رسالة حمص إلى العالم

04 أكتوبر 2014
حمص القديمة بعدما دمرها النظام السوري (فرانس برس/getty)
+ الخط -
عندما يُطلَبُ منّي أن أتحدّث عمّا حصل ويحصل في حمص وفي سورية اليوم، أشعر أنني وحيدة مثل الشعب السوري. أشعرُ بالخزي والهزيمة، أشعُرُ بأنني أشلاء مبعثرة كاللاجئين، كأبنية سورية وشوارعها وساحاتها التي هُدمت، وكنظامها وجيشه، كالكتائب التي تتصارع هناك، وكمعارضتها التي يلعب بها المجتمع الدولي، وكالمجتمع الدولي الذي ادّعى أنه مع الديمقراطية والحرية والعدالة، وكعصر بكامله سقط فيه الإنسان.

سامحوني لأنني سأقول لكم إن ما يحدث اليوم في سورية كلّها، هو نتاج فكر السيطرة والقوة، وجنوح الفكر الإنساني نحو المادية. سامحوني لأنني سأقول لكم إن ما يحدث اليوم في سورية هو تَمظهُر لكذب وادّعاء القوى المسيطرة على العالم، سامحوني لأنني سأقول لكم إن ما يحدث هو أكبر مظهر من مظاهر انحطاط الفكر الإنساني، والقيم الإنسانية.

ما يحدث اليوم في سورية هو سقوط لقناع الديمقراطية، وانهيار للمنظمات الدولية التي لا تملك حقَّ العفو، بل تتبع لهيئة الأمم المتصارعة والمتنازعة، وتنتظر الأوامر من القوى المسيطرة، ولمنظماتٍ لا تملك الحق في الدفاع عن الإنسان، وإنما هي كالطبيب الذي يُعالج مظاهر المرض لا أسبابه، فيبقى المرضُ قائماً، وتَحوُّلِها إلى منظماتٍ تُحصي عدد القتلى، وتسجلُ أسماء مُرتكبي المجازر، وتُطالب بمحاكمتهم وتسجل أسماء المعتقلين وتُطالب بالإفراج عنهم، وترسل المساعدات الطبية والإغاثية لشعبٍ عانى الحرب أو المجاعة، بدلَ أن تغوصَ عميقاً بالفكر الذي صنعَ القتلَ والقاتلين، وصنعَ الحربَ والدمار والسيطرة، والكشف عما فعله جنوح الفكر البشري نحو المادية من دمارٍ للإنسان من الداخل، فغابَ الوعيُ وغابَ الفكر، فالنظام السوري هو صنيعة فكر السيطرة والقوة، وهو مجردُ سمسار لتلك القوى، نهبَ وسرقَ وغيَّبَ السوريين، فكيفَ على الذي ثارَ لإسقاطِ هذه المنظومة، ألا يُجبر على السقوطِ في شباكِ نفس المنظومة المسيطرة؟ 

كيف لا وقد تخلّى العالم عن الشعب السوري السلمي، الذي خرج كي يدافع عن مكتسبات الغرب المتمدن في الحرية والعدالة ودولة المؤسسات المدنية والمجتمع المدني، وليكون شريكاً في صناعتها معه، فتُرك عُرضةً للقتلِ والتعذيب والتدمير والتشرد واللجوء، يدفع وحده عن الجميع فاتورة باهظة الثمن، وشارك العالم في قتله، ليُجبرعلى حمل السلاح، فسقط في أحضان نفس المنظومة القاتلة. هكذا تسلبُ إرادةُ الشعوب ويَتمُ قتلها والسخرية منها والضحك عليها وتشويهها، فتضيعُ في العنف والعنف المضاد، وتُنهكُ قواها.

من بينكم أيها المثقفون الفرنسيون، إلى كلّ المثقفين في كلّ أنحاء العالم، أيها الإنسان أينما كنت، لم أكتب ما كتبت إلا لكي أدق ناقوس الخطر، ولكي نبدأ جميعاً ومنذ هذه اللحظة، بإعادة الفكر لقيادة العالم ولتحقيق التوازن ما بين المادي والروحاني، ورفض كل أشكال الغزو، ورفض  الحرب.

على الفكر أن يقود السياسيين لا العكس، علينا وبكلّ وسائل الفكر والوعي أن نقف في وجه هذه المنظومة، ونبدأ ببناء الإنسان من الداخل، وإلا سنبقى عالقين في دوامة العنف، ولكي لا نشبه الآلات التي  نصنعها، علينا تقع مسؤولية الوعي لدفع الإنسانية خطوة في سلم ارتقائها، علينا أن نزرع فكراً معرفياً في قلب هذا الكون، لتحمله الأجيال القادمة وتدفع به أيضاً إلى الأمام، فكلُّ واحدٍ منا فكرة، إذا لم نع معناها ستموت دونَ أن تتحقق، وعندما تصبُّ كلُّ الأفكار في جسدٍ معرفي  واحد ستدفع بالفكر الإنساني إلى أرض النور، وستكونُ أقوى من كلِّ سلاحٍ، عندها لن يكونَ أحدٌ ضدَّ أحد، وسننسى الكلام عن  السلام، لأننا سنحياه حقاً.

"من هذا الجزء من العالم الذي يُدعى سورية، أطلق ثورة الحب والمسامحة والوحدة البشرية لإيقاف شيفرة القتل، كي لا نبقى عالقين تحت دوامة الفعل ورد الفعل إلى أبد الآبدين، أطلق ثورة الحب والمسامحة والوحدة البشرية، في وجه كل الثورات الدموية في العالم، وإلا سنكون جميعاً شركاء فيما يحدث من خراب.

من سورية، وفي قلبي يعيشُ بوذا وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وفي قلبي يعيشُ كلُّ ما كان موجوداً وما هو موجود، من حجرٍ وطيرٍ وشجرٍ، لنطلق ثورة الحب والمسامحة والوحدة البشرية في وجه الكره والحقد والخوف والترهيب والتعذيب والتجهيل والتكفير، وضد كلّ الخراب الذي نحمله لبعضنا البعض. متى سندرك أننا جزء من الكل وأننا الكل في آن معاً؟"

هذه الرسالة التي أطلقتها في البداية من سورية إلى السوريين، وبعد ذلك أطلقتها من حمص عبر شريط فيديو مسجل، طُلب مني كي يُعرضَ أمام دبلوماسيين في مؤتمر أوتاوا بكندا عام 2011،"، واليوم وبعد الضربات العسكرية التي تنفذها الولايات المتحدة مع قوى التحالف على سورية والعراق، أعودُ وأطلقها، لعلَّ أحداً يسمع، لعلَّ أحداً يفهم، أننا في مركبٍ واحد.
المساهمون