يُعتبر رشيد الأندلسي واحداً من المهندسين المعماريين المغاربة الذين لا تخطئ العين لمستهم الجمالية. ومن موقعه هذا ينخرط، منذ سنوات، في مشروع يعيد تقييم الإرث المعماري الفرنسي في المغرب، باعتباره يؤرّخ لمرحلة تطور المدينة في المغرب الحديث. ومن موقعه كمهندس، يتوقف عمّا أنجزه المارشال ليوطي، "المقيم العام" في المغرب، في المجال العمراني حتى عام 1927.
سألت "العربي الجديد" عن السبب الذي جعل هذا العسكري الفرنسي يتعامل مع الواقع العمراني المغربي بنوع من الإيجابية، فأجاب: "استفاد ليوطي من التجربة الجزائرية ومن تجربتَي الهند الصينية ومدغشقر التي كانت جميعها دموية. وقد ساهم في تحوّله أيضاً تطوّر العلوم الاجتماعية. وهو إلى ذلك لم يكن مجرد عسكري، بل كان أيضاً رجلاً مثقّفاً".
وعن سبب إقدام ليوطي على التأسيس لنوع خاص من المعمار في مدينة الدار البيضاء، يجسّد نمطاً متطوراً من المعمار الإسلامي، يقول:
"حين حلّ ليوطي في المغرب، بعد عقد الحماية، انتبه إلى أن هناك هوية وخصوصية حضارية قوية تميز المجتمع المغربي، كما وجد أمامه قاعدة عمرانية قائمة، تأسست عبر مراحل تاريخية طويلة، ومشهداً ثقافياً متنوعاً، يحضر فيه الجبل بهويته وخصوصيته، كما يبرز السهل والمدن الساحلية العتيقة".
"كما لاحظ وجود نشاط حرفي غني ومتنوع، وتنظيم اجتماعي متماسك، رغم ما كان يقال عن مظاهر الفوضى وغياب الأمن، في ظل حكم مركزي ضعيف. من هنا انبثقت فكرته المغايرة عن المغرب والمغاربة، ما أثّر على بعض قناعاته العسكرية السابقة. هذا دون أن ننسى أنه كان عضواً في الأكاديمية الفرنسية، كما أن ميوله كانت ملكية".
وعلى المستوى العمراني، يوضح الأندلسي أنّ "ليوطي استفاد من هندسة بناء القصبات في المناطق الجنوبية، بأشكالها الشامخة وعلو أسطحها، وباحترامها لخصوصية المنطقة المناخية والطبيعية، عبر الاستعانة بالجوانب العلمية والمعرفية في تشييدها، وليس فقط بتقاليد وأعراف البناء المتداولة. لقد وجد مدناً مثل مراكش وتطوان وطنجة وفاس ومكناس وورزازات والجديدة والصويرة، بناها المغاربة منذ القدم، وهي حواضر كانت مهمة بعنصرها البشري وطابعها الحضري المتمدن".
"من هنا استمد أسس نظرته المعمارية، التي دعت إلى ضرورة وجود فئة اجتماعية مغربية في مدينة الدار البيضاء، داخل أحياء ذات طابع إسلامي أندلسي، إلى جانب البنيات والمرافق الإدارية ذات الطابع الغربي الحديث. ولعل هذا ما يعكسه حي الأحباس التقليدي الأصيل في قلب المدينة".
وعن مفهوم "المتحف الاجتماعي" الذي أسس له ليوطي، يقول: "هذا الأمر كان عبارة عن جمعية تضم المهندس المعماري والصانع التقليدي والمثقف وعالم الاجتماع، بهدف التفكير في المسألة العمرانية بنوع من تكامل الأفكار. كما بادر المشروع بخلق المرافق الصحية وتعميم التلقيح وخلق المذابح البلدية العصرية، وتدشين سياسة التشجير..."
"كل هذه المشاريع كانت تشرف عليها خلية "المتحف الاجتماعي". وبالتالي، لم يعد للعسكري فقط ذلك الطابع الشرس، وإنما أصبح يوظف بعض خبراته ومعارفه في الجوانب الاجتماعية. هذا الأمر لم تكن السلطات الفرنسية تراه بعين الرضا، لذا أقالته سنة 1927، لتفسح المجال لديكتاتورية عسكرية جديدة، لم تكن تؤمن بالبناء ولا بالعنصر البشري".
وعن عدم مواصلة المغاربة البناء على منوال العمران الإسلامي المتطور الذي تبناه ليوطي، أوضح الأندلسي أن "هذا الأمر ساهمت فيه عقليات كانت تظن أن المدن والأبنية تُورَث كما تورَث الأشياء الجامدة، والحال أنها كائنات حية وغير ثابتة، تحتاج إلى صيانة وإلى رؤية مستقبلية. فالمدن هي التي تقودنا نحو المستقبل، في ارتباط مع متطلبات الأنشطة الاقتصادية أو المصالح النخبوية والمضاربات العقارية وغيرها".
"أكثر من ذلك، شعر المغاربة بعد الاستقلال، وهذا أمر طبيعي، بنفور من كل ما هو فرنسي، لكونه يذكّرهم بمرحلة الاستعمار، فتخاصمنا مع كل هذا الإرث، مع المدينة الأوروبية بعمرانها وهندستها، تخاصمنا مع الفضاء، بل تخاصمنا مع هويتنا، لأننا كنا نعتبر أن لدينا عناصر خاصة بنا تعكس شخصيتنا. وهذا ما أفرز بناءً هجيناً".
وعن المبادرات العمرانية التي ينخرط فيها الأندلسي ضمن فريق جمعية "ذاكرة الدار البيضاء"، يقول: "إننا نطمح إلى تجميع شتات هذا التاريخ. نعمل على إعادة إحياء تراث كل ساكنتها. فالدار البيضاء مدينة كريمة، معطاء، محتضنة للغريب والمهاجر من القرى والبوادي المجاورة والبعيدة من أجل الاستقرار والبحث عن مورد رزق. لكن ما حصل أن سكانها لم يعودوا كرماء تجاه ذاكرتها الحضارية".
"ما نقوم به يعتبر امتداداً لما قامت به "الحركة الوطنية" في الحفاظ على الذاكرة المغربية، وصون أصالتها وامتدادها المتنور والمشع بما يتصادى مع ما هو كوني. إننا نراهن على تصنيف اليونسكو لمدينتنا كتراث إنساني عالمي".
ويرى رشيد الأندلسي أن الفنان التشكيلي يتمتع بحرية أكبر من المهندس المعماري في مجال الإبداع. فرغم أنه يشترك مع الأخير في الاشتغال على الفراغ، إلا أن حركته، إذا ما شابها أي خطأ، لا يمكنها أن تؤذي الإنسان أو تهدد حياته. "أنا أحسد الفنان التشكيلي على حريته، وقد أذهب إلى وصف بعض أفكاره بكونها مجنونة، وهو تعبير لا يمكن أن ينسحب على ما يبدعه المهندس الذي لا يحق له أن يتمتع بأي هامش من الجنون".