يحدث في "الجامعة الأميركية في بيروت" ومستشفاها "العريقين" ما يحدث اليوم في بلدٍ منهارٍ. الموت فتّاك، يُصيب أفراداً ومؤسّسات، ويعطب أخلاقاً، ويُزوّر وقائع لمصلحة مال وسلطة. فسادٌ مستشرٍ، وهدر غير موصوف، وسوء إدارة قاتل. لكنّ الثمن تدفعه عاملات وعاملون، وإنْ يُحسَب بعضهم على قبائل وطوائف ومذاهب، تريد لهؤلاء وظائف ورواتب من دون عملٍ، والإدارة اللبنانية الأخيرة للجامعة منصرفة إلى فسادٍ وهدر وتشبيح. مئات المطرودين مؤخّراً من الجامعة ومستشفاها يُكملون مشروع إلغاء البلد واجتماعه وناسه. الشوارع تتّسع للمنبوذين. القبر واسع. الخراب يفتح مزيداً من الدروب إلى الجحيم.
يحدث في الجامعة ومستشفاها اليوم ما يُذكِّر بتاريخٍ وحراكٍ. الاجتماع اللبناني معروفٌ بغليان طلاّب وشباب وعمّال قبل اندلاع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990). كلّ تقدّم، وإنْ يكن طفيفاً، يحصل بعد عراكٍ ومواجهات وتظاهرات وغضب. مؤسّسات تلجأ إلى رجال أمن وعسكر، وطلاب وشباب وعمّال يتمسّكون بحقّ وحرية وسعي إلى حقوق مشروعة ومطالب محقّة. مؤسّسات فاسدة تحتمي برجال أمن وعسكر لتُحصّن فسادها من الانكشاف، وطلاب وشباب وعمّال يكسرون حاجز الخوف، ويتحدّون بطش السلطة وحقارة المؤسّسات، ويحصلون أحياناً على مرادهم، فتَنَانين المال والأمن والسياسة والاقتصاد أقوى من أفرادٍ يحملون كتاباً أو منجلاً أو آلة عمل.
يحدث في الجامعة ومستشفاها اليوم ما يُحيل إلى وثائقيّ متخيّل، يُعيد تركيب لحظةٍ تاريخية بأدوات سينمائية، لتوثيق ذاكرة وبثّ تفاصيلها أمام راهنٍ يشهد خرابه منذ سنين. عام 2013، يُعرض "74، استعادة لنضال" لرانيا ورائد الرافعي (كاتبا السيناريو). فيلمٌ خارج كلّ تصنيف شكليّ. الوثائقي حاضرٌ والمتخيّل طاغٍ. الحكاية حاصلةٌ قبل 40 عاماً (عند إنجاز الفيلم)، يجعلها الفيلم نواة درامية لسرد موثَّق عن علاقة أفرادٍ بمؤسّسة: عام 1974، خلال 37 يوماً في شهري مارس/ آذار وإبريل/ نيسان، يتمرّد طلابٌ على قرار إدارة "الجامعة الأميركية في بيروت"، القاضي بزيادة الأقساط بنسبة 10 في المائة. يحتلّ هؤلاء بعض مكاتبها، مدعومين من زملاء لهم. نبأ التمرّد ينتشر في مدينةٍ تعيش غلياناً يُريد تحرير البلد من منطق الفندق، لجعله وطناً.
هذه نواة الحبكة. هذا جوهر النصّ. الحكاية أبعد من هذا وذاك، وأوسع وأشمل وأهمّ. الحكاية تُصيب مدينة وبلداً، وتقول إنّ مواجهة تنانين المال والسلطة واجبٌ وقدر. الحراك ممتدّ في متاهات بلدٍ واجتماعٍ، فيصطدم بحيتانٍ تُعنى بنفوذ وسلطة ومصالح. رانيا ورائد الرافعي يُعيدان صوغ المشهد القديم بلغة راهنة. يتعاونان مع شابات وشبانٍ (نسيم عرابي ونزار سليمان وريتا هدرج وأسعد ذبيان ويُسري الشامي وساندرا نجيم ومعروف مولود) لتمثيل الحدث، فيظهر هؤلاء كأنّهم يعيشون الحالة بدلاً من تمثيلها وتقديمها. عام 2013 وما قبله بقليل (فترة الاشتغال على صناعة الفيلم، بدءاً من عام 2011) تُشبه أعوام ما قبل اندلاع الحرب الأهلية. خرابٌ يتطلّب مواجهة، وقمع يفرض تحدّيات، ومؤسّسات تحتمي برجال أمن وعسكر تدفع مدنيين ولاعنفيين إلى مقارعة التنانين بشتّى الوسائل السلميّة، وإنْ يكن الغضب والتوتّر عصب المقارعة.
"74، استعادة لنضال" يُشاهَد اليوم بعينٍ أخرى لن تحول دون تبيان جمالياته الفنية وسرديته الأخلاقية وحيويته الإنسانية. طالبات وطلاّب غير آبهين إلّا بحقّ لهم في علمٍ، يجب ألّا يقف المال عائقاً دون بلوغه. رفضٌ يؤدّي إلى مواجهة واحتلال مكاتب ونقاشٍ غير منتهٍ عن لحظة وما بعدها. الصُور تقول ما تصمت الشابات والشبّان عن قوله. في أروقة الجامعة، يريد هؤلاء كتابة فصلٍ من تاريخ بلد وناس، رغم الوحش الفاتك بهم. يحدث اليوم، في الجامعة ومستشفاها، ما يُفترض به أنْ يُثير غضباً وتوتّراً يؤدّيان إلى احتلال مكاتب وأروقة ودهاليز لمنع استكمال الجريمة المنظّمة بحقّ شعبٍ، رغم أنّ غالبية الشعب صامتة وخانعة وراضية إكراماً لزعيم قبيلة ورئيس طائفة وسيّد مذهبٍ.
جماليات الفيلم متنوّعة. تصوير (نديم صوما) يرافق الشخصيات في مساراتها ومصائرها، واضعاً المكان في صدارة المشهد، كأنّه شخصية أساسية في البناء الدرامي. التوليف (رانيا الرافعي) يُكمل مهمّة التصوير، فله دور في تكوين الحكاية عبر صُور وتقطيع وكادرات. النقاش مهمّ. المناخ الدرامي والواقعي يجمع بين ذاكرة وراهن.
هذا كلّه دافعٌ إلى تساؤل عن خواء حاصل في راهن بيروت. أفرادٌ قليلون يلتقون في اعتصام أو تظاهرة، احتجاجاً "شبه" صامت وسط ضجيج آلياتٍ تحمي فساداً، وفقراء يمنعون فقراء من مقارعة وحوش المال والسلطة.
"74، استعادة لنضال" يُفترض به أنْ يُعيد إلى بيروت اليوم بعض بهاء قديم لها، إنْ تكن للسينما قدرة التحريض على حراكٍ أو تساؤلات أو نقاش.