رحلة قلنديا المُجدولة... أو مطار القدس المنسيّ

05 مايو 2020
الجدار الفاصل عزل المطار ومنع الوصول إليه(أحمد غرابلي/فرانس برس)
+ الخط -
ظلّ مطار القدس لغاية عام 1967، بوابة مفتوحة للفلسطينيين على العالم، قبل إغلاقه أمام حركة التجارة منذ الانتفاضة الثانية. يعود هذا المطار غير المعروف إلى واجهة الأحداث بسبب الخطة الإسرائيلية لإقامة مستوطنة محلّه. "وأنا طفلة، شكّل مطار قلنديا بالنسبة إليّ ذلك المكان السّحري الذي أحسست فيه لأول مرة بحرية الطيران. كباقي الأراضي الفلسطينية، جرت سرقته واغتصابه وتشويهه ليصبح رمزاً للقمع والأسْر". بهذه الكلمات، ردّت حنان عشراوي، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، على قرار وزارة الإسكان الإسرائيلية. ففي 18 فبراير/ شباط، أعاد المتحدث باسم الوزارة التشديد على إرادة إسرائيل التي عُبِّر عنها قبل عدة سنوات في إنشاء مستوطنة على موقع مطار القدس القديم. أما اليوم، فقد بات حتى اسمه موضوع جدال: إذا كان الإسرائيليون يُطلقون عليه اسم "مطار عطاروت القديم"، نسبة إلى المُوشاف (بلدة تعاونية زراعية) الواقعة قربه مباشرة، فإن الفلسطينيين يتحدثون بشكل طبيعي عن "مطار قلنديا" أو "مطار القدس".

مطار في فلسطين تحت الانتداب البريطاني
عودة إلى عام 1920، عندما أقام البريطانيون مطاراً على الأرض المجاورة للطريق الرابطة بين القدس ورام الله. شكّل هذا المطار الذي أُطلِق عليه اسم "مطار كولونيا"، المطار الأول والوحيد في فلسطين الانتدابية لغاية بناء مطار "اللد" عام 1936، والذي سيصبح لاحقاً "بن غوريون". مع نهاية الانتداب البريطاني عام 1948، وُضع المطار تحت السلطة الأردنية، التي حوّلته إلى مطار مدني عرف سنوات مزدهرة. كانت الأحرف العريضة لتسمية "مطار القدس" تلمع على المدرج، كذلك فقد استقرت بسرعة العديد من شركات الطيران في المطار، كالخطوط الجوية اللبنانية وطيران الشرق الأوسط التي كانت تربط بيروت مرتين في اليوم (اندمجت الشركتان عام 1964)، ثم مصر للطيران وكذلك طيران الأردن ("الملكية الأردنية" اليوم).

ربطت رحلات عدة أسبوعياً مُدن القاهرة وعمان وعدن والكويت. تقول المخرجة الفلسطينية ناهد عواد: "يجب ألا ننسى أن العديد من الفلسطينيين كانت تربطهم علاقات عائلية وتجارية مع البلدان المجاورة. خلال أبحاثي، قابلت رجلاً كان يدير مكتبة في رام الله. أخبرني أنه كان يقوم بعدة رحلات أسبوعياً إلى بيروت والقاهرة من أجل نقل الكتب أو جلبها. الوضع كان مختلفاً تماماً: لقد كان العالم العربي مفتوحاً أمامنا".

تعرف هذه المرأة الفلسطينية جيداً تاريخ هذا المطار. في ظل الغياب التام للبيانات التاريخية، تمكّنت بعد أبحاث طويلة من جمع القطع المفقودة، لتنتج في عام 2007 الفيلم الوثائقي "خمس دقائق عن بيتي" (من إنتاج عكّا‎ فيلم ومونارش فيلم وكارافان فيلم). "شكّل مطار القدس نافذة على العالم بالنسبة إلى الفلسطينيين، وبوابة الأراضي المقدسة بالنسبة إلى السياح والحجاج وكل العالم العربي. وقد نزل الكثير من الممثلين والشخصيات الدينية والسياسية في مطار القدس".

بعد الحرب العربية الإسرائيلية في يونيو/ حزيران 1967، أُلحق الموقع بالأراضي التي ضمّتها إسرائيل، قبل أن يُصادَر عام 1970. حينها، كان المطار لا يزال مسجلاً على أنه موجود على الأراضي المحتلة، وكانت النتيجة أن إسرائيل لم تستطع لسنوات عديدة استخدامه كمطار دولي. "كان المطار مسجلاً تحت الاختصاص القضائي للأردن ضمن خطة الملاحة الجوية لمنظمة الطيران المدني الدولي (الإيكاو) للشرق الأدنى. حاولت إسرائيل الالتفاف على هذا الاتفاق، لكن دون أن تُفلح في ذلك. كانت هذه إحدى المرات الوحيدة التي بقيت فيها جميع الدول العربية متكاتفة".
من عام 1970 حتى 2000، اقتصرت حركة الطيران على الرحلات الداخلية، معظمها باتجاه تل أبيب، قبل أن توقَف نهائياً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

موقف حافلات
إذا كان المدرج وبرج المراقبة لا يزالان على حالهما، فإن مطار القدس الذي يقع على بُعد عشرات أمتار فقط من حاجز قلنديا، مهجور اليوم، وقد تحوّل إلى أرضٍ خلاء تُعريها الرياح، بعد عزله بالجدار الفاصل عن أحياء كفر عقب والرام والضفة الغربية.
أدى تشييد الجدار دوراً رئيسياً في تاريخ المطار، إذ جعله متعذر الولوج، بل وخفيّاً على الغالبية العظمى من الفلسطينيين. بل كان هذا الحائط مصدر صعوبات لناهد عواد في إنتاج فيلمها: "خلال الفترة التي ما بين بدء تصوير الفيلم وإنهائه، كان الإسرائيليون قد أتمّوا بناء الجدار. لذا، لم يعد باستطاعتي الذهاب إلى هناك من دون موافقة. تقدمتُ مع طاقمي بطلب إلى القنصلية الفرنسية في القدس التي كانت شريكاً في الفيلم، حتى نتمكن من التنقل إلى عين المكان. حصل جزء من الفريق على التصريح في اليوم ما قبل الأخير من التصوير. أمّا أنا، فلم أتمكن من الحصول عليه، رغم أني مديرة التصوير. لذا، كان عليّ أن أجد حلّاً آخر، أي العبور بشكل غير قانوني. عندما أفكر في الأمر اليوم، أجده ضرباً من الجنون، لكن الأوضاع كانت مختلفة".


ابتداءً من عام 2007، بدأت تُتداول الشائعات بخصوص إنشاء مستوطنة. ورغم عدم بدء أي مشروع بهذا الخصوص، إلا أن إسرائيل لم تتخلّ نهائياً عن الفكرة. من الجانب الفلسطيني، يبدو أن تاريخ المطار في طريقه إلى النسيان، خصوصاً بالنسبة إلى الأجيال الشابة. ففي الحافلة التي تُقل نحو القدس والتي تمر على بُعد بضعة أمتار من مهبط الطائرات، تتحدث شابتان فلسطينيتان: "هذه الأرض؟ كانت مطار فلسطين في السابق. لكننا لا نعرف أكثر من ذلك، إذ بُني جدار أمامه. وحدهم من يملكون تصريحاً يمكنهم رؤية ما بقي من المطار".

تضيف ناهد عواد: "الموقع اليوم ليس محتلاً فحسب، بل لا يكاد يكون موجوداً في ذاكرة جيلي، إذ يبقى مخبأً فقط في ذاكرة الناس الذين عرفوه محوراً نشيطاً للطيران. لقد اكتشفت جزءاً من تاريخي كنت أجهله كفلسطينية. أحسست ببعض من طعم الحرية وشاهدت البوابة التي كانت في السابق مفتوحة على العالم. هذا الفيلم شكّل أيضاً بالنسبة إليّ معركة من أجل التعريف بهذا التاريخ".

خلال شهر مارس/ آذار 2020، توقفت نحو ثلاثين حافلة في المكان. يحكي أحد السائقين: "نتوقف هنا عندما تتوافر لدينا عدة ساعات من الراحة" قبل أن ينبهنا: "لا تتقدموا نحو برج المراقبة، فالجيش الإسرائيلي يراقب، ولا يُحب أن يقترب أحد".

مشروع مستوطنة تعد 11 ألف وحدة سكنية
يكتسي الإعلان الذي أصدرته وزارة الإسكان الإسرائيلية في 18 فبراير/ شباط بشأن مشروع 11 ألف مسكن على الموقع نكهة خاصة لدى العديد من الفلسطينيين، ولا سيما أولئك الذين عايشوا فترة نشاط المطار.

احتجّت المنظمة غير الحكومية "القدس الدنيوية" على الفكرة: "إن حدود المشروع لا تتوافق إلا جزئياً مع خط المصادرة لعام 1970، كذلك فإن الممتلكات فسيفساء مركّبة. فالجزء الأكبر من المكان يتألف من أراضٍ مملوكة للدولة، ووحده جزء صغير يتبع الصندوق القومي اليهودي، وذلك على موقع موشاف عطروت المُتخلى عنه عام 1948. قرابة 25 في المائة من الأراضي تعود ملكيتها إلى الفلسطينيين".

تعتبر المنظمة أن أسباب اهتمام إسرائيل بالمكان واضحة: "لقد استنفدت تقريباً جميع احتياطياتها من الأراضي وتطرح المواقع القليلة الباقية إشكالية كبيرة. مع التنامي القوي للمجتمعات اليهودية المتشددة (الأرثوذكسية)، تضطر العائلات الجديدة إلى مغادرة القدس نحو مدينة "بيت شيمش" المجاورة، أو إلى المستوطنتين الكبيرتين على الضفة الغربية للخط الأخضر، "موديعين عيليت" و"بيتار عيليت". يستجيب إنشاء مستوطنة جديدة للاحتياجات المتزايدة لهذه المجتمعات، إلى درجة أن هناك خطة سوريالية لبناء نفق تحت مخيم قلنديا للاجئين، ليربط بين موقع المطار ومستوطنة "كوخاف يعقوب" الأرثوذكسية المتشددة في الشمال".

ويتعارض المشروع تماماً مع خطة الولايات المتحدة "السلام من أجل الازدهار" التي كُشف عنها قبل أيام قليلة من إعلان الوزارة الإسرائيلية. فما تُسمى "صفقة القرن" تدعو إلى إنشاء قطاع قادر على المساهمة في "تنمية منطقة سياحية من درجة عالمية، وعلى دعم السياحة الإسلامية في القدس والأماكن المقدسة" حيث يوجد المطار. أي باختصار، بناء مجمع فنادق ومطاعم ومحلات تحت سيطرة إسرائيل، ولفائدة الفلسطينيين. من الجانب الفلسطيني، لا يؤمن أحد باحتمال تنفيذ خطة دونالد ترامب، لأن النخب الإسرائيلية تواصل مشاريعها من دون أخذها بعين الاعتبار. ووفق تحليل منظمة "القدس الدنيوية"، فإن "الرسالة الموجّهة إلى الفلسطينيين واضحة: "إسرائيل تفعل ما تريد بدعم من الولايات المتحدة، بما في ذلك بناء مستوطنة في المكان الذي حددته خطة ترامب لمصلحة الفلسطينيين".

فهل يمكن تنفيذ هذه الخطة؟ لا شيء أقل تأكيداً، وسيواجه هذا المشروع تعقيدات قانونية ضخمة، خصوصاً بسبب قربه من رام الله وكفر عقب. تختم ناهد عواد قائلة: "أخبار كهذه تؤلمني كثيراً. آمل حقاً ألا يستكملوا مشروعهم. لكننا نعرف كيف يشتغلون، إنهم يصدرون تصريحات، ثم يحللون ردود الفعل، قبل أن يعودوا للهجوم سنوات بعد ذلك".

يُنشر بالتزامن مع موقع https://orientxxi.info/ar

المساهمون