رحلة إلى أميركا العميقة... في "عاصمة" أنصار ترامب (2-2)

27 اغسطس 2018
لا تزال رعاية الماشية من أهم تقاليد تكساس(العربي الجديد)
+ الخط -
في تكساس، ومدينتيها الأكثر شهرة، دالاس وهيوستن، كل شيء مرتبط بسمعة جنوبية، وخليط متنوع. كل شيء كبير وضخم في تكساس، سواء ارتبط ذلك بحجم الموارد الطبيعية والثروات الأرضية، أو بمساحتها التي جعلتها ثاني الولايات حجماً بعد ألاسكا، أو من ضخامة عدد سكانها، فهي تلي كذلك ولاية كاليفورنيا بمجموع سكان يتخطى 28 مليون نسمة. لذا، ليس من المستغرب أن تكون تكساس "دولة مستقلة كبيرة"، وقد كانت كذلك في الفترة ما بين عامي 1836 و1845، حين استقلت عن الحكم المكسيكي، وبقيت جمهورية مستقلة 9 سنوات، قبل انضمامها إلى الاتحاد الأميركي. وتركت تلك الخبرة آثاراً كبيرة على سكان تكساس وعلى شعورهم القومي وإحساسهم بالتميز على غيرهم من الولايات الأخرى الصغيرة.

ولا تعرف ولاية أخرى ما تعرفه تكساس من تنوع سكاني فريد وتفاعل بين من هم من أصول أوروبية بيضاء وتبلغ نسبتهم 42 في المائة أو 11.76 مليون شخص، والمكسيكيي الأصل ونسبتهم 40 في المائة أو 11.2 مليون شخص، والأفارقة السود ونسبتهم 13 في المائة أو 3.6 ملايين شخص، إضافة إلى البقية والتي تبلغ نحو مليوني شخص من الآسيويين والسكان الأصليين، وغيرهم. وأثّرت تلك البنية السكانية بصورة إيجابية في السكان من ناحية احتكاكهم اليومي بثقافات مختلفة ومتنوعة ومكملة بعضها لبعض. وخلق ذلك توازناً سكانياً صحياً، منع غلبة عرق أو هيمنة أصحاب لون معين على الساحة السياسية والاقتصادية بالولاية.

"في هذه المنطقة وفي اليوم العاشر من القرن العشرين بدأت البشرية حضارة جديدة"، بهذه الكلمات المنحوتة على حجر ضخم بجامعة لامار الواقعة شرق مدينة هيوستن يمكن ببساطة تعريف ولاية تكساس. فبعدما تم اكتشاف النفط بها في العاشر من يناير/كانون الثاني 1901 في منطقة جنوب بيمونت، شهدت الولاية، ولا تزال، تغيرات سريعة ومتواصلة لا تتوقف. ويعود الفضل في ذلك إلى عائدات تصدير موارد الطاقة، ومعه انتقلت هيوستن لتُلقب بأنها عاصمة الطاقة في العالم. ولا يمكن لزائر هيوستن، رابع المدن الأميركية بسكان تتخطى أعدادهم الملايين السبعة، ألا يلحظ وجود كبريات شركات النفط والغاز الأميركية في مختلف نواحي الحياة. إيكسون موبيل، وشيفرون، وكونوكو فيليبس، تمثل بعض أسماء كبريات شركات النفط الأميركية وهي موجودة من خلال مقارها الرئيسية أو مواقع تنقيبها واستخراجها للنفط، أو من خلال دعمها المادي الكثير من الفعاليات الثقافية والفنية، أو من خلال تبنيها برامج دعم للفقراء والمحتاجين.



وبالطبع تخدم هذه الأنشطة، التي لا تكلف تلك الشركات إلا مبالغ ضئيلة جداً بمعايير أرباحها السنوية، تحديداً مصالح تلك الشركات من خلال تحسين صورتها العامة في وقت يزداد الانتباه لمخاطر الانبعاث الحراري والتغيرات المناخية والتلوث البيئي. لكن نعمة امتلاك الثروات في تكساس لم تنعكس على رخاء ورفاهية سكان الولاية حتى عام 1928، ففي هذا العام أصبح "مبنى ميلام" في مدينة سان أنطونيو بجنوب الولاية أول مبنى طويل (21 طابقاً بطول أكثر من 90 متراً) يمكن إدخال وتركيب أجهزة تكييف مركزية فيه. وتعرف تكساس مناخاً متقلباً، إلا أن درجات الحرارة مرتفعة أغلب أيام العام، وشديدة الارتفاع في فترات أخرى طويلة، وتصل إلى درجات قلما تعرفها الدول الواقعة في الحزام الاستوائي. وسمحت أجهزة تكييف الهواء لتكساس بالتمتع بخيراتها، بعدما أصبح من الممكن السيطرة على درجات الحرارة في الأماكن المغلقة، وزادت موجات الهجرة منذ ذلك الحين بنسب كبيرة للولاية ذات الثروات النفطية أو الحيوانية أو الزراعية، والتي لولا تكييف الهواء، لما تمكنت من الاستمتاع بها، وهكذا أصبح "تكييف الهواء المركزي" وسيلة هامة، كي تستمتع تكساس بثرواتها وبرخائها.

وفي هيوستن، موقع ثاني أسوأ إعصار في أميركا، بعد إعصار كاترينا في نيو أورليانز عام 2005، وهو إعصار هارفي الذي ضرب جنوب تكساس ومدينة هيوستن تحديداً في صيف العام الماضي، ذكرت بعض التقارير أن تكلفة الأضرار الناجمة عن الإعصار في ولاية تكساس تتخطى تكلفة أضرار إعصار كاترينا الذي بلغ أكثر من مائة مليار دولار. لكن وعلى العكس من حالة إعصار كاترينا، لا تجد آثاراً لإعصار هارفي في مدنية هيوستن، ويعود السبب لدرجة كبيرة إلى غنى الولاية وتمتعها بموارد لا تعد ولا تحصى.

وكانت كلمة "هنا هيوستن" هي أول كلمة سُمعت في الفضاء عند هبوط رواد الفضاء على سطح القمر عام 1969، عندما تحدثوا لمركز المراقبة والتحكم على الأرض. وهذا يفسر حصولها على لقب مدينة الفضاء، بالإضافة إلى احتوائها على مركز ليندون جونسون الخاص بالفضاء، والتابع لوكالة ناسا. وتمثل زيارة المركز فرصة جيدة للتعرف إلى اتجاهات الكشوفات الفضائية المقبلة، ومنها تفاصيل كيفية بناء برنامج فضائي متكامل لغزو واستكشاف الفضاء عن طريق برامج الرحلات الفضائية المأهولة، أو عن طريق إرسال سفن فضاء غير مأهولة يتم التحكم فيها من داخل غرف العمليات بهيوستن تجمع وتصور ما يمكن الوصول إليه. وتوفر وكالة ناسا كذلك فرصة تناول وجبة الغذاء مع أحد رواد الفضاء. ومن الرواد وليام ماك آرثر، الذي انضم إلى ناسا عام 1987 مهندساً متخصصاً في تصميم مركبات الفضاء. ثم اختير لدخول اختبارات قبول قاسية تؤهل لوظيفة "رائد فضاء". وبالفعل نجح في كل الاختبارات، وتم تدريبه وتأهيله للمشاركة في رحلات لمكوك الفضاء كولومبيا عام 1993، وفي عام 1995 صعد على متن مكوك الفضاء أتلانتيس، ثم على متن مكوك الفضاء ديسكفري عام 2000، وأخيراً في عام 2005 صعد على متن محطة الفضاء التي تتم إدارتها بمشاركة من دول عدة إضافة إلى الولايات المتحدة، وروسيا والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا واليابان. وبلغ مجموع ما قضاه ماك آرثر في الفضاء 224 يوماً و22 ساعة و28 دقيقة و10 ثوان، منها 24 ساعة و21 دقيقة في "السير في الفضاء". وتسمح فرصة لقاء رائد فضاء حقيقي بطرح كل الأسئلة البسيطة والمعقدة عن طبيعة عمل الرواد وكيفية قضاء أوقاتهم في مركبات الفضاء أو خلال السير في الفضاء لاكتشاف أسرار الكون.



تكساس ولاية جمهورية بامتياز، فقد صوتت الولاية لصالح المرشح دونالد ترامب بنسبة 53 في المائة في مقابل 43 في المائة لهيلاري كلينتون أو 4.7 مليون صوت لترامب مقابل 3.88 لصالح هيلاري كلينتون، وذهبت أصوات الولاية الـ36 في المجمع الانتخابي لترامب. ويمثل الولاية سيناتوران جمهوريان هما المرشح الرئاسي السابق السيناتور تيد كروز والسيناتور جون كورنين. أما ممثلو الولاية بمجلس النواب فهم 25 عضواً جمهورياً مقابل 11 عضواً من الديمقراطيين. وسمحت سياسات ترامب المعادية للمهاجرين، ومنها دعوته إلى بناء حاجز فاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية بزيادة شعبيته داخل تكساس. واستجابت الولاية لدعوة ترامب قبل أربعة أشهر، وقامت بنشر آلاف من عناصر الحرس الوطني للولاية للمساعدة في تأمين الحدود الجنوبية للولاية، والتي يبلغ طولها 3201 كيلومتر مع المكسيك، لمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين لتكساس. ويتخذ الكثير من المهاجرين غير الشرعيين ممن ينجحون في الدخول إلى الولايات المتحدة من تكساس موقعاً لحياتهم الجديدة في الولايات المتحدة. وكل عام ينجح أكثر من مليون مهاجر غير شرعي للولايات المتحدة، وهو ما يعطي "حيثية كبيرة" لدعوات ترامب المناوئة للمهاجرين، بحسب سكان تكساس.

وأظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينبيك في إبريل/نيسان الماضي دعم 60 في المائة من أهالي تكساس نشر قوات الحرس الوطني لتأمين حدود الولاية مع المكسيك، ووافق 43 في المائة منهم على إنشاء حاجز فاصل مع المكسيك. وتعدّ هذه النسبة كبيرة جداً، إذا أخذنا في الاعتبار تركيبة سكان تكساس، والمزايا التي تغتنمها الولاية من وجود حدود لها مع المكسيك. وعندما اتبعت إدارة ترامب سياسة فصل عائلات المهاجرين، وحجز الأطفال بعيداً عن عائلاتهم أخيراً، انتفضت مدن عدة في تكساس ضد هذه السياسة غير الإنسانية.

قبل 55 عاماً، سقط الرئيس جون كينيدي قتيلاً أثناء مرور موكبه بمركز مدينة دالاس، وأصبح مكان الاغتيال أحد أهم مزارات المدينة، وحول المكان تنتشر الكتابات والعبارات المتعلقة بالحادث، إلا أن أهمها ما يقول "هنا فقد رئيسٌ حياته، ومن هنا فقدت الأمة الأميركية عقلها". وتمت جريمة اغتيال كينيدي عن طريق بندقية آلية، في ولاية يعشق سكانها أسلحتهم النارية لارتباطها في ذهنهم بماضٍ عريق في ما يتعلق بالصيد ورعاية وحماية الماشية، وحماية لأنفسهم من توغل الحكومة الفيدرالية في حياتهم. ومن أطرف مشاهد الولاية في أحياء الجالية العربية محاولة للترويج للسلاح، ولحقّ حمل السلاح عن طريق تصميم "أرجيلة – شيشة" على شكل بندقية، أو مصنعة من بنادق حقيقية.

وتعد تكساس من أسهل الولايات من حيث سهولة الحصول على كل أنواع الأسلحة المسموح ببيعها، ومنها بنادق آلية ونصف آلية. وشهدت ضاحية سنتافي المجاورة لهيوستن في شهر مايو/أيار الماضي حادثة إطلاق نار بمدرسة ثانوية، قام بها أحد طلاب المدرسة ونتج منها سقوط عشر ضحايا وعشرات المصابين. وتعد تلك الحادثة الـ22 من حوادث إطلاق النار في المدارس الأميركية منذ بداية هذا العام، والطالب الذي اقترف هذه الجريمة سبق فصله لسوء سلوكه، وقد تمكن من اقتناء السلاح الناري بطريقة شرعية، على الرغم من خضوعه سابقاً للعلاج في مستشفى خاص بالأمراض النفسية. وتشير إحصاءات حديثة إلى امتلاك 37 في المائة من مواطني تكساس أسلحة نارية، وهي نسبة تزيد باثنتي عشرة نقطة عن نسبة ملكية السلاح على المستوى القومي الأميركي.



يطلق اسم الكاوبوي على فريق مدينة دالاس لكرة القدم الأميركية، ويعد النادي أغلى الأندية الرياضية في العالم بقيمة سوقية تتخطى أربعة مليارات دولار، ويتفوق النادي على عمالة كرة القدم الأوروبيين مثل برشلونة أو ريال مدريد الإسبانيين، مانشستر يونايتد الإنكليزي أو بايرن ميونيخ الألماني، أو باريس سان جيرمان الفرنسي أو يوفنتوس الإيطالي. وتعرف دالاس وبقية مدن تكساس انتشار ألعاب ومهرجانات وسباقات رعاة البقر، في محاولات جذابة لاستدعاء التاريخ القريب. وتتضمن هذه العروض ركوب الثيران، والخيل والسيطرة على الأبقار والخيل الهائج. ويرتبط بثقافة الكاوبوي إيمان راسخ لدى جمهورها بقدسية حق امتلاك السلاح. وبسبب وفرة البراري والمراعي الطبيعية في أنحاء تكساس، ازدهرت مهنة رعاة البقر، إلا أن كبر المساحة تصعب معه السيطرة على الماشية بالطرق التقليدية، لذا نجد استخداماً متزايداً لطائرات الهليكوبتر لإحصاء الماشية، وإنشاء قواعد بيانات لها، واستخدام تكنولوجيا "جي بي أس" لتحديد أماكن تجمع وحركة قطعان الماشية من البقر والثيران.

ويمارس رعاة البقر في أوقات فراغهم رياضة "الروديو" أو ترويض الخيول. وبدا من خلال إحدى الفعاليات خارج مدينة دالاس، خصوصاً من طريقة كلام الحضور ونوعية ملابسهم، ولحملهم بعض الأسلحة النارية، إضافة إلى طبيعة الرسومات على أجسادهم، إيمانهم الكبير بالرئيس دونالد ترامب وسياساته تجاه المهاجرين وتجاه قدسية حق حمل السلاح، إضافة إلى تساهله في التعامل مع البيئة الخضراء من مزارع وغابات.

وعلى بعد 30 كيلومتراً من مدينة دالاس تقع مدينة فورت وورث، وهي المدينة التي تحتضن السوق التاريخية لتجارة الماشية في الجنوب الأميركي. وتعد المدينة متحفاً تاريخياً حياً يعكس خصوصية المدينة التي تعتبرها الأدبيات الأميركية نقطة بداية الغرب الأميركي بما يحمله من روح المغامرة، والسعي إلى تحقيق الثروة. وتتحرك قطعان الماشية المكونة من مئات الأبقار والثيران مرتين يومياً، مخترقة شوارع المدينة وينتظرها بلهفة آلاف السياح والمواطنين للحصول على لقطة تاريخية تعود بك إلى نهايات القرن الـ19.

في النهاية، كل شيء كبير وضخم في تكساس بداية بسياراتها ووجباتها وطرقها السريعة، والأهم طموحاتها. ومع تغير الولاية في كل الاتجاهات، ومع استقبالها أكثر من مليون شخص من مهاجري الخارج ومهاجري الداخل الأميركي كذلك، لا يمكن توقع ما تحمله أجندة تكساس وتفضيلاتها السياسية خلال الأعوام القليلة المقبلة.