيا
+ الخط -

لم تكن العلاقات بين روسيا الاتحادية والغرب، منذ وصول فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم في روسيا، جيدة أو حارّة أو حتى دافئة.
كانت "البرودة" سِمتهُا. ليس فقط لأن بوتين لا يضحك إلا نادراً، بل لأن الرئيس الروسي، منذ البدء، كان يشكك في النوايا الغربية، تجاه روسيا.
وحتى الغزل الروسي الألماني، رغم المظاهر والمساحيق الخارجية، كان يبدو للملاحظ المتمعن مصطنعا، فالسيدة أنغيلا ميركل كانت دوما تفضل ألا تقضي الليل في روسيا وتكتفي بزيارات نهارية خاطفة.
والغزل بين روسيا وألمانيا غيرهارد شرودر تبخّر برحيله. وكم كان الغرب مرتاحا بعض الشيء حين كان ديمتري مدفيديف رئيسا لروسيا. صحيح أن هذا الأخير لم يكن مثل بوريس يلتسين، الذي كان يبدو فعلا دمية في يد الغرب، ولكن كانت سياساته أقل عنفا، وكان يجري النظر إليه على أنه أمْيَل للحل والتراضي مع الغرب.

ولكن بوتين، ابن الاستخبارات السوفييتية، الذي يُؤمِن، حقا، بدوره في تاريخ روسيا، يحاول، جاهدا، منذ وصوله إلى السلطة، أن يصنع تاريخا مغايرا لهذا البلد، وهو ما يجعل الغربيين لا يثقون فيه. ومن هنا يأتي تصريح بطريارك كييف من أن بوتين استخدم "أسلوبا شريرا" من أجل ضمّ القرم، مثالا آخر على طريقة تفكير واشتغال بوتين.

ولكن قضية القرم ليست هي الإرهاص الأول عن هذا التوجه الروسي لحرب باردة مع الغرب، أو على الأقل لعلاقة باردة، فبوتين لم يكن يفتأ يذكِّر بأن العالَم الأحادي القطبية ليس جيدا للعالم اليوم. وما تمتين علاقاته مع الصين المجاورة ومع دول صاعدة كالبرازيل والهند وجنوب إفريقيا (مجموعة بريكس)، إلا دليل على سعيه لعالم متعدد الأقطاب لا تمارس فيه الولايات المتحدة سياسَتَها وتفرضها على العالَم.

لم يعرف الغرب علاقات هادئة مع روسيا، وفق منطقه، إلا مع يلتسين ومن قبل مع ميخائيل غورباتشوف، الذي فكَّك الاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من انضمام روسيا إلى مجموعة الدول السبع، فتشكلت مجموعة الثماني، فقد كان دور الروس ثانويا في هذه المجموعة.

تكثر التصريحات الغربية المُطالِبة بالعقوبات، ولكن هذه العقوبات تظل مدروسة بشكل "دقيق"، بحيث لا تدفع الروس لردة فعل قد تُوصِل الأمور الى نقطة اللاعودة.
ولم يكن تأكيد صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية على أن الدول الثماني ومجموعة العشرين قلقةٌ من ردود موسكو الانتقامية بالشيء الذي يُؤخَذ مأخذ الهزل، في حين أن قدرة الروس على امتصاص مثل هذه التصرفات الغربية أكّده نائب وزير الخارجية الروسي غريغوري غاراسين بالقول إنه ليست المرة الأولى التي تُفرَض فيها عقوبات على بلاده.
من هنا يفرض الغرب عقوبات وتنتقم روسيا فتفرض هي الأخرى عقوبات، ويبدو أنّ كل شيء مدروسٌ ومُتَّفَقٌ عليه. وحتى التوقيع على الشق السياسي من اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا يندرج في حرب العقوبات التي ستطال أفرادا وشركات ومجالات كاملة في الصناعة والاقتصاد بين الطرفين.

وللحقيقة، تأتي المواقف الغربية من روسيا خجولةً لأن الغرب لا يستطيع فِعل الشيء الكثير. يستطيع الغرب، وقد فَعَل، إلغاء القمة الروسية الأوروبية، ولكن تأثير هذا القرار ليس كبيرا على روسيا.
في حين صرّح الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه لا يوجد لدى بلاده خيار عسكري في أوكرانيا، والغرب من دون الولايات المتحدة عاجزٌ عن التدخل حتى في بلد صغير كإفريقيا الوسطى فكيف في مواجهة روسيا؟! وهو ما جعل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يؤكد على أنّ الغرب يريد "الحوار" الآن مع روسيا، وهو أيضا ما جعل أوباما يقول إن الاقتصاد العالمي سيتأثر أيضا من أيّ مقاطعة اقتصادية لروسيا.

لا يمكن للحرب الباردة، إن وقعتْ، أن تكون كما السابق، إذ أن تتداخل المصالح الاقتصادية والأمنية بين الدول ومجموعات الدول، ومع العولمة الزاحفة، التي سحبت من كل الدول سيادَتَها واستقلاليتها، بالمفهوم التقليدي السابق، أصبحت الاقتصادات العالمية أكثرَ تشابُكاً. وصار سلاح المقاطعة ذا حدَّيْن. وهو ما جعل الألمان يعترفون، في ما بدا أنهُ نشازٌ في الموقف الغربي وكابِحٌ للجموح الفرنسي والبريطاني: " كنا نعرف أن الروس سيلجأون إلى اتخاذ تدابير صارمة".

ومما يجعل الحرب الباردة بالمفهوم القديم، إبان العهد السوفييتي، غير واردة كون أن الروس ساعدوا ويساعدون الأميركيين في كثير من أماكن الأزمات. لقد ساعدوهم في حربهم ضدّ ما يُسمَّى بالإرهاب، كما أن تموين وإمداد القوات الأطلسية في أفغانستان يتم في غالبيته عن طريق روسيا، وساعدوا أميركا على تفكيك الترسانة الكيماوية السورية، كما أن نزع الشق العسكري من النووي الإيراني يحتاجُ، بالضرورة، إلى دعمٍ روسيّ.

لن تتراجع روسيا، الآن، عن القرم. انتهى الأمر وحُسِمَ. وبوتين اعتبره تصحيحاً لخطأ تاريخيّ. ويبقى الشرق الأوكراني، الناطق بالروسية، هو موضوع الصفقة القادمة بين الروس والغرب، خصوصا وأن والروس والأميركيين أعلنا، في شبه اتفاق ضمني، على أنهما لن يتدخلا عسكريا.

إذن، فالحوار والتفاوض سيكون حول هذا "الشرق" الأوكرانيّ. وإذا ما دُفِعتْ روسيا إلى التدخل في الشرق الأوكراني، فحينها ستكون الحرب الباردة، فعلا، قد بدأت.
ولحد الساعة لا يزال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يقوم بمحاولته للتهدئة، وتُطلّ الصين من حين لآخر بتصريحات تدعو للتهدئة وللحوار.

المساهمون