ردونسون ... العالم الإسلامي وماركس والثورة

04 مايو 2014

المستشرق الفرنسي مكسيم رودونسون (1915 - 2004)

+ الخط -
يعد إعادة إصدار أحد الأعمال الرئيسية لماكسيم رودنسون، "الإسلام والرأسمالية"، حدثاً فكرياً مهماً للذين يهتمون بشؤون العالمين، العربي والإسلامي. وتالياً المقدمة التي أنجزتها للكتاب (تنشر صحيفة العالم الدبلوماسي مقتطفات منه في شهر مايو/ أيار الجاري):

على الرغم من استخدام تعابير مختلفة، ووجود مناخ فكري مختلف، يفرض أسئلةً مختلفة، لكن، تظل المشكلات والرؤى التي أثارها ماكسيم رودنسون، في هذا الكتاب (نشر في 1966)، والذي ناقش العلاقة بين الإسلام والتنمية الاقتصادية والرأسمالية في العالم الإسلامي، تظل ذات طبيعة مذهلة، لتطابقها مع الواقع، لتبقى الأسئلة الملحة، مثل: لماذا المجتمعات الإسلامية (وبشكل أعم ما يسمى العالم الثالث) أو المتأخر أو المتخلف؟ هل هناك قواعد محددة لهذه الحضارات، تختلف اختلافاً جذرياً عن التي تحكم الغرب؟ هل يمكن للمستشرق العميق أن يسلط الضوء لفك رموز سور القرآن وتفسيرها؟ هذه الأسئلة تحتاج إجابات شافية، خصوصاً بعد الربيع العربي.

في سياق قديم، عرّف بعضهم الإسلام بأنه الاتحاد بين الروح والزمان، من دون تميز في عقيدة ثابتة لا تتزعزع، ما يجعله أحد أقل القيود على الحرية الإنسانية. ففي جامعة السوربون، ألقى، مؤلف كتاب حياة يسوع الصادر في 1862، محاضرة شهيرة بعنوان "الإسلام والعلم" في 29 مارس/آذار 1883، ودان، من دون أدلة، الإسلام، واتهمه، حين ذاك، بتدنيس المقدسات والهرطقة، وشجبه البابا، بينما اعترف بروعة القرون الأولى من الحضارة الإسلامية، إلا أنه أوضح أن الحركة الإسلامية المتشددة (وهو مصطلح كان مرادفاً للإسلام حين ذاك) كانت ضعيفة جداً في مهدها، ما جعلها لا تشكل أي عقبة أمام العلم، أما في النصف الثاني من وجودها، فقد خنقت الحركة العلمية، وهذا لسوء الحظ.

بعد هذا التاريخ بحوالي ثمانين عاماً، أجرى ماكسيم رودنسون مراجعة هذه الادعاءات، وجعل الإسلام عاملاً أساسيا لفك شفرات العالم الإسلامي، حيث قام بتفنيد افتراضات عالم الاجتماع، ماكس فيبر، (1864-1920)، والذي أرجع زمام المبادرة في العالم الغربي إلى العقلية الجماعية الأوروبية التي أظهرت قدراً أكبر من العقلانية، ما جعلها أقل عرضة لفكرة القضاء والقدر، أو حتى السحر. واعتماداً على منحة دراسية، وإتقانه الجيد اللغة العربية، قام ماكسيم رودنسون بشرح سور القرآن، للرد على هذا، فعلى عكس رينان وفيبر، يظهر رودينسون كيف أن هذا النص المقدس يتميز بأنه يعطي مكاناً للمنطق، أكبر بكثير من اليهودية والمسيحية. فتتكرر لفظة "اعقلها" حوالي خمسين مرة في القرآن الكريم، والتي تعني ترابط الأفكار أو التفكير أو فهم المنطق الفكري، وأيضا تتكرر "أفلا تعقلون" ثلاث عشرة مرة دليلاً على التعجب، والتي تعني ماذا بعد، أو تعقل، أو لوصم الكافرين الذين لا يعقلون، وغير القادرين على محاولة التفكير في كسر النظام.

السؤال، الآن، هل يدعو القرآن إلى الامتثال إلى القدر، وهل هو أمر مختلف تماماً عن السلبية؟ بطبيعة الحال، يتوقف مصير البشر على أمر الله، خالق كل الأشياء، والعالم بكل شيء، لكن فكرة الأقدار في الإسلام (كما الحال في الديانات الأخرى) لا تتعارض مع الدعوة إلى العمل، وكذا كلمة الجهاد تشمل، أيضاً، أي جهد فردي للتطوير الذاتي، وتحسين المجتمع. لذا، على المؤمن أن يعمل بكل اجتهاد، وإن كان الخداع سمة هذا العالم، طبقاً للقرآن الكريم، والعهد القديم، والجديد، فيتساءل رودنسون: ألم يوصي الإسلام بالشجاعة والثبات أمام العدو والمثابرة في المعركة؟ (…) فهناك تأكيد على العون الإلهي الذي هو أمر ضروري للانتصار، ولكنه، لا يعني عدم معاناة البشرية من قلة الموارد البشرية.

يتضح أن فكرة القضاء والقدر، والتي ترتبط بالكسل، لا تخص المسلمين وحدهم، بل يمكن انسحابها على كل الشعوب التي تم استعمرت سابقاً، فهل يتذكر أحد أن الاستعمار هو من أطلق وصف "الشعوب الصفراء" على الصينيين والهنود، ونعتهم بالكسالى الذين يحتاجون هيمنة الرجل الأبيض، لينجزوا أي عمل لابد وأن يكون في خدمة الرجل الأبيض بالطبع. ويسأل رودنسون: هل يمكن أن يكون القرآن الكريم السبب وراء معاداة البلدان المسلمة الرأسمالية، وإن سبب تأخر تلك البلاد يمكن إرجاعه إلى التمسك بالتقاليد البالية، بما في ذلك القوانين والقواعد التي تم استحدثت في القرون التي تلت وفاة النبي عام 632 ميلادية؟ يجيب المؤلف، مرة أخرى، بأنه لا يوجد دليل على ذلك، لأنه، حتى أثناء ما يعرف بالفترة الكلاسيكية للإسلام (القرون 9-10)، هذه القواعد والتقاليد كانت عرضة لعدد لا يحصى من التفاسير، فالتقاليد تشكل كتلة واسعة من الاتجاهات المعاكسة، والتي يمكن بسهولة العثور على أصولها، وتبرير وجودها (…)، فإذا تمت الاستعانة بنص بعينه، فهذا يعكس نية الشخص الذي أختاره، ومدى تفضيله له أساساً، فالأيديولوجية الخاصة بفترة ما بعد نزول القران ليست القوة الخارجية الوحيدة التي تتحكم وتؤثر في المجتمع، لكنها تعبر عن الاتجاهات الموجودة في الحياة الاجتماعية ككل.

التاريخ يبرز مستويات المرونة المتعددة الموجودة في الإسلام (المرونة موجودة في جميع الأديان، ولولاها لما عاش أي منا)، ولا تقتصر فقط على المجال الاقتصادي، بل إنها امتدت لتعطي حق التصويت في الانتخابات للمرأة. البداية كانت في عام 1952، عندما كانت الملكية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حيث شهدت مصر مطالبات المنظمات النسائية بحق النساء في التصويت، وأوضح مفتي الأزهر حينها، والذي يعد أعلى منصب ديني عند المسلمين السنة، حيث استند إلى آيات من القرآن الكريم وإلى أحاديث نبوية بطريقة ملتوية،  ليزعم أن هذا الأمر من البدع المذمومة التي لا أحد يمكن أن يقبلها، والإسلام لا يمكن أن يوافق عليها. ولكن بعد بضع وستين عاماً لاحقة، كانت المرأة قد حصلت على حق التصويت في جميع البلدان المسلمة، (باستثناء المملكة العربية السعودية حيث يتم حرمان الجميع من هذا الحق). لكن، ماذا يعني هذا الأمر؟ هل يوافق القرآن الكريم على تصويت النساء في الانتخابات؟ أم أنه أمر مكروه؟

يرى المحلل السياسي، روي أوليفر، أن السؤال السابق له، فيعلق أن القرآن يقول ما يقوله، والمسلمين يفسرونه، فيما هذه ممارسات الأفراد وطريقتهم المتفردة في الاعتقاد، والتي تؤدي إلى تطور فهم الدين، من أجل التكيف مع العالم الحقيقي، فمثلاً إذا سألت في عام 1905 الجمهوريين والكهنة الذين مزقوا فرنسا، بسبب صراعتهم، ما إذا كانت الكاثوليكية والعلمانية يمكن أن تتوافقا، لردت الأغلبية الساحقة من كلا الجانبين بالنفي القاطع. ولكن، بعد خمسين عاماً، تقبلت الكنيسة الحركة العلمانية، وهما، الآن، تعيشان في وئام (نسبي) مع الجمهورية. وخلاصة القول إنه لا يمكننا استخدام السلوك المعتاد للمسلمين للاستدلال على تعاليم القرآن، أو حتى على السنة، ما ينطبق تماماً على سلوك المسيحيين، حتى في ذروة عصور الإيمان واتباع تعاليم الإنجيل، فكل الحالات تتشابه مع بعضها، من حيث اللجوء للتفسيرات السهلة والضمائر النائمة واللاهوتيين السهل إرضاؤهم.

إنها واحدة من الأطروحات الأساسية التي يدافع عنها ماكسيم رودنسون، والذي يدعي تبنيه الفكر الماركسي، فيدلل على ما ذكر بقول كارل ماركس الشهير "ليس عدم وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم،  بل على العكس من ذلك، الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي بهم (مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، باريس، عام 1947).

بعبارة أخرى، إن الظروف المادية التي يعيش، وينتج فيها، البشر هي التي تحدد طريقة تفكيرهم وتصرفهم. ويلاحظ المؤلف أن الذين يناضلون من أجل معرفة ما إذا كان  يحبذ، أو لا يحبذ، الرأسمالية، إلا أنهم جميعاً يشتركون في الافتراض الضمني، نفسه، أن الناس الذين ينتمون إلى حقبة أو منطقة أو جماعة معينة، يطيعون تعاليم مذهبهم بشكل صارم، سواءً بشكل حرفي، أو عن اقتناع، حتى تتغلغل التعاليم في أرواحهم، من دون حدوث تحول حقيقي، إلا إذا مكنتهم هذه التعاليم من التكيف مع ظروف معيشتهم، وتوافقت ضمنياً طرق تفكيرهم المتولدة هنا، لكن ماركس (خلافاً للقراءت المتزمتة لأعماله)، وكذا المؤلف،  لا يفترضان أن للأفكار أو الأديان أو المعتقدات تأثيراً على مجرى التاريخ.

الاشتراكية

يحلل رودنسون، بدقة، ليس فقط العلاقة بين الإسلام والرأسمالية، ولكن، أيضاً، بين الاشتراكية والإسلام، وهل يحبذ الإسلام تقاسم الثروة؟ قد يبدو السؤال منافياً للعقل، الآن،  ففي وقت نشر هذا الكتاب، لم تكن تلوح في الأفق ملامح لثورة قريبة في أكثر الأحوال تفاؤلاً، وأيضاً الحركة الإسلامية كانت تبدو بعيدة تماماً عن أي طموح اجتماعي راديكالي،  فنحن في عشية حرب يونيو 1967، حيث القومية العربية الثورية في ذروتها مجسدة في الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، حيث يهيمن على الساحة الأيديولوجية الفكر الناصري والبعثي والاشتراكي العربي والشيوعي، أو ما يمكن تسميته اليسار الراديكالي بمختلف طوائفه. وانعكس ذلك في حماسة حوارات ومناقشات الضباط والمثقفين والصحفيين والمسؤولين والطبقات الوسط في المدن، ولو أدى تفسير أي مذهب لقتل بعضهم.

وبالإضافة إلى إدانة الاستبداد، تمت إدانة "الديمقراطية البرجوازية"، من دون أي سند حقيقي، بحيث تحتوي جميع هذه الخطط على تصميم قوي، لتوطيد الاستقلال الوطني، والإنهاء التام لعصر الهيمنة الأجنبية، والعمل على تأهيل المجتمع، من أجل عمل إصلاح زراعي، وإحداث تنمية اقتصادية، لا سيما في الصناعات الثقيلة، استناداً إلى الدور المركزي للدولة، وكذا التخطيط لسياسة استباقية، لإعادة توزيع الأدوار الاجتماعية، وتوفير التعليم والصحة للجميع، فكانت كل دول العالم الثالث ترى أن الشيوعية هي الحل، من أجل إحداث تغييرات جذرية، ممتدة من أميركا اللاتينية، حيث فيدل كاسترو، ومروراً بالمناطق المحررة في الهند الصينية، ووصولاً بالعصابات المسلحة في جنوب إفريقيا، حيث تغنت القوى الثورية بالاشتراكية، أو على الأقل بالشيوعية.

في العالم العربي، لابد من الإبقاء على إطارٍ ديني قوي، لتبرير الأعمال الثورية، بحث السكان على اقتصار نشاطهم على النشاط الزراعي، وللاستيلاء على الموارد، ويعلق رودنسون قائلاً إن تلاعباً يجري بمفهوم الدين عند العامة، من أجل إجراء تأميم ولاء الجماهير، وهو استخدام ديماغوجي (بالمعنى الضيق) للإسلام وهيبته، واقتصاره على يحول دون الخيارات الاجتماعية التي يمكن الاستعانة بها من مصادر فكرية أخرى.

ستجبر هذه الهيمنة الأيديولوجية للاشتراكية، أو تفسيراتها، حتى المنظمات التي تقع خارج أي منظور ثوري، على الاستفادة من "الاشتراكية الإسلامية"، فواحد من أكثر الكتب مبيعاً في ذلك الوقت، كتبه زعيم الإخوان المسلمين في سورية، مصطفي السباعي، بعنوان "اشتراكية الإسلام"، حيث يكتب مؤلفه أن الله أمرنا بالتعاون والتضامن في جميع أشكاله وصوره (...)، وقد أنشأ النبي محمد مؤسسة تضامن اجتماعي بالمعني الكامل لها، ويخلص السباعي إلى أن مبدأ التضامن الاجتماعي في الاشتراكية الإسلامية من الخصائص التي تميز هذه الاشتراكية الإنسانية والأخلاقية عن اشتراكيات عديدة معروفة اليوم، بحيث إذا تم تطبيقها في مجتمعنا يكون لدينا مجتمع مثالي، لا يضاهيه أي مجتمع آخر في نقائه، لكن السباعي لم يقل لنا عن أخلاق مثل هذا المجتمع المثالي، ولماذا لم  يتم تنفيذ هذه المبادئ.

لا يفاجئ مثل هذا الكلام رودنسون، فيعلق عليه قائلاً إن بعض التيارات الإسلامية فرضت قيوداً صارمة على الحق في الملكية، بفرض شكل قيود صارمة على الموارد، ويمكن العثور على أسسها في أي نص ديني، حيث أن الأغراض الدنيوية تلهي عن السبيل إلى  الله.

هنا، يظهر السؤال عمّا إذا كان يمكن لأنصار الاشتراكية استخدام الدين بالطريقة نفسها كرد فعل قوي؟ وهو ما ينفيه رودنسون قائلاً إن المفسرين الحرفيين للتراث يرتكزون على التفسير التقليدي القديم، ويستخدمون التاريخ لإضفاء هيبة وجلالة على هذه التفسيرات. وقد استخدم هذا الارتباط الديني لأسباب سياسية، وليست دينية، وهو ما يؤكده المؤلف من انتشار الطابع الرجعي بين أغلب رجال الدين، وهو ما سيتم التأكيد عليه لاحقاً، مع ازدياد أهمية المملكة العربية السعودية ونشر المذهب الوهابي الإسلامي، فعن طريق التفسير الديني المتشدد وباستخدام أموال النفط الطائلة، أمكن إرسال عشرات ألوف الدعاة حول العالم. وبهذا، استطاعت المملكة فرض رؤيتها دولياً بشكل شرعي، حيث استطاعت الجمع بين أمرين، الدفاع عن المبادئ الرجعية المتشددة، خصوصاً بالنسبة للمرأة والانضمام إلى الاقتصاد الليبرالي الجديد والتعامل مع العالم الغربي. وتنبغي الإشارة إلى التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية والجماعات الإسلامية في مناسبتين على الأقل، هما مكافحة الناصرية في الستينيات وإرسال المساعدات للمجاهدين الأفغان في الثمانينات. ويصل المؤلف إلى نتيجة أن التجربة التاريخية وتحليله الشخصي لا تدعم، في الوقت الحاضر، القول إن الدين الإسلامي قد يصبح عاملاً محتملاً لتعبئة الجماهير، من أجل التقدم الاقتصادي، وخصوصاً عندما اتضح، بالضرورة الثورية، أن التقدم الاقتصادي يدمر الهياكل الموجودة بالفعل.

فهم الاسلاميين
في السنة التالية لنشر الكتاب، حدثت الهزيمة العسكرية للعرب في يونيو/حزيران 1967 أمام إسرائيل، وهي الهزيمة التي ستضع حدوداً للقومية العربية الثورية، وهي الأزمة التي سوف تستمر في العقود التالية، وساعدها في الاستمرار فشل المحاولات الرامية إلى إحداث نهضة في ما بعد الاستقلال، بسبب عجز الأنظمة المتتالية عن إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية، فانجرفت لتصبح أنظمةً استبداديةً، مثل الموجودة في العراق أو سورية. هذه الأزمة ستعزز مفهوم العودة إلى الإسلام، ليس فقط بين أفراد الطبقات الشعبية التي ظلت محافظة على الشعائر. ولكن، أصبحت أكثر حرصاً على إظهار التزامها بالتعاليم الدينية. وانضم إليهم، أيضاً، أفراد الطبقات المتوسطة والعليا والنخب الذين أصبحوا يضفون مسحة إسلامية على خطابهم السياسي، وطبقاً لتعبير الباحث فرانسوا برجات، فإن لغة الخطاب الإسلامي تسيطر على جزء كبير من النقاش السياسي، وعلى الرغم من كل ما قيل بشأن ميدان التحرير في القاهرة، وعن عدم مشاركة الإسلاميين في ثورة 2011، ظلت الغالبية العظمى من المتظاهرين تؤدي صلاة يوم جمعة جماعة في الميدان. 


لم يختف الدين، ولم تتم إزالته، خلافاً لما يمكن أن توحي به الرؤية الأوروبية في هذا الصدد، كما الحال في أوروبا، في أثناء القرن التاسع عشر، حيث قد تؤدي الحاجة إلى إحداث تحولات ثوريةٍ وجذريةٍ في دور رجال الدين. فالتفسير العقائدي لدى الماركسية يعتمد على عدة مراحل متعاقبة، الرق والاقطاع والرأسمالية والاشتراكية، والتي يمكن اتخاذها نموذجاً يمكن أن تتبعه دول العالم العربي، لتلحق بركاب التنمية الأوروبي، حيث البلدان المتقدمة تخطو بخطي وثيقة إلى المستقبل.

أكدت الثورات العربية أن التمسك بالدين بقوة، لم يكن عقبة أمام التعبئة السياسية، من أجل التطلع إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي كان المتظاهرون يهتفون بها في أنحاء العالم العربي. فحسب فرانسوا برجات، فإن المصفوفة الأساسية للإسلام تتطابق مع فكرة الإصلاح، وهي تختلف في الصياغة بخصوص معاداة الإمبريالية، ودعم القومية القديمة،  ما يجعل برجات يصر، وقبل كل شيء، على أن إعادة إنتاج الثقافة الإسلامية أدى إلى ظهور عدد لا حصر له من المشاريع السياسية المختلفة.

فازت القوى الإسلامية في الانتخابات التي تلت هذه الفترة، وفي ظروف مختلفة في كل مرة، في تونس ومصر والمغرب، لتواجه الواقع الملئ بمشكلات إدارة الاقتصاد والدولة،  لترفع جماعة الإخوان المسلمين شعار الإسلام هو الحل بسهولة، حيث أنها لم تكن في السلطة، لتختبر ما إذا كان الشعار يستطيع الصمود أمام الواقع ومشكلاته، لكن الجماعة استطاعت التكيف بشكل مختلف في كل بلد، واستطاعت إحراز بعض النجاح في تونس، ولكنها لم تستطع النجاح في مصر، لأنها لم تستطيع الصمود أمام (استطاعت جزئياً في تركيا) التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.


إذا كان الدين ما زال يلعب دوراً محورياً في هذه المجتمعات (كما الحال في الولايات المتحدة)، فيجب أن لا نقلل من التحولات التي رصدها أوليفييه روي، قائلاً إننا نسير نحو علمنة السياسة وإن السيطرة باستخدام الدين ستكون حكراً على الحكام المستبدين، لكن هذا لا يعني أن هذه المجتمعات ستهجر الدين. ونتيجة لذلك، لن يكون التطور، حسب النموذج الفلسفي الغربي. ونتيجة لكل ما تقدم، يمكننا، ولأول مرة، أن نقول إن هناك إجماع على أن الدين له أهميته، ولكن هناك منافسة بين الهويات الثقافية، في محاولة لتفسير لماذا الأحزاب السلفية الرئيسية (يوجد أكثر من اثني عشر حزب سلفي في مصر) تدعم الحكم العسكري ضد جماعة الإخوان المسلمين؟

وهذا يوضح لنا مدى أهمية وصحة كلام رودنسون بشأن طبيعة المشكلات التي تنشأ في المجتمعات العربية، فهل تستطيع العدالة الاجتماعية والديمقراطية أن تستمرا في أن تكونا محركات التغيير "تعد هذه هي الطريقة الآمنة الوحيدة، من أجل أن يحصل المهمشون على  أقل حقوقهم، وهو الكرامة البشرية، وذلك بإعطائهم بعض التداول على السلطة السياسية،  مصحوبة بجهد حقيقي لإلغاء الامتيازات وضمان استمرار هذه السياسات، بربطها بالمؤسسات المؤهلة". ويمكننا تصنيف (التزيين/الديكور) هذه المؤسسات تحت العناوين التي نرغب فيها، مثل الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو البوذية، أو آلاف الأسماء الأخرى، ما يدعم تساوي الإحساس بين هذه المفاهيم. ولكن، يظل أمر وجود هذه المفاهيم بشكل مجرد من دون وجود مؤسسات حقيقية تدعمها تعد مثل الطبل الأجوف وتستخدم للتمويه على وجود فوارق أساسية".

السؤال، هنا، هل من الممكن أن نكون قد قللنا من أهمية التصنيف (التزيين/الديكور) الذي هو أسس هوية الشعوب، لا سيما في المستعمرات السابقة؟ وقد هيمنت على هذه الشعوب ثقافة المستعمر. لذا، لابد أن نتفهم أن هذه الشعوب تسعى، من خلال تقاليدها الخاصة، إلى التصدي للتحديات الراهنة، خاصة وأن مصادر التغيير الأخرى، لا سيما الغربي منها، مثل القومية أو الاشتراكية أو الليبرالية، تم ابتذالها تماماً.

اليوم التيار الرئيسي، بما في ذلك الإخوان المسلمين، يقف إلى جانب التيار المحافظ والاشتراكية الاجتماعية والليبرالية الجديدة، ولا يمكن لنا أن نتصور وضعاً مختلفاً عن هذا، خصوصاً عند مزاولة السلطة فعلياً، فالممارسة سوف تثبت عدم جدوى الإجابات التي لا تعالج العيوب التي يعاني منها المجتمع. والدين ليس دائماً مرادفاً لرد الفعل، ففي تجارب في اليسار الثوري في أميركا اللاتينية، وعلى عكس ما حدث في كوبا، يظل البعد المسيحي حاضراً وبشدة، حيث يشكل عقبة أمام هذه الحكومات التي تدعو اليسار إلى أن يقبل على سبيل المثال الحق في الإجهاض.


والسؤال الذي يجب طرحه، هنا، هل سيكون قريباُ هناك تشريع اسلامي ليبرالي، مؤثر بما فيه الكفاية، مثل الذي طرحه الفيلسوف الايراني، علي شريعتي، والذي توفي قبل وقت قصير من قيام الثورة الإسلامية عام 1979، أو مثل التشريع الإسلامي المعادي للرأسمالية، والذي ظهر في تركيا، وانتشرت مطبوعاته في اعتصام حديقة جيزي في اسطنبول صيف عام 2013؟ وهو ما علق عليه طارق رمضان في مقاله "تجاوز الحركة الإسلامية" "اتضح أن الإسلاميين لا يقدمون بدائل اقتصادية، قابلة للاستمرار، أو ذات مصداقية (...)، فقد خضعوا لضرورات الاقتصاد الرأسمالي المهيمن، لذا، لابد من إطلاق سراح الوعي الإسلامي المعاصر الذي يجب أن (...) يستأنف الاتصال بالقوى الإصلاحية، لإرسال رسالة ثورية وروحية للبشرية، يدعو فيها إلى المصالحة مع النفس، وللانفتاح على الآخرين. اكتملت دورة البشرية، ولدينا حاجة للتجديد (…). إنها مسألة تتعلق بالحرية والكرامة والتحرر، وتكمن المفارقة في أن المسلمين يفتقرون إلى الثقة، في حد ذاتها، وإنهم حراس على أنفسهم، ولكن بلا وعي، وأيديهم مرتعشة، وإنهم من يسجنون أنفسهم في هذا الإطار الضيق".

يختتم رودينسون حديثه، قائلاً إن شيئاً واحداً مؤكدأً، وهو أنه "في وجود، أو عدم وجود، الإسلام، مع أو بدون التطور التدريجي لفهم الإسلام، يظل أمام العالم الإسلامي طريق طويل من النضال، فعلى أرض الواقع تحدث صراعات لأغراض سلطوية، ولكن، تحت شعارات فكرية، ويمكننا حالياً ببساطة أن نجزم أنه، في العقود المقبلة، سوف تصب مثل هذه الأفكار في صالح الثقافة السياسية الإسلامية.