ضاقت فرنسا، بلد الحريّات المزعوم، على المخرج المشاكس رشيد بوشارب، كما ضاق هو بتزايد الضغوط المفتعلَة عليه وعلى أفلامه، فبدأ يبحث عن مكانٍ يستطيع أن يحرّك فيه الكاميرا في أيّ اتجاهٍ أراد، دون حواجز سياسيةٍ تحجب رؤيتها. هكذا ترك المخرج الجزائري فرنسا وتوجّه إلى أميركا، حيث صوّر فيلمه الجديد "طريق العدو" أو "رجلان من المدينة". لكنه، كما يبدو، ما زال غير مستعدّ للتخلّي عن مناوشته.
يحضر الآخر، في سينما بوشارب، ليشكّل أرضيّة الاشتغال في أعماله. ويكشف عن هذا الخيار فيلم "غبار الحياة" (1996) الذي رُشّح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في "الأوسكار"، ويتجاوز الرواية الأميركية لحرب فيتنام، بتناوله مصائر الأطفال الذين خلّفهم الجيش الأميركي من زيجاته بنساءٍ محليّاتٍ، بعد انتهاء الحرب.
ثم تتّضح الرؤيا أكثر في "سكان أصليون" (2006)، وهو جزء أول في ثلاثية يعتزم إخراجها، ويحاكم فيه المستعمِر عبر استغلال فرنسا جنوداً مغاربة في الحرب العالمية، ثم قيامها بمجزرة سطيف في 8 أيار/ مايو 1945، التي راح ضحيتها أكثر من 45 ألف جزائري.
ليعود فيتعمّق في الموضوع ذاته في "خارجون عن القانون" (2010)، الذي رُشّح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في "الأوسكار" وقتها، واستكمل المخرج سياقه الحكائي من خلال أسرة مكوّنة من ثلاثة إخوة يعيشون في فرنسا، وهم من الناجين من مذبحة سطيف.
ورغم اعتياد بوشارب معارضة أفكاره، إلاّ أنه لم يتوّقع ما حدث لفيلمه "خارجون عن القانون"، إذ نُظّمت مسيرات احتجاجية مُسيَّسة في فرنسا من أجل سحبه من مهرجان "كان"، وهدّد متطرفون بحرق الصالات التي ستعرضه. حملة ادّعت تزويره الحقائق التاريخية، وهي تهمة لحقت به منذ "سكان أصليون".
ترك المخرج العاصفة وراءه وانتقل إلى أميركا، وقدّم هناك فيلمه الجديد "طريق العدو"، وهو جزءٌ ثانٍ من ثلاثية أميركية تحكي قصة ويليام غرانت (فروست وايتكر) الذي قضى 18 سنة في السجن بعد قتله ضابط شرطة، ثم خرج بإطلاق سراحٍ مشروطٍ. لكن محافظ الشرطة بيل أغاتي (هارفي كيتل) قرّر تحويل حياته إلى جحيمٍ، لأنه لم يتقبل تجوّل شخصٍ بحريةٍ أمامه بعد قتله شرطي، علماً أن مساعيه ستصطدم دائماً برؤيا الشرطية أملي سميث (برندا بيلثين)، المشرفة على إطلاق السراح المشروط، التي تؤمن بالثقة لإعادة إدماج ويليام في الحياة.
رغبة وليام بسطية: أن يبدأ حياةً جديدةً مع تيريزا التي التقاها صدفةً في المصرف، والابتعاد عن حياة الجريمة التي عاشها في الماضي. لكن، إضافةً إلى معاكسة الشرطة له، سيقف ترينس (لويس غزمان)، زعيم العصابة التي عمل معها ويليام سابقاً، في وجه رغبته، فيلحّ كثيراً لإعادته إلى عالم الجريمة، ويقوم بالاعتداء على حبيبته تيريزا من أجل الضغط عليه...
الآخر حاضر أيضاً في هذا الشريط، يحاصره بوشارب بسلسلة إرادات تكبّل رغبته في العيش، لا لاعتبارات عرقيّة أو أيديولوجية، بل لأنّه مجرم سابق. لكن المخرج لم يُحسن التعبير عن ذلك، ولا يأتي بوحٌ جانبي من الهامش، أي من الشخصيات المحيطة بالبطل، لردم المعنى المفقود.
كما أن صراع الخير والشر فكرة مستهلكة في الأفلام الأميركية، ولا يمكن أن نردّ العدائية الموجّهة ضد البطل إلى خلفيته الإسلامية، لأن الفيلم لم يفصح عن هذا الجانب؛ ما يبعد فكرة حضور المسلم كأنه يواجه آخر مُضطهِداً، رغم حسن اشتغال بوشارب على الفكرة ذاتها في فيلم "نهر لندن" (2009). لكن هنا ضلّت الفكرة طريقها، ما يجعلنا نتساءل: هل مِن شخصية مسلمة في الفيلم؟
من جهة أخرى، حرص المخرج على التعامل مع أسماء كبيرة، مثل فروست وايتكر وهارفي كيتل، من دون أن يوفّر لها جوانب للتميز، بينما تجعلنا القصة نشعر بافتقادها أشياء كثيرة عهدناها في سينما بوشارب.