ليس من السهولة بمكان أن نصنّف الموسيقي التونسي الذي رحل أمس الجمعة، رضا بلحاج خليفة، المعروف باسم رضا ديكي، وهو لقب اكتسبه من أشهر أغنية أطفال في تونس، "ديكي ديكي أنت صديقي"، كان هو ملحّنها ومؤدّيها. فمن جهة يمكن أن نضعه ضمن فئة الفنانين الشعبيين، بالمعنى الأوسع للكلمة وليس ذلك المعنى الذي يجري تكريسه في الدوائر النخبوية، على اعتبار أن فنّه توجّه إلى شرائح واسعة دون تقسيمات عمرية أو طبقية.
كما يمكن تصنيفه ضمن دائرة "الأغنية الملتزمة"، مع بعض التجاوز في استعمال المفهوم، وهو الذي صعد نجمه بين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في نفس الفترة التي برزت فيها ظاهرة "الأغنية الملتزمة" في الأوساط الطلابية والعمالية، ولم تكن مضامين أغانيه بعيدة عما تتناوله الوجوه الأساسية ضمن هذه الظاهرة وإن لم يقدّم نصوصاً بنفس النزعة المباشراتية.
أخيراً، يمكن تصنيف رضا ديكي ضمن خانة الفنانين الكاسرين للأطر الفنية الجاهزة، فلم يكن يقتصر على ألوان موسيقية شرقية أو غربية بل يتنقّل بينها بمرونة وخفة يصبّها في قوالب نصوص كان يبدعها بشكل غريب، إذ لم تكن في غالبها من كتابته، وإنما هي تطويعاتُ نصوصٍ معروفةٍ للألحان ومنطق رضا ديكي في فنّه بشكل عام.
يبقى القاسم المشترك بين جميع هذه التصنيفات هو بقاء الفنان التونسي بعيداً عن دوائر الثقافة الرسمية، بعيداً بالخصوص عن منظومة الامتيازات التي توزّعها "وزراة الثقافة" والخصومات التي تحرّك المتصارعين حولها. رغم ذلك، لم يكن رضا ديكي يشعر بأنه فنّان مهمّش، ربما كانت تطمئنه شعبية لم يكن يحظى بما من يحضرون بشكل متواتر في وسائل الإعلام أو يصعدون على منصّات مهرجانات كثيرة.
في السنوات الأخيرة، بدا رضا ديكي وقد استأنف شيئاً من إشعاعه بفضل المساحة التي أتاحتها مواقع التواصل الاجتماعي، وضمنها صفحة فيسبوكية نشر فيها إضافة إلى بعض الأغاني والسكيتشات مجموعة رسوم كاريكاتورية كانت تتابع منعرجات الحياة السياسية في تونس، كما أطلق قناة على يوتيوب تميّزت ببساطة أدائه فيها وخفة ظلّه، وقد اعتمد فيها بالخصوص على إعادة أغانيه، وكان في الغالب يقدّم رتوشات صغيرة عليها، ويمزج بين آلة الهارمونيكا والغناء الساخر، حتى أنه أعاد أغنية "أنا عندي رانديفو" (لديّ موعدٌ) إلى إحدى أكثر الأغاني استماعاً، وهي عودة يفسّرها قبل كل شيء البُعد النوستالجي الذي يرافقها حيث أن معظم مستمعيها كانوا قد حفظوها وهم صغار.
لكن يبقى السر الأكبر لهذه الأغنية هو خلطتها الغريبة، حيث اقتبسها رضا ديكي عن نص لأبي القاسم الشابي ثم صاغها في لغة عامية غير بعيدة عن النص الأصلي لكنها تنقلها من أجواء الشعر الرومنطيقي إلى رؤية طريفة وعميقة للعالم. هذه العودة تقاطعت مع المرحلة السياسية الجديدة (ما بعد 2011)، خصوصاً حين يقول "أنا عندي رانديفو مع الربيع..".
من الأغاني الطريفة الأخرى التي اشتهرت لرضا ديكي أغنية "المادلينة" والتي استبدل استعمال الحيوان لتشخيص الواقع في أمثولاتٍ بالثمار والخضراوات. وفي أغنية "مكتوب" جمع بين معنيين لنفس المفردة في العامية التونسية (القدر، الجيب) ليرسم مشهداً يتأمّل العالم النفسي للإنسان المعاصر. كما لحّن أيضاً للشابي أغنية "الصباح الجديد"، وقدّم في 2014 أغنية بعنوان "أنا نغني للحب" عرفت نجاحاً لافتاً، إضافة إلى استعادته من حين إلى آخر لعدد من أغانيه القديمة الساخرة مثل "الكورة" و"أنا عمري ما نكذب" و"لالاني" و"كي الزربوط"، وهي جميعها تقوم على التلميح الذكي لإشكاليات اجتماعية وسياسية.
في إحدى حفلاته في الثمانينيات، ألقى رضا ديكي نصاً بعنوان "حكاية الجمل الهلالي"، ويروي فيها قصة جمل يجري تزيينه في الأعراس ليحمل العروس من بيت والدها إلى بيت زوجها، ثم يجد نفسه مع نهاية الصيف وقد أصبح يعاني من البطالة، ليبدأ في تقديم مطالب كثيرة لمسؤولين كسالى وانتهازيين كي يؤمّن عيشه، قبل أن يقرّ بأنه محظوظ أكثر من صديقه الفيل الذي يقتل كي تنزع أنيابه العاجية، أو الثور الذي يجعلون منه بطل فرجة تنتهي بغرس سكين في عنقه، إلخ... لم تكن حكاية الجمل التي ألفها رضا ديكي بعيدة كثيراً عن حكاية الفنان في منظومة الثقافة.. أي فنّان.