"على مساحةٍ موازيةٍ يحدث كل هذا. أرضٌ مشطورةٌ وسماءٌ لا تَكترث، والكثير من الحكايا بينهما. حكايتي هي تمريرٌ للذاكرة عن إرثٍ موحشٍ لم يدركه النسيانُ بعد". بهذه الكلمات اختارت التشكيلية السورية رندا مدّاح (1983)، ابنة الجولان المحتلّ، أن تقدّم معرضها "ربطة شعر" الذي افتُتح في فضاء غاليري "ون" في رام الله مساء أمس.
يضمّ المعرض أكثر من خمسين عملاً نحتياً موزّعاً، تقنياً، ما بين البرونز والجصّ والخزف الملوّن، وهو امتداد لتجربة مدّاح الخاصّة والممتدّة لأكثر من عشرة أعوام.
جاء العنوان بعد فترة من البحث عن مجاز يلخّص فكرة المعرض الذي يتكرّر فيه عنصر الشعر، والذي استخدمته الفنانة للتعبير عن حالات الشّد والتعليق والعنف، فوجدت في عنوان قصيدة زوجها الشاعر ياسر خنجر ضالّتها "استعرتُ اسم المعرض من عنوان قصيدة لزوجي، حيث وجدت أن كلامها يتقاطع مع رؤيتي الفنية"، تشرح النّحاتة في حديث إلى "العربي الجديد".
يبدو مشهد الأعمال الموزّعة في المعرض، المستمر حتى نهاية أيلول/ سبتمبر الجاري، جحيمياً؛ أجساد مسحوقة، مشلولة، منكسرة وخائفة، تتقوقع على بعضها أحياناً وتنعجن ببعضها أحياناً أخرى، تنجذب بقوةٍ نحو الأرض وكأنها نائمة أو ميتة أو مدهوسة.
من ضمن الأعمال، يشدُّك رأسان متلاصقان يحاولان الانفكاك عن بعضيهما. يُطلق الفم المشترك صرخة ألمٍ نكاد نسمعها، بينما يظهر في عمل آخر نصف جسد مقطوع يشد جسداً هزيلاً ميتاً من جديلته، ثمّة كائن آخر يحمل رأسين كما "الإيرمافروديت"؛ جسد يجمع رجلاً وامرأة في آن، يحتمي خلف ظهره طفل صغير مذعور، هناك أيضاً امرأة مفجوعة تنظر بجمود نحونا، تحتضن رضيعها بوضعية تذكّر بـ "منتحبة" أنجلو.
تلك الكائنات الجحيمية التي تعكس، بشكلٍ ما، صورة العنف المتصاعد في سورية، والتي تتقاطع بشكل أو بآخر، مع عوالم الفنان جيروم بوش الخيالية، تطرح السؤال مجدّداً عن العلاقة التاريخية الملتبسة بين الفنان ومفهوم الوحش، وعن الأبعاد الرمزية التي يُحمّلها الفنان للأشكال المرعبة؛ ففكرة الوحش تأتي تعبيراً عن خيال الإنسان وحاجته إلى ابتكار جسد خارج إطار "العادي"، جسد "غروتيسك" يعكس المتغيّرات العنيفة والطارئة في مجتمع ما. لذلك، فمن غير المستغرب حضور هذه الموضوعة في أعمال مدّاح.
"قد نرى في هذه الكائنات مجهولين ارتموا من أعلى برج وقضوا ثم نسيناهم على الفور، أو تهاووا بعد أن طيّرتهم قذيفة، أو اختنقوا أثناء نومهم، أو سُحقوا وديست ملامحهم بعجلاتٍ ثقيلةٍ أدهى من عبور الوقت، أو لعلّهم غرقى نُبشوا كالجرار في سفن قديمة من قاع البحر"، يقول الشاعر السوري جولان حاجي واصفاً تجربة الفنانة الأخيرة.
مدّاح مسكونة منذ بداياتها الفنية بفهوم "الغروتيسك"، فمنذ مشروع تخرّجها من قسم النحت في "كلية الفنون الجميلة" في دمشق عام 2005، مروراً بالتجارب التي نفّذتها بعد عودتها إلى الأراضي المحتلّة كما في التجهيز الفني "بلا بشارة" الذي عُرض في القدس ضمن مشروع "أبواب الجنّة" عام 2010، أو في معرضها "نقلاً عن ما قالته زوجة أحد الشهداء"، الذي احتضنه "مركز خليل السكاكيني" الثقافي في رام الله عام 2012، وانتهاءً بمعرضها الفردي الأخير الذي حمل عنوان "رصاص على ورق" وعُرضت أعماله في غاليري "أوروبيا" في باريس العام الماضي، تلك الأعمال التي نلحظ تأثيرها الواضح على مجموعتها النحتية الجديدة "ربطة شعر".
على ذلك تعلّق مدّاح "معرضي الحالي هو تجسيد، عن طريق استخدام وسيط النحت هذه المرّة، لعوالم معرضي السابق "رصاص على ورق". الأعمال تعبّر بالعموم عن حالتي الشخصية الموزّعة بين عالمين تفصل بينهما مجموعة من الإشكاليات والتناقضات".
تشكّل وعي مدّاح، المولودة في قرية مجدل شمس في هضبة الجولان المحتلّة، على فكرة الحدود التي تفصلها عن وطنها الأم سورية. لم يكن بوسعها سوى مراقبة ما يحدث على الطرف الآخر من دون القدرة على التواجد الفيزيائي في المكان، رغم أنه مكانها بالأصل، ما جعل الوطن فكرة متخيّلة وقصيّة. حتى أثناء دراسة النحت لم يكن بإمكان مدّاح، كمعظم الطلاب القادمين من الجولان، أن تستوعب أن حالة الوطن هذه مؤقّتة وأنها ستعود بعد انتهاء الدراسة إلى تلك المساحة المعلّقة بين السماء والأرض.
اليوم، وبعد أكثر من خمس سنوات على الثورة والحرب في سورية، تبدو صورة الوطن ضبابية وقاتمة. وأمام هذا العجز الذي أصابها، وأصاب السوريين عموماً، لم يعد أمامها الكثير من الاحتمالات، فهي اليوم تستعمل أدواتها كفنّانة لتحكي عن علاقتها مع هذا الواقع الفجّ.
"أعود إلى فلسطينَ وأتأمّلُ الأرض التي أمشي عليها: حشائشها، صخورها، الحفر، أشجارها المتدلّية، أحراشها، جذور أشجارها وبركها. وأفكّر في قرارةِ نفسي أنّها كلّها تشكّل شظايا، ليست من الأرض، بل من الوطن، وهذا ما تعكسه في الأشكالِ التي تخلقينها. أنتِ تخلقين الصّورَ الشخصيّة لهذه الجزيئات الأرضيّة من ذاتكِ، كأنّكِ تحملين حصى هضبة الجولان في يسراكِ وفي يمناكِ ترسمين أحشاءَها...". هذا المقطع من رسالة بعث بها الكاتب والناقد الفني الإنكليزي جون بيرغر إلى مدّاح، متحدّثاً فيها عن أعمالها الأخيرة.
بعد الموت بقليل
تُعد تجربة رندا مدّاح من أبرز التجارب العربية في الجيل الجديد؛ ليس لأنها تملك حساسية وخصوصية في التعامل مع النحت وحسب، بل لأنها من القليلات اللواتي يعملن بوسائط متعدّدة ويتمكّن من أدواتها جميعاً. وللمفارقة، فهي قادرة على صناعة التراجيديا باللهو، وكأننا أمام مسرح للدمى، أو في ساحة قتال بعد أن غادرها الجنود، أو في قرية قُصفت للتوّ، أعمال تقتنص لحظة عبرت بعد الموت بقليل.