لكلّ منا قصته أو تاريخه الشخصي مع الكتاب، مثل ما روى لنا الكاتب والروائي عبد العزيز آل محمود قصته في العدد الأخير من ملحق الكتب. أما قصتي أنا فهي مع مؤلف "تاريخ الكتاب" البروفسور ألكسندر ستيبتشفيتش الذي ترك فيّ وفي أسرتي أثراً لا ينسى، والذي رحل عنا في مطلع شهر أيلول/ سبتمبر في ظروف صعبة.
كأي واحد يقرأ ويؤلّف الكتب، كان لدي اهتمام بتاريخ الكتاب الذي أعتبره تاريخ الإنسانية، وخاصة في مجال تخصّصي (التاريخ) الذي يفرض نفسه كثيراً على عملي وقراءاتي. ومع دراستي في دمشق كانت لديّ علاقة خاصة مع سوق الكتب في المسكية إلى أن اندثرت، ثم مع مكتبات المدينة حتى انكمشت، وبعدها مع المكتبات العامة (المكتبة الظاهرية، ومكتبة جامعة دمشق، ومكتبة المعهد الفرنسي)، وبالتالي كانت لدي صورة جيدة عن مكانة الكتاب في الشرق في الزمن الجميل والسيئ كذلك.
وخلال دراساتي العليا وعملي في جامعة بريشتينا في يوغسلافيا السابقة، تكونت لدي صورة أفضل عن مكانة الكتاب في الشرق مع البرفسور ستيبتشفيتش وكتابه الذي أحدث فارقاً حين صدر في زغرب عام 1985. وكان ستيبتشفيتش قد ولد عام 1930 في بلدة زادار بكرواتيا المطلة على البحر الادرياتيكي في مستوطنة ألبانية تشكلت هناك خلال القرن الثامن عشر من هجرة مجموعة من كاثوليك ألبانيا، ثم درس الآثار في جامعة زغرب، وتخصّص في آثار الاليريين الذين كانوا يمتدون في غرب البلقان، وقاده تخصّصه هذا إلى تعلم اللغات القديمة وإلى التعرف على مكانة الكتابة والكتاب في الحضارات القديمة. ومع هذا التخصّص بدأ العمل بتدريس مادة "تاريخ الكتاب والمكتبات" بالدراسات العليا في جامعة زغرب، والتي بقي وفياً لها حتى تقاعده عام 1997.
خلال عمله في تدريس هذه المادة اشتغل البرفسور ستيبتشفيتش بكل ما يملك من معرفة من لغات قديمة وحديثة تصل إلى عشر تقريباً، في تقديم مقاربة جديدة وإنجاز كتابه "تاريخ الكتاب" الذي جاء عام 1985 من حيث المضمون والشكل (الإخراج والألوان والورق) ليعبّر عن التطور الذي قطعه الكتاب في تاريخه الطويل.
مع أنه لم يكن هو الكتاب الأول الذي يحمل هذا العنوان "تاريخ الكتاب"، ولكنه كان بالتأكيد الكتاب الأول الذي حمل جديداً في هذا الموضوع، وخاصة للأوروبيين. فقد صدرت قبله كتب عدة بهذا العنوان، ركّزت على قارة أو على دولة بعينها، كـ"تاريخ الكتاب" للإيطالي أ. ادفرسيا الذي ركّز فيه على إيطاليا، أو "تاريخ الكتاب" للدانماركي سفند دال الذي ركز فيه على القارة الأوروبية. وكان هذا الكتاب قد صدر عام 1927 وترجم إلى لغات كثيرة منها العربية، ولكن صدور الترجمة اليوغسلافية في 1979 هي التي دفعت البرفسور ستيبتشفيتش إلى الإسراع في إنجاز مؤلفه المختلف "تاريخ الكتاب" في 1985، وبالتالي يمكن القول إنه أصبحت لدينا لأول مرة رؤيتان مختلفتان عن "تاريخ الكتاب"، إذ نجد في الكتابين السابقين صفحة أو أكثر بقليل عن العرب. أما عن الشرق الأقصى الغني بإسهامه في تاريخ الكتاب فالصورة باهتة. ومن هنا يمكن القول إن ما جاء في كتاب سفند دال استفزّ البرفسور ستيبتشفيتش وجعله يقدّم مقاربة مختلفة لـ"تاريخ الكتاب" عبّر عنها في مقابلة مع مجلة "ناشا غنيغا" عام 1985 بمناسبة صدور كتابه، "لقد حاولت أن أصحّح هذا الخلل وأن أعطي كل شعب المكانة التي يستحقها".
كانت قراءة الكتاب فتحاً جديداً لي، إذ إنني كنت كغيري ممن تعلموا في دمشق نعتقد أن الأوروبيين اخترعوا المطبعة مع غوتنبرغ، وبالتالي حدثت ثورة معرفية جديدة في طباعة الكتب، إلا أن كتاب ستيبتشفيتش يشرح أن الطباعة بدأت في الشرق الأقصى قبل ذلك بقرون عدة، بالحروف والقوالب الخشبية، وأن ما عمله غوتنبرغ هو استبدال الحروف الخشبية بحروف معدنية. والأهم من هذا أن هذه التقنية الجديدة انتقلت نحو الغرب فأخذ بها العرب، فقد كشف البرفسور ستيبتشفيتش عن وجود خمسين كتاباً في المكتبة الوطنية في فيينا مطبوعة في مصر بالقوالب الخشبية حتى القرن الثالث عشر الميلادي. ومن الواضح هنا أن هذا الاختراع الشرقي استمر في انتشاره حتى وصل إلى أوروبا الوسطى من خلال البلقان.
ومن ناحية أخرى من يتخيّل الكتب والطباعة من دون ورق؟ وهنا أيضاً يكشف ستيبتشفيتش عن دور العرب في تطوير صناعة الورق حتى أصبح "الورق الدمشقي أو Charta Damascena" من أشهر أنواع الورق في أوروبا خلال القرون الوسطى. وبالإضافة إلى دمشق اشتهرت مدينة شاطبة الأندلسية أيضاً بصناعة الورق وتصديره إلى العمق الأوروبي.
كل ما في هذا الكتاب يستفز الترجمة إلى العربية، وهكذا كان الأمر عام 1992 حين قررت سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية ترجمة الكتاب، والتي ساهمت بالفعل في رواجه، مع أنها لم تمنح المؤلف شيئاً وفقاً لشروط التعاقد التي تنص على أن يتعهد المؤلف بعدم المطالبة بحقوقه في حال الترجمة. وعلى الرغم من أنه كان صعباً على البرفسور ستيبتشفيتش أن يتفهم ذلك، إلا أنه كان سعيداً بصدور الترجمة العربية التي أدت بدورها إلى ترجمة فارسية صدرت في طهران، ثم تُرجم الكتاب إلى الألمانية في 1989 وبعدها إلى الإيطالية والإنكليزية وغيرها.
كانت ترجمة هذا الكتاب فرصة للتواصل مع المؤلف وتطور علاقة خاصة في السنوات اللاحقة. فقد كتب إلي (أيام المراسلة بالآلة الكاتبة والبريد العادي) أكثر من مرة يشكو الحال ويتمنى أن يزور الشرق الذي طالما أحبّه عن بعد. وقد تحققت هذه الأمنية عندما رتبّتُ له دعوة لزيارة الأردن، بعدما انتقلت للعمل في إحدى جامعاته، ليلقي في 1996 محاضرة مؤثرة عن "تدمير التراث الشرقي في مكتبات البوسنة". كنا في ذلك الحين مصعوقين بالقصف الصربي لمعهد الدراسات الشرقية في سراييفو الذي حوّله إلى هشيم مع خمسة آلاف مخطوطة باللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) في 1995.
كانت زيارته فرصة لبرنامج كثيف يزور فيه المواقع الأثرية في المنطقة إذ اعتاد أن يخرج في الصباح ويعود في المساء وكان نشيطاً جداً وما فتئ يقول "أنا لم آتِ لأرتاح وأنام هنا، عندما أعود إلى زغرب سأنام وأعوّض ما فاتني". وعندما عرضتُ عليه أيضاً الذهاب إلى سورية وزيارة تدمر كان سعيداً، وأخبرني لدى عودته "الآن يمكن أن أموت بطمأنينة بعد أن شاهدت الشرق".
وكان من حظ الكتاب أنه خرج بطبعة ثانية عام 2013 عن وزارة الثقافة الأردنية في "مكتبة الأسرة" التي تطبع الكتاب بطبعة كبير وبسعر رمزي. وعندما أخبرته بذلك سُر كثيراً في وقت أخذ الشلل يسري في جسمه، ولذلك حرصت على أن أرسل نسخة مع صديق يسلّمها باليد، وهو ما فعله وأرسل لي صورة مؤثرة عن وضعه الصحي واحتفائه بالكتاب في اللغة العربية.
فقدنا نحن الكتاب العرب والشرقيين في شهر أيلول/سبتمبر عالماً جليلاً خصّص للعرب فصلاً كاملاً في تاريخ الإنسانية، وأعاد الاعتبار للشرق الأقصى (الصين وكوريا) في التطور التاريخي والحضاري في تأليف الكتاب وطباعته وترويجه. فمن يصدق أنه في الصين لدينا كتاب من القرن التاسع الميلادي عن آداب شرب الشاي، على حين أن الشاي لم يصلنا إلا في وقت متأخر لنحتفي بعد ذلك بشاي الساعة الخامسة؟
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
كأي واحد يقرأ ويؤلّف الكتب، كان لدي اهتمام بتاريخ الكتاب الذي أعتبره تاريخ الإنسانية، وخاصة في مجال تخصّصي (التاريخ) الذي يفرض نفسه كثيراً على عملي وقراءاتي. ومع دراستي في دمشق كانت لديّ علاقة خاصة مع سوق الكتب في المسكية إلى أن اندثرت، ثم مع مكتبات المدينة حتى انكمشت، وبعدها مع المكتبات العامة (المكتبة الظاهرية، ومكتبة جامعة دمشق، ومكتبة المعهد الفرنسي)، وبالتالي كانت لدي صورة جيدة عن مكانة الكتاب في الشرق في الزمن الجميل والسيئ كذلك.
وخلال دراساتي العليا وعملي في جامعة بريشتينا في يوغسلافيا السابقة، تكونت لدي صورة أفضل عن مكانة الكتاب في الشرق مع البرفسور ستيبتشفيتش وكتابه الذي أحدث فارقاً حين صدر في زغرب عام 1985. وكان ستيبتشفيتش قد ولد عام 1930 في بلدة زادار بكرواتيا المطلة على البحر الادرياتيكي في مستوطنة ألبانية تشكلت هناك خلال القرن الثامن عشر من هجرة مجموعة من كاثوليك ألبانيا، ثم درس الآثار في جامعة زغرب، وتخصّص في آثار الاليريين الذين كانوا يمتدون في غرب البلقان، وقاده تخصّصه هذا إلى تعلم اللغات القديمة وإلى التعرف على مكانة الكتابة والكتاب في الحضارات القديمة. ومع هذا التخصّص بدأ العمل بتدريس مادة "تاريخ الكتاب والمكتبات" بالدراسات العليا في جامعة زغرب، والتي بقي وفياً لها حتى تقاعده عام 1997.
خلال عمله في تدريس هذه المادة اشتغل البرفسور ستيبتشفيتش بكل ما يملك من معرفة من لغات قديمة وحديثة تصل إلى عشر تقريباً، في تقديم مقاربة جديدة وإنجاز كتابه "تاريخ الكتاب" الذي جاء عام 1985 من حيث المضمون والشكل (الإخراج والألوان والورق) ليعبّر عن التطور الذي قطعه الكتاب في تاريخه الطويل.
مع أنه لم يكن هو الكتاب الأول الذي يحمل هذا العنوان "تاريخ الكتاب"، ولكنه كان بالتأكيد الكتاب الأول الذي حمل جديداً في هذا الموضوع، وخاصة للأوروبيين. فقد صدرت قبله كتب عدة بهذا العنوان، ركّزت على قارة أو على دولة بعينها، كـ"تاريخ الكتاب" للإيطالي أ. ادفرسيا الذي ركّز فيه على إيطاليا، أو "تاريخ الكتاب" للدانماركي سفند دال الذي ركز فيه على القارة الأوروبية. وكان هذا الكتاب قد صدر عام 1927 وترجم إلى لغات كثيرة منها العربية، ولكن صدور الترجمة اليوغسلافية في 1979 هي التي دفعت البرفسور ستيبتشفيتش إلى الإسراع في إنجاز مؤلفه المختلف "تاريخ الكتاب" في 1985، وبالتالي يمكن القول إنه أصبحت لدينا لأول مرة رؤيتان مختلفتان عن "تاريخ الكتاب"، إذ نجد في الكتابين السابقين صفحة أو أكثر بقليل عن العرب. أما عن الشرق الأقصى الغني بإسهامه في تاريخ الكتاب فالصورة باهتة. ومن هنا يمكن القول إن ما جاء في كتاب سفند دال استفزّ البرفسور ستيبتشفيتش وجعله يقدّم مقاربة مختلفة لـ"تاريخ الكتاب" عبّر عنها في مقابلة مع مجلة "ناشا غنيغا" عام 1985 بمناسبة صدور كتابه، "لقد حاولت أن أصحّح هذا الخلل وأن أعطي كل شعب المكانة التي يستحقها".
كانت قراءة الكتاب فتحاً جديداً لي، إذ إنني كنت كغيري ممن تعلموا في دمشق نعتقد أن الأوروبيين اخترعوا المطبعة مع غوتنبرغ، وبالتالي حدثت ثورة معرفية جديدة في طباعة الكتب، إلا أن كتاب ستيبتشفيتش يشرح أن الطباعة بدأت في الشرق الأقصى قبل ذلك بقرون عدة، بالحروف والقوالب الخشبية، وأن ما عمله غوتنبرغ هو استبدال الحروف الخشبية بحروف معدنية. والأهم من هذا أن هذه التقنية الجديدة انتقلت نحو الغرب فأخذ بها العرب، فقد كشف البرفسور ستيبتشفيتش عن وجود خمسين كتاباً في المكتبة الوطنية في فيينا مطبوعة في مصر بالقوالب الخشبية حتى القرن الثالث عشر الميلادي. ومن الواضح هنا أن هذا الاختراع الشرقي استمر في انتشاره حتى وصل إلى أوروبا الوسطى من خلال البلقان.
ومن ناحية أخرى من يتخيّل الكتب والطباعة من دون ورق؟ وهنا أيضاً يكشف ستيبتشفيتش عن دور العرب في تطوير صناعة الورق حتى أصبح "الورق الدمشقي أو Charta Damascena" من أشهر أنواع الورق في أوروبا خلال القرون الوسطى. وبالإضافة إلى دمشق اشتهرت مدينة شاطبة الأندلسية أيضاً بصناعة الورق وتصديره إلى العمق الأوروبي.
كل ما في هذا الكتاب يستفز الترجمة إلى العربية، وهكذا كان الأمر عام 1992 حين قررت سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية ترجمة الكتاب، والتي ساهمت بالفعل في رواجه، مع أنها لم تمنح المؤلف شيئاً وفقاً لشروط التعاقد التي تنص على أن يتعهد المؤلف بعدم المطالبة بحقوقه في حال الترجمة. وعلى الرغم من أنه كان صعباً على البرفسور ستيبتشفيتش أن يتفهم ذلك، إلا أنه كان سعيداً بصدور الترجمة العربية التي أدت بدورها إلى ترجمة فارسية صدرت في طهران، ثم تُرجم الكتاب إلى الألمانية في 1989 وبعدها إلى الإيطالية والإنكليزية وغيرها.
كانت ترجمة هذا الكتاب فرصة للتواصل مع المؤلف وتطور علاقة خاصة في السنوات اللاحقة. فقد كتب إلي (أيام المراسلة بالآلة الكاتبة والبريد العادي) أكثر من مرة يشكو الحال ويتمنى أن يزور الشرق الذي طالما أحبّه عن بعد. وقد تحققت هذه الأمنية عندما رتبّتُ له دعوة لزيارة الأردن، بعدما انتقلت للعمل في إحدى جامعاته، ليلقي في 1996 محاضرة مؤثرة عن "تدمير التراث الشرقي في مكتبات البوسنة". كنا في ذلك الحين مصعوقين بالقصف الصربي لمعهد الدراسات الشرقية في سراييفو الذي حوّله إلى هشيم مع خمسة آلاف مخطوطة باللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) في 1995.
كانت زيارته فرصة لبرنامج كثيف يزور فيه المواقع الأثرية في المنطقة إذ اعتاد أن يخرج في الصباح ويعود في المساء وكان نشيطاً جداً وما فتئ يقول "أنا لم آتِ لأرتاح وأنام هنا، عندما أعود إلى زغرب سأنام وأعوّض ما فاتني". وعندما عرضتُ عليه أيضاً الذهاب إلى سورية وزيارة تدمر كان سعيداً، وأخبرني لدى عودته "الآن يمكن أن أموت بطمأنينة بعد أن شاهدت الشرق".
وكان من حظ الكتاب أنه خرج بطبعة ثانية عام 2013 عن وزارة الثقافة الأردنية في "مكتبة الأسرة" التي تطبع الكتاب بطبعة كبير وبسعر رمزي. وعندما أخبرته بذلك سُر كثيراً في وقت أخذ الشلل يسري في جسمه، ولذلك حرصت على أن أرسل نسخة مع صديق يسلّمها باليد، وهو ما فعله وأرسل لي صورة مؤثرة عن وضعه الصحي واحتفائه بالكتاب في اللغة العربية.
فقدنا نحن الكتاب العرب والشرقيين في شهر أيلول/سبتمبر عالماً جليلاً خصّص للعرب فصلاً كاملاً في تاريخ الإنسانية، وأعاد الاعتبار للشرق الأقصى (الصين وكوريا) في التطور التاريخي والحضاري في تأليف الكتاب وطباعته وترويجه. فمن يصدق أنه في الصين لدينا كتاب من القرن التاسع الميلادي عن آداب شرب الشاي، على حين أن الشاي لم يصلنا إلا في وقت متأخر لنحتفي بعد ذلك بشاي الساعة الخامسة؟
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)