رسالة من مقبرة جماعية
المسألة أصبحت أكبر من قرارات انتقائية للعفو، وأخطر من أسماء معتقلين، تحبهم أو تكرههم. المسألة متعلقة بمستقبل مصر الذي يحوله عبد الفتاح السيسي إلى مستقبل أسود كارثي، بفضل الحرب الإجرامية التي يشنها نظامه ضد أي شاب يسعى إلى ممارسة حقوقه السياسية بأي شكل. وخذ عندك، مثالاً، الرسالة التي كتبها أنس سلام، رئيس اتحاد طلاب جامعة قناة السويس المقبوض عليه من أمام جامعته، والمتهم بتهمة عجيبة، هي الإتصال باتحادات جامعات أخرى، والمحبوس احتياطياً منذ أشهر، كأنه مجرم عتيد، وضع رسالته في عين كل من يسأل بفُجر وصفاقة: أين اختفى دور الشباب؟
يقول أنس سلام في رسالته: أبوح لكم عما في خاطري، لعلي أجد أحداً يسمع أو يعقل. في 2009، أكملت دراستي الثانوية، ثم التحقت بالمعهد الفني الصناعي بقويسنا، ثم التحقت بكلية التعليم الصناعي بالسويس في 2011. في أواخر2009 ، بدأت العمل مع جمعية رسالة، وفي 2011 التحقت بمدرسة نماء للتنمية المستدامة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. وفي نفس العام، التحقت بصناع الحياة في بداية انطلاق مشروع (العلم قوة) لمحو الأمية. وفي يناير 2013، بدأت العمل مع مؤسسة مصر الخير. في العام الدراسي الأول لي بالكلية، انتُخِبت نائباً لرئيس اتحاد الكلية، وعضواً بمجلس اتحاد طلاب الجامعة. وفي العام الثاني، تم انتخابي رئيساً لاتحاد الطلاب بالكلية، ونائباً لرئيس اتحاد طلاب الجامعة، وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد طلاب مصر، وكل ذلك في إبريل 2013. وبعد تخرج رئيس الاتحاد، تم تصعيدي رئيساً لاتحاد طلاب الجامعة. كل ما سبق هي أهم محطات حياتي في الأربع سنوات السابقة، ولا أخفي أن لي أيضاً إخفاقات، مثل توقف عمل فريق معرفة بالمنوفية، والذي أشرفت على تأسيسه، وهو فريق يعمل علي نشر الثقافة بين الشباب، وإخفاقي الثاني هو عدم إكمال مشروع (إحياء) الذي وصل إلي نهائي تصفيات مسابقة فكرتي، التابعة لكلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية، وفكرة المشروع هي الاستفادة من المخلفات الصلبة.
حياتي، باختصار، تنقسم إلى ثلاث اهتمامات. الأول: المجتمع المدني والتطوع. والثاني: البيئة والتنمية المستدامة. والثالث: اتحاد الطلاب وتطوير التعليم الفني. كنت متفائلا جداً رغم كل ما حدث من قتل لزملائي، أو معارفي، أو حتى معرفتي بظلم وقع علي الطلاب أو آخرين، كنت أقوم بما يجب علي، بقدر المستطاع، ولكنني أعترف أني لم أترك بصمة حتى الآن. وبرغم ذلك، حاولت، ورغم كل محاولاتي، ها أنا الآن بين أربعة جدران محبوساً على ذمة التحقيق. هنا يصفونى بأنني سجين سياسي، رغم إعلان السلطات، في أكثر من مناسبة، بأنه لا يوجد سجناء رأي، أو سجناء سياسيون. هنا الحياة مثل الحياة في المقابر الجماعية، خمسون فرداً يعيشون في حيزٍ، لا يتسع إلا لثلاثين فرداً على أكثر تقدير. العبور في الصباح بين النائمين يذكّرنى بالعبور بين الأموات في مشرحة زينهم أو المقابر الجماعية.
لا أعرف أي ذنب اقترفت، لكي أكون هنا. لا يخفى على أحد أنه بعد 30 يونيو و3 يوليو، كان لي منهما موقفي الشخصي الذي لا أعبر عنه لأحد، أما موقفي المعلن بصفتي رئيس اتحاد الطلاب فهو أننا نمثل كل الطلاب، ولا يصح أن أقف مع هذا الطرف أو الطرف الآخر. ولكن، يجب علي أن أسعى على حقوق الطلاب القتلى، وإسعاف المصابين، وتمكين المعتقلين من أداء امتحاناتهم. شاركت في كل اللقاءات التى دعيت لها من وزارة التعليم العالي، بداية من مصطفى مسعد، مروراً بوائل الدجوى، والأهم ملتقى اللائحة الطلابية الذي دُعي له في عهد الوزير السيد عبد الخالق ـ والألقاب محفوظة ـ والآن، بعد ما أعانيه، هل تعتقد أنه يجب أن أكمل ما فعلته، أو أن أعطي اهتماماً لأحد، أو أثق في النظام أو حتى الدولة؟
في بداية فترة حبسي، كان كل تفكيري في كيف سوف أهاجر من هذه البلد، بمجرد خروجى من الاعتقال. الآن، لا أخفي عليكم أن التفكير يبدأ في كيف سوف أعيد كرامتي وعزتي ومكانتي، بعدما يحدث من إهانة لنا. أصبح التفكير بلا حدود، وكل ما هو مباح أصبح محل دراسة، لا أظن أنى سوف أخرج قريباً من هنا. لذلك، لا أهتم بالسياسة، ولا الحقوقيين، ولا النظام، ولا الدولة، وأصبحت أهتم بنفسي وفقط، ولا أحد يستطيع أن يلومني.
......
المشكلة أن كل المظلومين داخل السجون لن يفكروا مثل أنس سلام، فيما هو مباح فقط، وهنا يكمن جوهر الكارثة القادمة التي يواصل السيسي صنعها كل يوم، بإغلاقه أبواب الأمل بالضبة والمفتاح.