رحلة البحث عن عزيزة بركات (1 من 2)

09 اغسطس 2018
+ الخط -
بدأت الرحلة بتفكير عابث، تحول إلى لعبة شيقة، كادت أن تقلب بِجَد، لكنها سرعان ما انتهت عابثة كما بدأت.

كنا وقتها نفضل قعدة البيوت على لقاءات المقاهي توفيراً لمصاريف الخُروجات، كانت لقاءاتنا المنتظمة تعيننا على تجاوز آثار البطالة الصريحة التي ابتلينا بها في تلك الأيام من أواخر التسعينات، مبتهلين إلى الله أن يرزقنا كبعض زملائنا بنعيم البطالة المُقنّعة في أي صحيفة أو مجلة حكومية، لا يمكن أن تتعرض للغلق والمصادرة مهما زادت خسائرها وتعاظم فشلها. كنا نرغي يومها كعادتنا أمام التلفزيون ذي الإيريال الهزيل، الذي لا تكفي صحته إلا لجلب القنوات الحكومية التعيسة، وكان يعرض في تلك الظهيرة الكئيبة فيلماً سقيماً للأستاذ فريد الأطرش الذي كان حزيناً كعادته، لكنه كان مصحوباً في نواحه الغنائي بأكثر من خمسة عشر راقصة ممشوقة القوام، يتمايلن خلف سامية جمال التي كانت ترقص ببراعة كالعادة، وقد رسمت على وجهها الجميل ضحكتها الشهيرة، التي كنت أحب أن أتصورها كضحكة ساخرة من حزن فريد غير المبرر، ولم يكن لدي ما أؤكد به تصوري ذلك، سوى أنني لم أكن أفهم فريد الأطرش، ولا أقدر حزنه، ولا أراه مبرراً، مع تقديري الكامل لفكرة شاعر الشعب ابن عروس القائلة بأنه "ما حد من الهم خالي، حتى قلوع الصواري"، لأن المجهود الذي تبذله قلوع الصواري خلال تأدية عملها يستحق شيل الهم، على عكس فريد الأطرش، لكن هذا ليس موضوعنا على أية حال.

كانت الراقصات اللواتي يكتظ بهن ذلك التابلوه الغنائي ذوات ملامح غربية جليّة، كما جرت العادة وقتها في أغلب أفلام الأبيض والأسود، لأسباب قد يحلو للبعض إرجاعها إلى الطابع "الكوزموبوليتاني" الذي ساد "هوليوود الشرق" وما حولها في تلك الفترة، بينما أرجعه أنا إلى عشق المتفرج المصري الأصيل لرؤية أكبر قدر من الأجساد البيضاء العارية، في حين أرجعه صديق متحذلق إلى حرص منتجي السينما الأذكياء على استغلال رغبة المتفرج المصري مهضوم الحقوق في الشعور ببعض التفوق، حين يرى راقصات افرنجيات مائلات مميلات كأسنان البُخت "ولهطة القشطة"، وهن يتراقصن في حضرة مطربين يشبهونه مثل عبد العزيز محمود وكارم محمود وعبد الغني السيد، لكن هذا ليس موضوعنا على أية حال.

لا أدري لماذا جذبت انتباهي في تلك اللحظة الخاوية من أي معنى، راقصة بالذات من بين كل المحشورات في الكادر، ربما لأنها كانت خمرية اللون مدملجة القوام عريضة الرئتين على حد تعبير سمير غانم، وكان ذلك يميزها بقوة عن "المِسلوَعات" الضامرات شاحبات اللون المجاورات لها، أو ربما لأنها كانت تتمايل مع غناء الأطرش بنشوة ظاهرة وحماس مُلفت وضحكة لعوب، على عكس زميلاتها اللواتي كانت ملامحهن توحي بالجوع والملل والشكوى من غدر الزمان والتضرع إلى الله أن ينتهي "أوردر التصوير" في أسرع وقت ممكن.


اللونة المجهولة
اقتربت من شاشة التلفزيون ذي الـ 14 بوصة، وانتظرت عودة تجمع الراقصات إلى الكادر فور انتهاء الكوبليه الحزين، لأشير إلى وجهها الضحوك، وأطلب من أصدقائي التركيز مع ملامحها قبل أن تعود سحنة فريد لاحتلال الكادر، فاتفق أغلبهم معي على خصوصية أدائها وملامحها، ولأننا وجدنا فيها موضوعاً يشغل فراغنا العقيم، انتظرنا أن تطل علينا في الأغنية التالية في الفيلم، ثم التي تليها، فلم نجدها، مع أن أغنية الفيلم الختامية شهدت تجمعاً لعدد كبير من الراقصات كعادة كثير من "فينالات" الأفلام الغنائية. كان ذلك ثاني فيلم أكمله لفريد الأطرش، بعد فيلم (إنت حبيبي) الذي أحببته إكراماً لشادية ولـ "لسعان" يوسف شاهين في كثير من كادراته، ولأننا لم نكن نعرف اسم الفيلم الذي لم نشاهده منذ بدايته، فقد أطلقنا عليه اسماً كودياً هو (فيلم اللِّونة المجهولة)، نسبة إلى صديقتنا المجهولة ذات الوجه الضحوك والرئتين العريضتين، والتي تحولت إلى موضوع للنقاش يلائم تلك المرحلة التي لم نكن نفعل فيها شيئاً ذا بال، ولذلك كنا نبحث عن كل ما يساعدنا على "رفو جورب الوقت"، على رأي الصديق أكرم القصاص، لكني كنت أكثر اهتماماً بالراقصة المجهولة بحكم اكتشافي لها، ولذلك حرصت لفترة على متابعة كل ما تعرضة قنوات التلفزيون من أفلام عربية قديمة، وقد كان عددها كبيراً لحسن الحظ في تلك الأيام، لأبحث في كل الاستعراضات الغنائية التي تصادفني عن ذلك الوجه المبهج اللعوب، وكم كانت فرحتي غامرة، حين وجدت صديقتي المجهولة في كادر مزدحم في فيلم كان يغني فيه الرائع عبد العزيز محمود، على أنغام غربية داخل كباريه، ومع أنها كانت تعاني في ضبط رقصتها على الإيقاع، مقارنة بزميلاتها من بنات الفرنجة، إلا أنها كانت لا تزال تحتفظ بتلك الضحكة الآسرة، التي أحببت أن أتصورها ساخرة من الظروف التي رمتها بعيداً عن الرقص الشرقي الذي ترتاح إليه أكثر.

من أين نبدأ؟
بعد الفيلم الثالث الذي رأيتها ترقص فيه خلف سعد عبد الوهاب، بضحكة أقل تألقاً وحماس أهدأ، اتخذت قراراً حاسماً بالبحث عن "اللِونة المجهولة" لإجراء حوار صحفي معها، على أمل أن تشجعني المعلومات التي سترد فيه إلى كتابة رواية عن كواليس تلك الفترة تعتمد على حياة بطلتي المجهولة، التي تصورتها بالضرورة حياة درامية حافلة، وهو قرار تعامل معه أصدقائي بفتور، لأنهم رأوه مرتبطاً بتقلبات وتقلصات أيام البطالة التعيسة، ذكّرني أحدهم يومها بهوس كان قد انتابني قبلها بفترة، وهو هوس استخراج علاقات رياضية من أرقام لوحات السيارات، قبل أن يحولوها مؤخراً إلى أرقام تختلط فيها الحروف بالأرقام، لذلك أظهر بعض الأصدقاء القلق على سلامتي النفسية، حين بدأت بالاستدانة منهم للذهاب إلى شارع الشواربي، الذي لم تكن أكشاك بيع أفلام الفيديو فيه قد لفظت أنفاسها الأخيرة، لأشتري بما استدنته أفلاماً لفريد الأطرش وسعد عبد الوهاب وعبد العزيز محمود.

ثم تضاعف قلقهم حين اتفقت مع صديق آخر من مُلّاك الفيديوهات التي لم تكن هي الأخرى قد لفظت أنفاسها بعد، وذهبت إلى بيته وبصحبتنا صديق غير حميم من المصورين الصحفيين، لنقوم بتثبيت الكادر، حين يهل وجه بطلتي الضاحك في أكثر استعراضاتها وضوحاً، فيقوم المصور حينها بتصويره، لأستخدم تلك الصورة للبحث عنها، منطلقاً من نقطة ارتكاز كانت أول ما خطر بذهني، وهي (قهوة بَعرة) الكائنة في شارع سليمان الحلبي المتفرع من شارع عماد الدين في وِسط البلد، والتي كانت برغم صغرها أشهر ملتقى لكومبارسات السينما ومظاليمها، والذين كنا نسعد حين نمر إلى جوار المقهى عند خروجنا من سينما كوزموس المجاورة للمقهى أو سينما كريم القريبة منه، فنرى وجوه بعضهم المألوفة لدينا من أفلام السبعينات والثمانينات، صحيح أن الأفلام التي شاركت فيها (اللونة المجهولة) كانت تنتمي إلى مطلع الخمسينات، وأن وجهها لم يصادفني في أفلام ما بعد تلك الفترة، على كثرة ما كنت أشاهده من أفلام، لكنني لم أكن أملك طريقة أكثر منطقية للبدء في رحلة البحث.

مصائر متخيلة
لم يكن أصدقائي يعلمون أن لرحلتي العبثية جذور جادة قديمة، بدأت لدي منذ أيام الطفولة التي عشتها في بيت جدتي بالإسكندرية، مستمتعاً بمشاهدة أفلام ليلى مراد وأنور وجدي ومحمد فوزي، التي كانت مشاهدتها مستحيلة في بيتنا، الذي لم يكن به تلفزيون أصلاً، لأسباب دينية لا اقتصادية، وإلى جوار مشاهد اسماعيل ياسين وشكوكو وعبد السلام النابلسي وزينات صدقي وعبد الفتاح القصري، ووجه ليلى مراد وصوت محمد فوزي، كانت تبهرني المشاهد الاستعراضية التي تغص خلفيتها بجموع من الراقصات، واللواتي كنت أجد نفسي مشدوداً إلى التأمل في ملامحهن وحركاتهن، أكثر من التأمل في ملامح وحركات من يحتل مقدمة الكادر أياً كان، لتتطور تلك العادة الغريبة مع مرور الوقت، وتتحول إلى رياضة ذهنية أترجمها إلى تساؤلات عبثية أشرك فيها من يشاهد الفيلم معي، لأطلب منه أن نتشارك في تخيل المصائر المحتملة لهذه الراقصة أو تلك، فهذه مثلاً فتاة يهودية من بولندا، جاءت إلى مصر مع أسرتها الهاربة من بطش النازي، وذهبت إلى معهد إيزاك للرقص، أشهر المعاهد التي كانت تجتذب المخرجين للبحث عن وجوه جميلة جديدة، فلفتت ملامحها الجميلة أنظار حلمي رفلة، فتعاقد معها على الاشتراك في كل الأفلام التي يخرجها وينتجها، وعاشت أسعد أيامها في رحاب شركته وأفلامه، وحين انتهت الحرب العظمى واندحر هتلر وجنوده، عادت مع أسرتها إلى بولندا بخميرة الثروة التي جمعتها من الأفلام الاستعراضية، التي كانت تنتج في مصر بالعشرات كل عام، وفتحت في مدينتها الصغيرة مزرعة ومعمل ألبان، وتزوجت ابن عمها الجزار وأنجبت منه ستة أبناء، وأسمت ابنها الأكبر رفلة، تقديراً منها لأفضال حلمي عليها، وقامت بتعليم إستر ابنتها الوحيدة الرقص الشرقي، دون علم أبيها الذي كان يزعجه الحديث عن ماضي الأم، ووعدتها بالذهاب إلى مصر يوماً ما، لكي تعرفها على زملاء أجمل أيام العمر، لكن ذلك الحلم لم يتحقق أبداً.


أما تلك الراقصة السمراء الممتلئة، التي تظهر في أغلب المشاهد بملامح غير متحمسة للرقص الجماعي، فقد كانت في الأصل تحلم بتكرار أمجاد تحية كاريوكا، حين هربت من أهلها في (تفهنا العزب)، لكنها لم تصادف أي حظ، لأن أيام الغرام بالممتلئات كانت قد ولّت، فلم تجد منفذاً إلى الشاشة إلا في أفلام حمادة عبد الوهاب وحسن الصيفي والسيد زيادة ومحمد عبد الجواد، وحين قل الطلب على الأفلام الإستعراضية، واقتصر إنتاجها على حسن الإمام الذي كان مشهوراً عنه الولع بعريضات العجيزة، حاولت الحصول على فرصة في أكثر من فيلم له، لكنها لم تدخل مزاج مساعده الأول، وحين زادت أيام عطالتها، وتعاظم خوفها من تقلبات الزمان، تزوجت من محمود برنس مساعد المصور الشهير كريكور، والذي كانت قد دخلت قلبه منذ أول مرة رآها، فذهب إليها وانتحى بها جانباً، وأعطاها نصيحة ثمينة في كيفية سرقة الكادر من الراقصة الرئيسية، لكنها كانت أجبن من تنفيذ نصيحته، بعد ما سمعته عن بطش الراقصات النجمات، ومع أنها صدته بقوة في البداية خوفاً منها على مسار "كاريرها"، الذي لا يجدي فيه الارتباط بعلاقات إلا مع المخرجين ومساعديهم، إن تعذر الوصول إلى المنتجين ومموليهم، لكنه ظل يودها من فيلم لآخر، و"يعين" لها نصيباً من وجباته، ولا يمل من أن يعزم عليها بالأكل والسجاير، وحين بذلت له الود، بعد أن يئست من مستقبل أفضل في الرقص والتمثيل، لم يحاسبها على سابق عجرفتها، بل فتح لها قلبه وبيته، وأنجب منها ثلاثة أبناء، وحجا سوياً إلى البيت الحرام، وبعد أن تخرج الأولاد، عادا سوياً إلى مدينته فاقوس، واستقرا في الأرض التي اشترياها، حتى وافتهما المنية.

أتخيل أيضاً أن تلك الراقصة الطويلة التي يبدو بياضها شاهقاً، ربما لأنها كانت شقراء أكثر من اللازم، لم تظهر في أفلام أخرى، غير ذلك الفيلم الذي كان بطله محسن سرحان، ربما لأن جمالها لعب برأس فتى الشاشة ذي الصدغين العريضين، أو لأن نظراتها الجريئة وعدته بأشياء لم تكن تقصدها، أو لأنه عاكسها بالإنجليزية بكلمات متجاوزة، ردت عليه بشخرة "اسكندراني"، فاكتشف أنها ابنة مهاجر يوناني قديم، وأنها ولدت وترعرعت في (بوالينو)، وأن المخرج عبد الفتاح حسن شاهدها في مكتب (بهنا فيلم)، حين كان يحضر لتصوير لقطات خارجية على شط اسكندرية لفيلم من بطولة نجمه المفضل محمد فوزي، فدعاها للنزول إلى مصر، ووعدها بأن يكون لها حظ لا يقل عن حظ ليلى فوزي التي تقل عنها جمالاً، لكن والدها الأرذثوكسي الملتزم دينياً وصاحب البقالة الشهيرة في شارع جوهر القائد، رفض الفكرة تماماً وهددها بمقاطعتها إلى الأبد، وتطلب الأمر سنة ومحاولتي انتحار لإقناعه، وحين "نزلت" أخيراً إلى القاهرة فوجئت بوفاة عبد الفتاح حسن المفاجئة، فوافقت على العمل كراقصة "سنّيدة" في أول فيلم عرض عليها، وكانت تظن أن قصتها الطويلة ستشجع محسن سرحان وغيره على الوقوف إلى جوارها، لكنها اكتشفت أنه كان مشغولاً كغيره بأشياء أخرى غير دعمها فنياً، فانتهى الأمر بفضيحة الشخرة في الاستديو، والتي نتج عنها طردها من الاستديو، ليتم بعدها حظر التعامل معها في كل أفلام استديو مصر، لتقرر العودة إلى كنف والدها، وتتزوج على هواه وذوقه من يوناني قريب، وتعود معه إلى اليونان، قبل سنوات من الرحيل الجماعي لأبناء جلدتها، بعد هوجة النشوة الوطنية بتطهير مصر من "الآخرين والأغيار".

غضب الكفتجي
كانت تلك اللعبة ذات القصص التي لا تنتهي، مسلية دائماً لي ولمن حولي، وكنت قد اعتبرتها أول اختبار لقدراتي على التأليف، لكنها بعد ذلك اليوم الذي صادفت فيه وجه (اللّونة المجهولة)، لم تعد مجرد لعبة للتسلية، بل أصبحت واعدة بمشروع فني حقيقي، تصورت أنه قد ينتج فيلماً تسجيلياً جميلاً، وكنت وقتها "مسحولاً" بالأفلام التسجيلية، بعد أن تعرفت على المخرجة العظيمة عطيات الأبنودي، واشتركت معها في كتابة تعليق لفيلم تسجيلي عن القاهرة، ثم بدأت بعدها في العمل على فيلم آخر عن عربات الكبدة والسجق المنتشرة في شوارع القاهرة والجيزة، تحمس له الصديق المخرج أحمد رشوان وقدمه إلى المركز القومي للسينما، ولم أكمله للأسف الشديد.

لكن لم يكن ممكناً أن أحول قصة (اللِونة المجهولة) إلى مشروع حقيقي أشرك معي فيه مخرجاً أو جهة إنتاج، قبل أن أمسك بطرف خيط يقودني إلى بطلتي المستقبلية التي كنت أعرفها جسماً لا اسماً، ولم يكن ذلك ممكناً قبل أن تكون لدي صورة لها، خاصة أن محاولة الاستعانة بالمصور المتطوع، أسفرت عن نتائج مخزية، حين ذهبنا لاستلام الصور بعد تحميضها من ستديو (عنتر فوتو ستورز) الكائن أسفل عمارة عبد الهادي الحلواني في باب اللوق، والذي كان قد عرفني عليه المصور البارع عبد الوهاب السهيتي، الذي لم أكمل تعلم التصوير الفوتوغرافي على يديه خلال سنوات الكلية، لنرى حين فتحنا الظرف المرتجى، صوراً غائمة مشوشة، تشبه صور السونار الذي لم يكن قد شاع بعد بين الناس.

انهال صديقنا مالك الفيديو تريقة على المصور الذي حمل لقب (الكُفتجي) منذ ذلك اليوم، والذي حاول الدفاع عن نفسه بالقول إن شاشة تلفزيون صديقنا من النوع الزبالة، الذي لا يمكن الكاميرات المحترمة من التقاط الصور، ثم ألقى محاضرة تبريرية في صعوبة التقاط الصور من الشاشات الرديئة، مستشهداً ببعض المشاهد التي تعرضها الأفلام السينمائية المصرية لشاشات التلفزيون وهي تبث خطوطاً عرضية تتحرك رأسياً بشكل مزعج، وحين واصل صديقي مالك الفيديو التريقة عليه، فاجأنا المصور الكفتجي بأنه لم يكن مهذباً كما نظن، وأنه يحفظ شتائم لم نسمعها من قبل، رصّها وراء بعضها، قبل أن يوجه الكلام لي وحدي قائلاً إنه يشعر بالندم لأنه أضاع وقته الثمين في موضوع تافه كهذا، متمنياً لي أن أرتقي بفكري إلى أمور تنفع الناس وتمكث في الأرض، ثم لم يمكث معنا أكثر، وتركنا في ضحكنا العابث، ليخفت اهتمامي بالموضوع بعدها، حين لم أجد مصوراً محترماً ينجز مهمة تصوير وجه بطلتي الغامضة.

خطوة على الطريق
لم يطل "نَشَفان" الأحوال، وصارت الأشياء "معدن" إلى حدٍ ما، حين بدأت التعاون مع مكتب صحيفة عربية مهمة في القاهرة، فتمكتت بعد أشهر من النشر المنتظم، من شراء تلفزيون وفيديو بالقسط من نقابة المهن التطبيقية فرع شبرا الخيمة، بفضل جدعنة صديق، ضمنني برقبته عند والده عضو مجلس النقابة، الذي عرفت فيما بعد أنه لم يضمنني عند نقابته لوجه الله، بل لأنه كان يظنني عريساً محتملاً لابنته التي لم أكن أحتملها على الإطلاق. وبعد أن استقر الفيديو في غرفتي وتأكدت من جودة صورة بطلتي المجهولة على شاشة تلفازي، قررت أن أستعين بمصور معتبر، كنت قد عملت معه في أكثر من موضوع صحفي لمكتب الصحيفة العربية، ولأنه كان يشاركني في عشق أفلام الأبيض والأسود، فقد أحب فكرتي كثيراً، وأبدى استعداده لتصوير رحلة البحث، بشرط أن أتعاقد مع المكتب الذي نعمل فيه، ليتحملوا تكاليف الصور التي سيلتقطها قبل نشر الموضوع، لأنه لا يستطيع دفعها من جيبه.

قررنا عرض الفكرة على مدير المكتب، الذي كان شخصية عجائبية سأنبئك بأخبارها حين يكون ذلك موضوعنا، كان الرجل يحترمني لأنني بدأت عملي معه في المكتب بحوارات مدوية النجاح مع أحمد زكي ويوسف شاهين، ثم أتبعت ذلك بحوار مع جيهان السادات، وآخر مع الدكتور مصطفى خليل، فأصبح ينتظر مني حوارات مع فاتن حمامة وعادل إمام والدكتور عاطف صدقي رئيس مجلس الوزراء السابق لا أقل، وحين قلت له إنني فشلت في الوصول إلى السيدة فاتن، وأنني سبق وأجريت حواراً مع عادل إمام قبل سنة، ولن أتمكن من تكرار التجربة لأسباب تخص تعقد علاقتي به، وأنني لست مهتماً من الأصل بمحاورة الدكتور عاطف صدقي، لأنه لن يقول كلمتين مهمتين على بعضهما، اتهمني بالكسل والاستسهال، وأصبح شديد السخط علي، ولذلك كان طبيعياً أن يرفض تمويل رحلة بحث عن راقصة مجهولة لا نعرف اسمها، ليتطلب الأمر شهرين على الأقل من العمل الدؤوب، حَفِلا بموضوعات جادة ومهمة، ليعاود الرجل احترامه لي واقتناعه بكفاءتي المهنية، فلا أُحرم من مصدر رزقي الوحيد وقتها.

وعدت زميلي المصور البارع، بتدبير مصدر آخر لتمويل مشروعنا في أقرب فرصة، وشكرته على جدعنته التي مكّتني بعد طول صبر، من امتلاك صورة واضحة لوجه بطلتي الغامضة، التي أصبحت واثقاً أنني سأصنع من قصة رحلة بحثي عنها ثم لقائي بها، فيلماً سيكون فريداً من نوعه في تاريخ السينما التسجيلية المصرية، ولكن بعد أن أعرف أولاً من هي أصلاً؟، وهي مهمة كان يمكن أن أبدأ بها من غير أن يصحبني فيها مصور محترف، لعلي أصل عبر البحث إلى "عُقاد نافع" يقنع أحداً بتمويل المشروع فيما بعد، ولذلك قررت أن أبدأ البحث من أول نقطة خطرت على بالي، من قهوة بعرة.

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.