22 نوفمبر 2015
رموز جزائرية تبدّد رمزيتها الثورية
حلّت ذكرى اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، أخيراً، على وقع جدل صاخب بين مشاركَـيْن فاعلَـيْن في ذلك الكفاح، وصل إلى تبادل الشتائم والتخوين، بين الجنرال المتقاعد خالد نزار والعقيد عمّار بن عودة، في تكرار صار مألوفاً عند أول نقاش يتناول تاريخ الثورة التحريرية.
وعلى الرغم من أن التاريخ والرواية الرسميين للثورة تحرّرا جزئياً من الرؤية الواحدية التي تبنّتها جبهة التحرير الوطني، مع قدوم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي تُـحسب له خطوات جريئة في هذا الصدد، مثل ردّ الاعتبار لمصالي الحاج وأحمد بن بلّة، فهذا التاريخ يعد بمثابة رأس مال سياسي ورمزي، استطاعت بفضله جبهة التحرير ورجالاتها البقاء في السلطة.
وكانت كتابة هذا التاريخ ارتهنته، بداية، الرواية الفرنسية التي سردت، وفق نظرتها المشوبة بحنين متجدد للكولونيالية، فصول "حرب الجزائر"، فظهرت الكتابات الجزائرية الأولى بمثابة ردّ فعل في مواجهة غزارة الدعاية والإنتاج الفرنسي، فراحت بلا وعي منها "تُؤَمْثِل" الرواية الجزائرية للثورة، فخلعت قداسة على الفاعلين فيها، خصوصاً الشهداء منهم، ومن دخل في الصف بعد أزمة صيف 1962 التي شهدت استئثار تيار معيّن بتركة الاستقلال، يضاف إلى ذلك الطبيعة المثالية للحركات اليسارية، والتي ترتفع بالعمل السياسي إلى قمم تعلو على التاريخ والواقع البشري.
وهكذا، وجد مجاهدون كثيرون (بالتعبير الجزائري) أنفسهم خارج الحلقة التاريخية، مُبعدين من صناعة ماضٍ أضحى مختلفاً، تمهيداً لسيادة الحاضر، وربما المستقبل أيضاً. وعلى الرغم من أنهم جزء من هذا كله، إلا أن كثيرين منهم، ولأسباب وطنية أساساً، اقتضاها السياق آنذاك، ضحّوا بأجزائهم من الحقيقة، باعتناق عقيدة الصمت، أو بمغادرة البلاد طوعاً أو كرهاً.
وشعبياً، اكتسب الشهداء والمجاهدون غير المغضوب عليهم، بفضل الآلة الإعلامية الحكومية والمقررات الدراسية، رمزية ارتفعت بهم إلى مقام القداسة، وتحوّلت سيرهم الرسمية في أذهان الناس إلى ما يشبه سير القديسين، وأغفلت الرواية الرسمية بذلك الطبيعة البشرية لهؤلاء، وظروف حرب عصيبة للغاية، ونضالاً قاسياً ضد قوة استعمارية كبرى. وتسبب هذا، مثلاً، في تعرّض أعمال أدبية وفنية، حاولت الاقتراب من هذا "الطابو" بنظرة مغايرة، إلى هجوم من شخصيات تاريخية، وحتى شعبية، على غرار الجدل الذي صاحب عرض فيلم "الوهراني"، والدعاوى الكثيرة لمنع عرضه في الصالات.
زادت، إذن، سعة الهامش الـمَقصيّ داخل التصورات السائدة، وتبلورت مكبوتات تاريخية على
مدى نصف القرن الماضي، ونمت سرديات اعتمدت أساساً على الثقافة الشفاهية والأقنية غير الرسمية، وانبرت بوسائلها إلى معارضة السردية السائدة من أجل إعادة صياغة هذا الرأسمال الرمزي والتاريخي، وما إن باشر بعض هؤلاء في كتابة مذكّراتهم، حتى ظهر جلياً أن "ردّ الفعل" في الكتابة التاريخية لا زال النهج المحبّذ في التعامل مع إرث الثورة المعقّد.
لم تتخلّص حتى كتابات الجيل الجديد من المؤرخين والباحثين في تاريخ الثورة من ظلّ الرواية الرسمية الثقيل، وظهرت وكأنها محاولة لخلخلة "المقدس" الرسمي، فغابت الموضوعية والحياد عن كثير منها، ولم يتشكل سعي جدّي إلى "أرضنة" الكتابة التاريخية، وتخليصها من المثالية. ولم يتم التعامل مع المذكرات وسير المجاهدين، بوصفها وجهات نظر في تاريخ جَمعيّ تضع اللبنات الأولى للكتابة التأريخية السليمة، بل تم التعامل معها، خصوصاً من بعض وسائل الإعلام المتلهفة للإثارة، بوصفها حقيقة مُغيّبة، وصوتاً للهامش المُبعد.
وفي المحصّلة، يفضي في الغالب تعارض هذه الرؤى، لا إلى نقاش تاريخي بنّاء، بل إلى تشنج وسجال يستمر أسابيعَ وأشهراً، وتبلغ فيه الآراء، في وقت وجيز، مبلغ الاتهامات التي تصل إلى حدّ التخوين والعمالة لفرنسا، وينحدر مستوى النقاش العام، بشكل يظهر معه تضخم الأنـا ومركزيتها الذي أصيب به ثوار قدامى، نتيجة مكوثهم سنين طوال في عتمة إعلامية. ويتضح بذلك أن للرمز التاريخي في الجزائر مكانة لا يحفظها له سوى صمته، وما إن تُجَر هذه الرموز، التي كانت تبعث سابقاً على الفخر في المخيال الشعبي، إلى انتهاك ذلك الصمت القدسي، في مناسبةٍ ما، حتى تُبدّد رصيدها من الأيقنة على أعمدة الصحف، وفي مقالات كانت تُحجز سابقاً لأخبار الإثارة، وما إن يُتاح منبر حوار أو ندوة تتناول موضوع الثورة، حتى يباشر الرمز المفترض هجوماً على طريقة One Man Show ضدّ رفقاء الماضي، مُلغياً ومتّهماً، في اعتماد حصري على ذاكرته الشخصية، أو تقارير فرنسية، مثل ما حدث مع ياسف سعدي الذي اعتمد على وثيقة فرنسية لدى اتهامه للمجاهدة المعروفة، زهرة ظريف بيطاط، بالخيانة. وبذلك، ينتهي عمر قصير للأيقونة الثورية، متحوّلة إلى موضوع جديد في الثقافة الشفاهية الشعبية التي اكتسحتها، في العقدين الأخيرين، نظرة الشِكاك إلى التاريخ الثوري.
والحال أن الصراع على الزمن، الماضي منه خصوصاً، لم ينقطع يوماً في الجزائر، كما في بلدان عربية كثيرة، وذلك لأن وعي أنظمة عربية كثيرة، في عمومه، نوستالجي استعادي، يفضّل العيش في التاريخ مفارقاً الواقع وأسئلته الجائعة.
وعلى الرغم من أن التاريخ والرواية الرسميين للثورة تحرّرا جزئياً من الرؤية الواحدية التي تبنّتها جبهة التحرير الوطني، مع قدوم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي تُـحسب له خطوات جريئة في هذا الصدد، مثل ردّ الاعتبار لمصالي الحاج وأحمد بن بلّة، فهذا التاريخ يعد بمثابة رأس مال سياسي ورمزي، استطاعت بفضله جبهة التحرير ورجالاتها البقاء في السلطة.
وكانت كتابة هذا التاريخ ارتهنته، بداية، الرواية الفرنسية التي سردت، وفق نظرتها المشوبة بحنين متجدد للكولونيالية، فصول "حرب الجزائر"، فظهرت الكتابات الجزائرية الأولى بمثابة ردّ فعل في مواجهة غزارة الدعاية والإنتاج الفرنسي، فراحت بلا وعي منها "تُؤَمْثِل" الرواية الجزائرية للثورة، فخلعت قداسة على الفاعلين فيها، خصوصاً الشهداء منهم، ومن دخل في الصف بعد أزمة صيف 1962 التي شهدت استئثار تيار معيّن بتركة الاستقلال، يضاف إلى ذلك الطبيعة المثالية للحركات اليسارية، والتي ترتفع بالعمل السياسي إلى قمم تعلو على التاريخ والواقع البشري.
وهكذا، وجد مجاهدون كثيرون (بالتعبير الجزائري) أنفسهم خارج الحلقة التاريخية، مُبعدين من صناعة ماضٍ أضحى مختلفاً، تمهيداً لسيادة الحاضر، وربما المستقبل أيضاً. وعلى الرغم من أنهم جزء من هذا كله، إلا أن كثيرين منهم، ولأسباب وطنية أساساً، اقتضاها السياق آنذاك، ضحّوا بأجزائهم من الحقيقة، باعتناق عقيدة الصمت، أو بمغادرة البلاد طوعاً أو كرهاً.
وشعبياً، اكتسب الشهداء والمجاهدون غير المغضوب عليهم، بفضل الآلة الإعلامية الحكومية والمقررات الدراسية، رمزية ارتفعت بهم إلى مقام القداسة، وتحوّلت سيرهم الرسمية في أذهان الناس إلى ما يشبه سير القديسين، وأغفلت الرواية الرسمية بذلك الطبيعة البشرية لهؤلاء، وظروف حرب عصيبة للغاية، ونضالاً قاسياً ضد قوة استعمارية كبرى. وتسبب هذا، مثلاً، في تعرّض أعمال أدبية وفنية، حاولت الاقتراب من هذا "الطابو" بنظرة مغايرة، إلى هجوم من شخصيات تاريخية، وحتى شعبية، على غرار الجدل الذي صاحب عرض فيلم "الوهراني"، والدعاوى الكثيرة لمنع عرضه في الصالات.
زادت، إذن، سعة الهامش الـمَقصيّ داخل التصورات السائدة، وتبلورت مكبوتات تاريخية على
لم تتخلّص حتى كتابات الجيل الجديد من المؤرخين والباحثين في تاريخ الثورة من ظلّ الرواية الرسمية الثقيل، وظهرت وكأنها محاولة لخلخلة "المقدس" الرسمي، فغابت الموضوعية والحياد عن كثير منها، ولم يتشكل سعي جدّي إلى "أرضنة" الكتابة التاريخية، وتخليصها من المثالية. ولم يتم التعامل مع المذكرات وسير المجاهدين، بوصفها وجهات نظر في تاريخ جَمعيّ تضع اللبنات الأولى للكتابة التأريخية السليمة، بل تم التعامل معها، خصوصاً من بعض وسائل الإعلام المتلهفة للإثارة، بوصفها حقيقة مُغيّبة، وصوتاً للهامش المُبعد.
وفي المحصّلة، يفضي في الغالب تعارض هذه الرؤى، لا إلى نقاش تاريخي بنّاء، بل إلى تشنج وسجال يستمر أسابيعَ وأشهراً، وتبلغ فيه الآراء، في وقت وجيز، مبلغ الاتهامات التي تصل إلى حدّ التخوين والعمالة لفرنسا، وينحدر مستوى النقاش العام، بشكل يظهر معه تضخم الأنـا ومركزيتها الذي أصيب به ثوار قدامى، نتيجة مكوثهم سنين طوال في عتمة إعلامية. ويتضح بذلك أن للرمز التاريخي في الجزائر مكانة لا يحفظها له سوى صمته، وما إن تُجَر هذه الرموز، التي كانت تبعث سابقاً على الفخر في المخيال الشعبي، إلى انتهاك ذلك الصمت القدسي، في مناسبةٍ ما، حتى تُبدّد رصيدها من الأيقنة على أعمدة الصحف، وفي مقالات كانت تُحجز سابقاً لأخبار الإثارة، وما إن يُتاح منبر حوار أو ندوة تتناول موضوع الثورة، حتى يباشر الرمز المفترض هجوماً على طريقة One Man Show ضدّ رفقاء الماضي، مُلغياً ومتّهماً، في اعتماد حصري على ذاكرته الشخصية، أو تقارير فرنسية، مثل ما حدث مع ياسف سعدي الذي اعتمد على وثيقة فرنسية لدى اتهامه للمجاهدة المعروفة، زهرة ظريف بيطاط، بالخيانة. وبذلك، ينتهي عمر قصير للأيقونة الثورية، متحوّلة إلى موضوع جديد في الثقافة الشفاهية الشعبية التي اكتسحتها، في العقدين الأخيرين، نظرة الشِكاك إلى التاريخ الثوري.
والحال أن الصراع على الزمن، الماضي منه خصوصاً، لم ينقطع يوماً في الجزائر، كما في بلدان عربية كثيرة، وذلك لأن وعي أنظمة عربية كثيرة، في عمومه، نوستالجي استعادي، يفضّل العيش في التاريخ مفارقاً الواقع وأسئلته الجائعة.