ربيع فلسطيني

26 يوليو 2014

فلسطينية في غزة أثناء الانتفاضة الأولى (يناير/1988/أ.ف.ب)

+ الخط -

من بين تساؤلاتٍ أساسيةٍ، رافقت أحداث الربيع العربي، ولا يمكن تجاهلها، تخلف الفلسطينيون عن ركب قطار الاحتجاجات والانتفاضات في دول الربيع العربي. فعلى الرغم من السجل النضالي الثري للفلسطينيين، فإنهم لم يركبوا هذه الموجة العارمة، لينتفضوا مجدداً ضد الاحتلال.

وقد تميزت حركة النضال الفلسطيني بنموذجين أساسيين: النضال من أعلى، عبر الجهود الدبلوماسية والإقناع والتعبئة دولياً، والنضال من أسفل عبر الانتفاضة (الأولى والثانية). وإذا كانت الحركة النضالية، في السابق، قد تميزت باعتماد العمل السياسي على الانتفاضة، لتحقيق بعض المكاسب، كما حدث في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، فإن قيام سلطةٍ فلسطينيةٍ، جعل العمل السياسي محافظاً، بمعنى أن السلطة لا تحتكم إلى الشارع، بالاعتماد عليه، لانتزاع تنازلاتٍ من الخصم.

وقد تأكد هذا في خضم الأشهر الأولى من أحداث الربيع العربي. ففي وقتٍ استعادت فيه شعوب عربية زمام المبادرة، لبناء مستقبلها بيدها، انتهج الفلسطينيون مسلكاً مغايراً لمسار الربيع العربي، ولم ينضموا إليه، على الرغم من أنهم أحوج الشعوب العربية إلى مثل هذه الانتفاضات العارمة، بحكم قبوعهم تحت الاحتلال منذ عقود.

يمكن تفسير هذا "الاستثناء الفلسطيني" بعاملين أساسيين. تبعات عملية أوسلو والصراع الفلسطيني البيني. حتى اتفاقات أوسلو، كان النضال الفلسطيني تحكمه جدلية الداخل والخارج، بتأرجح ثقل النضال بين الأراضي المحتلة والشتات. وبعد اتفاقات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، انتقلت العملية النضالية إلى جدلية الأعلى والأسفل.

ذلك أن وجود سلطة فلسطينيةٍ أوجد هذه العلاقة الأفقية التي لم يتعود عليها المشهد الفلسطيني، وبالتالي، فالتحرك النضالي قد يصطدم بهذه السلطة، وهذا ما حدث فعلاً، قبل أن يصطدم بالاحتلال، خصوصاً وأنها سلطة قائمة في ظل الاحتلال. وتعد الانتفاضة الثانية التحرك الشعبي الوحيد لاسترجاع زمام المبادرة، منذ اتفاقيات أوسلو.

إلا أن هذه الانتفاضة لم تنجح على هذا الصعيد. فمع تثبيت المؤسسة/النظام السياسي الفلسطيني الناشئ، على الرغم من هشاشته وانكشافه، في مواجهة "الشارع الفلسطيني"، وتحول الخلاف بين فتح وحماس من صراع حول سبل إنهاء الاحتلال إلى صراع حول السلطة في ظل الاحتلال، انتكست التقاليد التعبوية الفلسطينية، وأصبح التغيير في فلسطين من الأعلى فقط، في ظل حكومتين متصارعتين في الضفة والقطاع.

فكان أن تكرس الانقسام الجغرافي سياسياً. وبلغت درجة الاستقطاب بين الطرفين مستوياتٍ عاليةً، جعلت التعبئة الشعبية، بعيداً عن الفصائل المتناحرة، أمراً صعباً، إلى درجة أن الاحتلال لم يعد معياراً للتموقع، وإنما المواقف من الأطراف الفلسطينية المتناحرة.

وبالتالي، لم يعد ممكناً للشعب الفلسطيني أن يسترجع زمام المبادرة، ويحمل مطلب التغيير المزدوج: تغيير النظام الفلسطيني الناشئ (برأسيه وبانقساماته)، وتغيير واقع الاحتلال. ومن ثم، وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام عقبتين، يصعب عليه تجازوهما في الوقت نفسه. وهنا، يمكن الحديث عن نقاط تقاطع، غير مقصودة بالضرورة، بين الاحتلال والانقسام بين فتح وحماس. بمعنى أن للأطراف الثلاثة مصلحة في تفادي ربيع فلسطيني.

ومن هنا، فإن تأجيل الربيع الفلسطيني يعود، أيضاً، إلى حسابات سياسية، تجعل النظام الفلسطيني الناشئ (برأسيه) تسلطياً، شأن الأنظمة العربية التسلطية. وبما أن الشعب الفلسطيني يواجه عقبتين، كما قلنا، فإن أي "ربيع فلسطيني" ستكون معركته على جبهتين. الأولى، توحيد الصف الفلسطيني، وجمع شمل التيارات المختلفة، وأبناء الشعب الواحد. والثانية، الضغط شعبياً على إسرائيل، لإجبارها، في نهاية المطاف، على الانسحاب.

ومن هنا، يمكن القول إن الانقسام الداخلي حال دون – وإن لم يكن العامل الوحيد – "الربيع الفلسطيني". ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين الفرقاء السياسيين على تفادي أي احتجاج شعبي على نمط الربيع العربي، لأنه سيأتي، لا محالة، على السلطة الحالية، برأسيها في غزة والضفة، فضلاً عن واقع الاحتلال. فالغضب الشعبي الجارف إن انفجر سيأتي على السلطة المحلية، وعلى سلطة الاحتلال، وأيضاً، على التوظيف العربي للقضية الفلسطينية. ومن ثم، فإن كل هذه الأطراف، على الرغم من تناقضاتها، مستفيدة من الوضع القائم (تأجيل ربيع فلسطيني).

لكن، هل ستغير حرب غزة في طبعتها الجديدة (2014) من هذه المعادلة؟ ليست الإجابة عن هذا السؤال أمراً هيناً، لكن انتفاضة الفلسطينيين المحدودة في القدس والضفة المناصرة لأهل غزة تشير إلى بداية نهاية الإذعان الاجتماعي للانتماء السياسي المفروض من الفصائل الفلسطينية المتناحرة، وإلى بداية التلاحم العضوي شعبياً. بيد أن هذا المشهد مرهون بأمرين أساسيين. أولهما هامش المناورة الذي يتمتع به الفلسطينيون، أو الذي سينتزعونه من التيارات السياسية السائدة من جهة، وتطورات الحرب على غزة من جهة ثانية.

وربما ما يزيد الأمور تعقيداً، كما قلنا، مسألة الولاء لتياراتٍ بعينها، وليس للقضية الفلسطينية. فبسبب التناحر البيني، فإن أطرافاً فلسطينية تعتبر أي نصر لحماس بمثابة هزيمة لها، وكأن الصراع البيني أصبح صفرياً، وكأن المواجهة مع الاحتلال لا تخصُّ كل الفلسطينيين.

أليس قدوم ربيع فلسطيني، عبر انتفاضة ثالثة، السبيل للخروج من مأزق التناحر البيني ومن الصراع الثنائي القطبية (حماس-إسرائيل) بإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح: إنهاء الاحتلال.