الرسالة التي خصّ بها القيادي الأسير صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية كانت بمثابة التحدّي الأول لمصلحة سجون الاحتلال مع دخول الإضراب ساعة الصفر، بحيث تمكّن من إرسال رسالة إلى الإعلام الأجنبي من داخل السجن. ذلك ما انعكس في ردّة الفعل الإسرائيلية، بعد عزل البرغوثي في السجن الانفرادي، والهجوم الحادّ الذي تصدّره سياسيّون ومعلّقون إسرائيليون على الصحيفة الأميركية.
وإلى جانب ذلك، يمكن قراءة الرسالة على أنّها خطوة إضافية لرفع سقف المواجهة في معركة الأمعاء الخاوية، ومدّها بزخم عالمي يسير في اتّجاه موازٍ مع الحراك العالمي لحركات المقاطعة ونزع الشرعية عن إسرائيل، إلى جانب الزخم الشعبي والفصائلي. ومع تواتر الرسائل الثلاث في وقت واحد، تصبح الأضلاع الثلاثة التي يعوّل عليها البرغوثي ورفاقه في المواجهة أكثر وضوحًا: الجماهير الفلسطينية؛ والأجيال الشابة ضمن الحركة الطلابية (التي نشأ البرغوثي داخل صفوفها، وكانت عماد الانتفاضة الفلسطينية خلال العامين الماضيين)؛ والحراك الشعبي/القانوني على الحلبة الدولية.
وفي مضمون الرسالة، التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، يستهلّ البرغوثي حديثه بالقول: "بعد أن قضيت 15 عامًا في سجن إسرائيلي (هداريم)، كنت شاهدًا وضحية على النظام غير القانوني للاعتقالات التعسفية الجماعية الذي تمارسه إسرائيل، وسوء المعاملة التي يتعرّض لها الأسرى الفلسطينيون. وبعد استنفاد جميع الخيارات الأخرى، قررت أنه لا خيار سوى مقاومة تلك الانتهاكات عبر الشروع في إضراب عن الطعام".
وأضاف البرغوثي: "أثبتت عقود من التجربة أن نظام إسرائيل غير الإنساني، القائم على الاحتلال الاستعماري والعسكري، يهدف إلى كسر روح الأسرى والشعب الذي ينتمون إليه، من خلال إلحاق الأذى بأجسادهم، وعزلهم عن عوائلهم ومجتمعاتهم، واستخدام إجراءات مهينة لجبرهم على الخضوع، وعلى الرغم من هذه المعاملة فإننا لن نستسلم".
بين سطور الرسالة، حاول البرغوثي أن يستعرض قضيّة الأسرى، بمختلف أبعادها، من خلال تجربته الشخصيّة في الأسر، التي واكبتها فصول التعذيب الجسدي والنفسي، والإهمال الطبي، والعزل الانفرادي، الذي فرض عليه أيضًا بالأمس بعد رسالته إلى "نيويورك تايمز"، فضلًا عن تجربة الأسرى الأطفال، التي عايشها أيضًا في السابق، قائلًا: "كنت فقط في الخامسة عشرة من عمري حينما سُجنت للمرة الأولى، وكنت بالكاد ابن 18 عامًا عندما أجبرني أحد المحققين الإسرائيليين على فتح ساقي بينما وقفت عارياً في غرفة الاستجواب، قبل أن يضربني على أعضائي التناسلية. لقد تجاوزت الألم، لكنه ترك ندبة دائمة على جبيني. سخر مني المحقق بعد ذلك، قائلًا إنني لن أنجب بعد ذلك، لأن أشخاصًا مثلي لا ينجبون سوى الإرهابيين والقتلة". واستطرد بالقول: "أكبر أبنائي أصبح الآن رجلًا ابن 31 عامًا، ومع ذلك ما زلت قابعًا هنا، متابعًا هذا الكفاح من أجل الحرية جنبًا إلى جنب مع آلاف السجناء".
وإلى جانب هذا البعد الشخصي الإنساني في الرسالة، الذي يحيل إلى تجارب الآلاف من رفاقه في الأسر، 44 منهم ما زالوا خلف القضبان منذ أكثر من 20 عامًا، دون أن يتمكّن بعضهم من رؤية أبنائه، حرص البرغوثي في خطابه على الإشارة إلى قضية الأسرى في سياق القانون الدولي، والتأكيد على الخروقات الإسرائيلية إزاءه. تبعًا لذلك، تواتر ذكر إسرائيل بين السطور بوصفها دولة احتلال واستعمار وفصل عنصري، وجاءت الرسالة ممزوجة بمفردات النضال ضدّ الاستعمار، وباستعارة أيقونات عالميّة في هذا السياق، من قبيل الإشارة إلى "الحملة الدولية لتحرير مروان البرغوثي وجميع السجناء الفلسطينيين"، التي أطلقها أحمد كاثرادا، رفيق الزعيم الراحل نيلسون مانديلا في النضال ضدّ الفصل العنصري، وزوجة الأسير مروان البرغوثي، فدوى، عام 2013، ومن داخل إحدى الزنازين التي مكث فيها مانديلا إبّان نظام "الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا.
تبقى مفردات الخطاب تلك ذات دلالة، ليس على صعيد النهج النضالي للحركة الأسيرة، وخطابها السياسي فحسب؛ بل إن نشره كاملًا، طبقًا للصيغة التي كُتبت من داخل سجن "هداريم"، على صفحات "نيويورك تايمز"، يبقى مهمًّا بالنظر إلى انتشارها الواسع عبر العالم، وتأثيرها على الرأي العام الأميركي على وجه الخصوص، سعيًا نحو مدّ حركة الإضراب بزخم "عالميّ".
عطفًا على ما سبق، يؤكّد القيادي المضرب عن الطعام، في رسالته، أن هذا الإضراب هو "الوسيلة الأكثر إنسانية من بين الخيارات المتوفرة للمقاومة"، قائلًا: "إسرائيل حاولت أن تصمنا جميعًا بالإرهاب لشرعنة انتهاكاتها... هي ليست أول قوة احتلال أو استعمار تلجأ إلى تلك الذرائع، فكل حركة تحرر وطني في التاريخ بوسعها تذكّرُ ممارسات مماثلة. ذلك ما يفسّر أن كثيرًا من الأشخاص الذين قاتلوا ضد القمع والاستعمار والفصل العنصري يقفون معنا... وتضامنهم يكشف عن فشل إسرائيل الأخلاقي والسياسي".