رعاية التوحّش الإيراني

07 نوفمبر 2014
+ الخط -

تعدد الحسابات وضبابية الرؤية وعدم وضوح الاستراتيجية الأميركية، تفرغ التحالف، الذي تقوده واشنطن، من أية فعالية ممكنة، بل وتحوّله إلى محفّز نشط يعمل على تغذية حالة الصراع، بعد أن ساهم في ولادة دينامية تدميرية مزدهرة، على وقع أخطائه الكبيرة وديناميكية ستطوي المنطقة بكاملها، وتسافر بها إلى طريق للخراب لا عودة منه.

تتحول المنطقة بكاملها إلى ملعب كبير للفوضى، وتتجذر فيها حرب دينية إثنية، لا يظهر لها نهاية في الأفق القريب، وعلى وقعها تتكشف حقيقة الدور الأميركي، وهي ليست على ما اعتقد محللون كثيرون، نمطاً من إدارة الصراع بين قوى مختلفة، تقف واشنطن على مسافة واحدة منها، تكتيكاً يؤدي، في النهاية، إلى ولادة تسويات سياسية متوازنة ترسّم علاقات مستقبلية على أسس جديدة ومختلفة، وفق قاعدة (لا غالب ولا مغلوب)، التي روّجها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عشية الموافقة على الإنخراط في أزمة المنطقة، بل هي نمط رعاية توحش إيران ونظام الأسد وعصائب الحق، وتنمية الوحش الداعشي بصورة مذهلة، وأسلوب يشرعن التوحش، سواء في الجهة، التي تعتقد أنها والأميركي في الخندق نفسه، أو في الجهة المتضررة من السلوك الأميركي.

ثمة دلائل كثيرة، يمكن وضعها في سلة الشكوك من هذه الإدارة للصراع المحتدم، فمجرد بدء نشاط الجهد الحربي الأميركي على الجغرافية السورية مع استمرار النظام في العمل، بكل أدواته القتالية وأساليبه الحربية، يثير تساؤلاً عن طبيعة الجذر، الذي تنطلق منه المقاربة الأميركية للوضع في سورية: هل هي حرب على الإرهاب بغض النظر عن جغرافيته وأطرافه؟ إذن، ماذا يعني استهداف إرهاب داعش والسكوت عن إرهاب نظام الأسد؟ أليس الطرفان في التعريف الأميركي من القماشة نفسها؟ ثم ألا يعني هذا التفريق مقدمة لتحويله إلى أمر واقع، يجري التكيّف معه، وترتيب الأوضاع المستقبلية على أساسه! تشير كل الوقائع إلى أن أميركا كان في وسعها تحقيق إدارة أفضل من الصورة الحالية، من خلال اشتراطات بسيطة، كان يمكن وضعها في قائمة شروطها للانخراط في المعركة وإنقاذ النفوذ الإيراني، المتداعي في حينه، لو أنها وضعت شرطاً إضافياً، يتمثل بوقف نشاط الطيران الحربي السوري، طوال المدة التي تستغرقها الحرب على داعش.

أكثر من ذلك، ثمة وقائع عملانية، تعمل واشنطن على إدماجها في قلب الصراع، وتحويلها إلى جزء من آلياته، منها ترك التداعيات تتحرك على هواها، في باقي سورية، لتشكّل مشهداً منحازاً إلى موازين القوى، التي يمتلكها نظام الأسد، بفضل إمدادات السلاح الروسية، الحديثة والفتاكة، والتي بدأت بتغيير الأوضاع في بعض الجبهات. وفي جانب آخر، تقتطع أميركا أعداداً من ثوار سورية، لتدرجهم في العمل حراساً لمصالحها في حقول نفط أربيل وبغداد، وتعمل على توظيف القبائل الموجودة في تلك المنطقة ضمن هذا المشروع، وتهندس تلك المنطقة، لتحويلها إلى طوق حماية، ستكون وظيفتها الوحيدة حماية خطوط النفط وحدوده على تخومها. وفي ذلك كله، تحرص أميركا على مراعاة حساسيات دول إقليمية ودولية، من دون الالتفات إلى المذبحة، الجارية قربها على قدم وساق.

لكن، على هامش هذا المشهد، تتشكل قناعات واضحة لدى المكون الأكثري في المنطقة، من بغداد إلى بيروت، مفادها بأن أميركا لن تتدخل، طالما أن الكفة لصالح إيران. تتدخل فقط عندما تميل تلك الكفة، عندما هدّدت داعش العراق، وعندما سيتهدد نفوذ حزب الله في لبنان، الذي بات يحرك في الظل الجيش اللبناني، وبهذا المعنى صار حزب الله محظياً أميركياً، وهو يتصرف على أساس أن أميركا لن تسمح بتهديد نفوذه، كما أنها راضية تماماً عن سلوكه! هل تفسير ذلك قناعة واشنطن بأن إيران وأذرعها باتوا حماة الأقليات في المنطقة، وبالتالي، تتغاضى عن شرهم الأصغر في مواجهة الشر الأكبر؟

وعلى وقع ذلك، يتزايد تأييد داعش في المنطقة، يجب أن لا نختبئ وراء أصابعنا. في كل دول المشرق، هناك نهوض في تأييدها، ومع كل غارة تنفذها أميركا، ومع كل تصريح استفزازي لإيران، وانتصاراتها الأسطورية في البر والبحر، يزداد عدد مؤيدي داعش. وليس بعيداً ذلك الوقت، الذي ستصبح فيه حواضن داعش أقوى من أن تسمح للحلف بالقضاء على التنظيم. هذه نذر كان على أميركا ألا تخطئ قراءتها.

واليوم، يتم تسليط الضوء على داعش. تحت هذا الضوء، لا تجد غير البيئات، التي ثارت على الظلم في سورية والعراق، يجري تشريحها وتحليل معتقداتها وأنماط عيشها ومواقفها من المرأة والحضارة والثقافة والعولمة، ثم بعد ذلك تركها لتموت قصفاً بالبراميل، أو جوعا في المخيمات، وكان ذلك التشريح سيكون سيرة ذاتية لأقوام انقرضت، وسيكون تبريراً مناسباً لانقراضها؟ اليوم، تطوي صورة المرأة التي رجمتها داعش حكاية ألف روح من أطفال ونساء قتلتها قوات النظام في أسبوع واحد، وتغطي التحقيقات التي تجريها وسائل الإعلام العالمية عن حواضن داعش، والتي تتلقط شاباً عاطلاً عن العمل على مقهى في تونس، وآخر مهمّشاً في تركيا وثالث معدماً في القاهرة، تغطي على موت السوريين، بفعل توقف الأمم المتحدة عن إغاثتهم. اليوم، يشعر السوريون أن العالم يأخذ معهم ولهم الصورة التذكارية الأخيرة، فيما يمضي تحالف أميركا بتسوير مصالحه بأبناء القبائل العربية، الذين أخرجهم حكام بغداد الجدد من عباءة الوطنية العراقية، ومن ثوار سوريين، انتظرهم شعبهم، ليخلصهم من الموت اليومي على يد كتائب إيران.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".