تشبه التركيبة الجيو ـ سياسية الفيليبينية، بيئتها الطبيعية: هدوء عاصف يسبق أي إعصار أو هزة أرضية. البلاد الواقعة على خط الأعاصير والزلازل، لم تنجُ أخيراً من عاصفة سياسية، دشّنها وصول الرئيس رودريغو دوتيرتي إلى السلطة، بما يحمله من أفكار جديدة، قد تضع إحداها حداً لأطول الحروب الأهلية في القارة الآسيوية: الحرب مع الشيوعيين.
يطلّ دوتيرتي من بوابة السلطة بضوضاء قلّ نظيرها. رفع شعارات رنّانة، خصوصاً لجهة محاربة الجريمة المنظمة، ويقول في هذا الصدد "سأحضّ الكونغرس على إعادة تطبيق عقوبة الإعدام شنقاً، وسأصدر أوامر لقوات الأمن بإطلاق النار بهدف القتل الفوري، في هجماتهم ضد عصابات الجريمة المنظمة، وضد المجرمين الذين يرفضون الاستسلام". هذا هو الحلّ الأنسب لدوتيرتي في مكافحة العصابات، في مبدأ هو الأقرب لمبدأ المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة، دونالد ترامب: تحويل الفيليبين إلى تكساس كبيرة، تتمّ تصفية الحسابات فيها ميدانياً. كما لم يفت دوتيرتي شتم البابا فرنسيس، لكونه "تسبّب في زحمة سير خانقة في أثناء زيارته الفيليبين العام الماضي"، قبل أن يعود ويطلب الصفح منه برسالة وجّهها إليه منتصف الشهر الحالي، معتبراً أنه "يقصد سوء تدبير الحكومة الفيليبينية للزيارة". مع ذلك عاد وشنّ هجوماً عنيفاً على الكنيسة بحجة "تنظيم الأسرة، وجعل الحدّ الأقصى للأسرة ثلاثة أطفال"، وتوجّه إلى الأساقفة قائلاً "إياكم وأن تعبثوا معي". الفيليبين من أكبر الدول الكاثوليكية في العالم، مما يضع كلام دوتيرتي تحت المجهر بالنسبة إلى الفاتيكان.
ضجيج دوتيرتي لم يقتصر على محاربة العصابات. تطلّع الرجل إلى المتمردين الشيوعيين، الذين يخوضون حرباً طويلة، منذ عام 1969 ضد مانيلا. وهي حرب مماثلة لحروب شيوعية أخرى، في بلدان آسيوية مجاورة، أرسى ركائزها مؤسس الحزب الشيوعي الصيني، ماو تسي تونغ. في السابق، لم يتمكن أي رئيس فيليبيني من وضع حدّ لهذه الحرب، لا عسكرياً ولا سلمياً، لكنّ لدوتيرتي رأياً آخر.
في الواقع، يُعدّ دوتيرتي صديقاً لمؤسس الحزب الشيوعي الفيليبيني في عام 1968، خوسيه ماريا سيسون، وكان من الداعمين لمحادثات السلام بين مانيلا والشيوعيين، التي تعثرت أكثر من مرة، قبل توقفها منذ أكثر من 13 عاماً. أدت الحرب إلى سقوط أكثر من 43 ألف قتيل طيلة السنوات الـ47 الأخيرة. لا خطوط تماس محددة بين السلطات والشيوعيين، بل تتوزع النزاعات على مختلف الجزر الفيليبينية. يستند الشيوعيون في قتالهم على دعم الفقراء وأبناء الأرياف لهم، فيما تعمل الحكومة على تجنيد أبناء المدن ضدهم.
يريد الرئيس الفيليبيني الجديد دفع الشيوعيين نحو السلطة، ودمجهم في العملية السياسية، عارضاً عليهم، كبداية، تسمية وزيرين شيوعيين في حكومته الأولى بعد تسلّمه السلطة. قد تكون تسمية وزيرين شيوعيين من أصل أكثر من 20 وزيراً في حكومة مستقبلية، خطوة شجاعة لدوتيرتي، لكنها خطوة تُعتبر "انتصاراً" للشيوعيين، في ظروفٍ صعبة بالنسبة إليهم في الوقت الحالي.
تكشف الأرقام الرسمية في مانيلا عن أن عدد عناصر "الجيش الشعبي الجديد"، الذراع المسلحة للحزب الشيوعي الفيليبيني، لا يتجاوز 4 آلاف عنصر حالياً، في مقابل 26 ألفاً خلال ثمانينيات القرن الماضي. كما يقبع آلاف العناصر الشيوعية في سجون السلطات، ولم تنجح قيادة الحزب في دفع الحكومة إلى إطلاق سراحهم. وهو ما يُعتبر ورقة مساومة أيضاً للسلطات. كما أن دوتيرتي ينوي التركيز أكثر على محاربة مجموعة "أبو سياف" في المرحلة المقبلة، مما يعني أن مساراً شبيهاً بمسار المفاوضات الكولومبية بين الحكومة و"القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك)، قد يولد في الفيليبين.
لا يقتصر الأمر على العمل الميداني أو السياسي فحسب بالنسبة إلى دوتيرتي، فالنمو الاقتصادي الفيليبيني في أفضل حالاته، وقد برهن عن تجاوزه نكسة عام 1998 المالية، التي أصابت ما سُمّي بـ"النمور الآسيوية" بالإحباط الاقتصادي. وقد يكون الموقع الجغرافي للفيليبين بين تايوان وإندونيسيا وماليزيا من مسببات عدم سقوط البلاد في الهاوية الاقتصادية، رغم انتشار أعداد كبيرة من الفيليبينيين خارجها، تحديداً في دول عربية. ومن شأن الصراع بين الولايات المتحدة والصين، في بحر الصين الجنوبي، أن يحوّل الفيليبين إلى مركزٍ جغرافي هامّ للسفن والبضائع العابرة.
مهمة دوتيرتي، في المرحلة المقبلة، تبدو واضحة بالنسبة إليه. يريد نقل "فرق الموت" الخاضعة لسيطرته في دافاو، إلى مستوى البلاد. ينوي الرئيس الفيليبيني الجديد، قتل أكثر من 100 ألف مجرم، من دون أن يعبأ لدعوات منظمات دولية وحقوقية عدة. وللدلالة على ارتباطه بالشارع، كشخصية شعبوية، فقد تعهّد لأسقفية دافاو الكاثوليكية، بدفع ألف بيزو فيليبيني (22 دولاراً) عن كل شتيمة يتفوه بها علناً. ربما ستخرج الأسقفية مع نهاية عهده في عام 2022 بخزينة مليئة بالأموال.