رسالة إلى فيروز

23 ابريل 2016
فيروز (تويتر)
+ الخط -
تجاوزت السابعة والعشرين عاماً وما زلت على يقين أنك أمي. أحب ديبة أكثر منك. أعترف. لكن أيضاً لك في قلبي هذا الحب، يوازيه ألقاً وتقديراً. حين عرفت بك، كنت في عمر الـ13. اشتريت خلسة من مال جمعته من بيع الدراق في فصل الصيف، "راديو" صغيرا، كنت أضعه في عروة لحافي، وأنام. أنقله إلى الخزانة وأخفيه بين كيلوتاتي القطنية.
الراديو الذي كان يأتي بموجات إذاعات محلية، يصطحبني صباحاً إلى أغنياتك. غالباً ما كانت تمارس عليّ، مفاهيم جديدة، أعيشها لكن لا أعرفها بالكلمات. وهي مشاعر مختلطة، فيها الشيء الحزين والمرهف، والإحساس بالاختلاف، والعزلة أيضاً. هذا ما كنت أجده في صوتك. هذه العزلة المحزونة والمكلومة. تعرفت إلى ذاتي أكثر مع هذه الأغنيات التي تخرج سراً من الراديو، لأن والدي يمنع الأغاني في البيت، وكنت أقنعه أني أستمع إلى إذاعتي "التوحيد" و"الفجر" الدينيتين، وأحب المنشدين أبو راتب وأحمد رامي.

زاد ولعي بك، حين كبرت. أنزل مشياً إلى مدرستي من محلة القبة إلى الميناء (طرابلس). أستيقظ في الخامسة والنصف، وأنزل عند السادسة كي أصل باكراً. وعلى طريقي مروراً بضهر المغر وباب الحديد وسوق النحاسين ووصولاً إلى التل وشارع المينا كنتِ رفيقتي الوحيدة. وكنت لا أخاف من ثيابي ولا من رداءتها ولا من عيون الناس وهي تنظر إليّ وتهبني لمشاعر النبذ. أمشي بثقة ولا أحس ببعد المسافة. اشتريت يومها "ويكمن" (كما نقولها بالطرابلسي)، ويلتقط أيضاً موجات الراديو. اشتريته من ساحة التل بـ15 ألف لبنانية، وهو ما أحسبه يومها مالا كثيراً، فقط لأني أرغب بالاستماع اليك. وطبعاً لم يكتشفني يومها أحد في البيت، سوى أمي ديبة، التي أيضاً تحبك وتجاهر بالأمر، عكسي. أنا الذي كنت أضْرَب وأهان كلما قلت أني أحب الأفلام المصرية أو مشاهدة أفلام الكرتون، أو حين أسخر من لهجة "الشيخ كشك"، ومن خطبه القاسية.

يومها كنت وحدك، مع كتب المغامرين الخمسة، ورواية "همس الجنون" لنجيب محفوظ، ما أعرفه عن الدنيا الأخرى. خارج بيتنا وحينا وديننا، وأبي ومرجعياته، ومسجد الرحمة، ورفاق الصف. 
كان رفاقي في الثانوية يعرفونك، لكنهم لا يحبونك. ويسخرون مني حين أخبرهم عنك. صرت أسكت. وأعتبر هذا الحب سراً. وهذا ما حصل تماماً حين أحببت أم كلثوم، ونجاح سلام، ونهوند وكارم محمود، الذين كانت أمي تغني بعض أغانيهم في المطبخ حين نكون معاً. حيث كان رفاقي يقولون لي إني مثل "الختايرة". لكن يومها لم أكن احبك فقط، لأني "أحب أن أكون ختياراً"، او كما شعرت يومها، لكن هذا الحب جاء من كلمات أغنياتك. حين كنت بدأت أرسم شكل الذين سأحبهم. وأغني لهم. ومن سأقطف لهم زهرة، أو أسهر لهم الليل.
متورط بك يا فيروز، إلى حدّ أنك من أجمل ما حصل في هذه السنوات. وما زال.




المساهمون