(1)
الكون قفل فجأة سابني في العدم واقف
نهر الشوارع فضا، نهر البشر ناشف
يا أمي حق البُكا يبقى حزام ناسف
يطبق الأرض زي التوب حيطان وأثاث
(2)
دخان ونار كحِمم البراكين، ومعادن ملتهبة تتطاير للاختراق والحصد، روائح مكثّفة إن كان لديك الوقت ستصنّف كنهها، فهي دماء مخلوطة بحريق ولحم وغاز ومطهّرات طبية..
تسمع صرخات مدوية ولا ترى، وهمهمات ولا تعي، واستغاثات يائسة متمسكة بالحياة، ربما لشخص هنا أو طفل، ربما الأرض تنوء بوجعها وضربات البيادات فيها..
"رابعة" المذبحة غيّرت فينا ما لم يُغيّره زماننا، ضربت في عمق نفوسنا أوتاد الوجع والقهر وتسمّر القلب أمام الفاجعة الكبرى، وبقيت مرارة التحسّر والرثاء في حلوقنا تمنعنا من النسيان!
إن صمود "رابعة" كان دائماً شعاراً أجوفاً وأخرقاً فلم يصمد منها أحد، هي المجزرة والمذبحة والمقتلة والمحرقة، الكلّ يعرف ذلك الكلّ أكلته النيران والجرافات وآلات القنص وبَقيت الحواس بما عاشته وماتته وصورته وبقينا!
(3)
نحيلٌ ذلك الصغير بِطلّته البريئة ووجهه الخائف المُغرق في الدموع، ويداه تعتصران وجهه ألماً، وصوته يصرخ باكياً بآهة: "اصحي يا ماما بالله عليكي.. ماماااااا"، نظراته زائغة غير مصدقة موت أمه النازف كأنه نوم، لم يدرك بعمره الذي لم يتجاوز العشرة أعوام أنها غارقة في الموت.
بماذا كان يفكّر "رمضان"، ذلك الصغير، وماذا فكّر بعدها؟ ما الذي راود عقله وهو يصرخ بها أن اصحي؟ ربما كانت تمازحه كما تفعل كل أمّ ثم ستقوم لتركض خلفه وتأخذه في حضنها، ربما هي تعبة أو منهكة سترتاح قليلاً ثم تنهض، أو ربما هي نائمة ويريدها أن تستيقظ لأنه يحتاجها، هو وحده يملك الإجابة..
لكن هل ستُجيبه العدالة حول حق مقتل أمه وأنه لم يصله إلى الآن؟!
هو كطفل راح يُفرح أمه بنجاحه هذا العام في الشهادة الابتدائية بتفوّق، قد يأتي هو بحقها يوماً ما.
(4)
ضحوك هو ورفيق بمَن حوله، ابتسامته لا تبارح مخيلتك وصورته تجبرك على تأمل قسماته، تبحث عن الشهيد فيها فتجده يقبع خلف ملامحه الهادئة ثقةً وعزماً على نيل حلمه.
لم يكن "أبو عبيدة كمال نور الدين" قد أنهى آخر عام له في كلية الهندسة بعد ليفاجئ شهود المذبحة وأصدقاء ثورته بحصوله على شهادة التخرّج الأسمى من الدنيا.
ولأن مكانته في قلوب أحبته كبيرة، فجعل الله من قيمته أكبر للتاريخ والحقيقة وتبرئة لثلّة من المظلومين المذبوحين، فرغم اختفائه ثلاثة أيام وانقطاع أي اتصال به، وبعد بحث مضنٍ ظهرت جثته في فيديو مضلّل بأنه أحد ضحايا الإخوان المقتولين على أيديهم تحت المنصة منذ أيام بعيدة، ليكون هو بجثمانه صفعة على وجه آلة الإفك المبين وإظهاراً للحقيقة الصادمة أنه كان حياً قبل المذبحة بيومٍ واحدٍ يسجل وصيته بالفيديو ثم شهيداً على أيدي جزاري الداخلية والعسكر المصري، ودمه ما زال حياً ساخناً!
وصيته المرئية والورقية كانت تحمل ضحكته القريبة ذاتها، وتربيتاته الحانية ذاتها، وأمنياته المؤجلة.
(4)
إنسان بسيط خدوم، وبساطته كانت سره الأبدي، "محمد علي مبارك" لم يترك مصاباً أو شهيداً مستقبلياً إلّا وساعد في نقله وإغاثته على موتوسيكله الخاص أو الإسعاف الطائر، حتى كان ذلك سبب استشهاده، أراد الله أن يأخذه إليه وهو في خضمّ إغاثته وإنقاذه للمصابين ليُبعث على صنيعه.
محمد شارك قلباً وقالباً في الأيام الـ18 لثورة يناير، وكان هناك في موقعة الجمل يحارب الجمال فعلياً ويمنعها عن المعتصمين بميدان التحرير، كما شارك بنقل المصابين في جميع الأحداث خلال حكم المجلس العسكري وحتى مذبحة رابعة، ولما اختفى ابنه الأكبر أثناء المجزرة راح يبحث عنه في اليومين التاليين لها، فكانت أحداث رمسيس الثانية، ولما وجد نفسه وسط التظاهرات المصاحبة للإصابات الدامية آثر بحثه عن فلذة كبده لينقذ المتظاهرين، فرجع محمولاً على المحفّة يلفظ أنفاسه بطلق ناري في الصدر بحجم خيبة وطن.
ورغم بساطته وبُعده الإنساني إلا أن لهذا البُعد عمقاً ذا جلالة، فمحمد كان يحتفظ بكل ملبس أغرقه دم المصابين في كل الأحداث على مدار الثورة شاهدةً على جرائم العسكر، لم يكن ليغسله من الدماء وإن ساوموه بغالي الثمن، لقد كان يعلّقها على جدران منزله، حتى كان آخر ملابسه التي أغرقتها دماؤه ولقي بها ربه شاهداً وشاهدةً على ما كان غيلةً للثورة والثوار.
(5)
يُصرّح بتأكيدٍ متعجرف أن قرار الفضّ ـ المجزرة وما تلاه من اعتقالات "آلافية" هو القرار الأمثل والصائب بغير ندمٍ لحماية الدولة!
كان هذا تصريح وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم، حيث أطلق رجاله بسُعار مجنون يقتلون ويعتقلون ويفتكون بكل من له رائحة معارضة!
يعلمون أن لا قانون أو قضاء أو عدالة ستربك مشهد جرائمهم، فيتمادون سحقاً، وأنهم أسياد الحساب والأحكام والعقوبات المغلّظة فينتشون تألّهاً.
(6)
يا أمي يحيا الحزام الناسف العادل
يا أمي بيسوّي بين القتلى والقاتل
يا أمي ويريح الاتنين من الباطل
ويشرّب اللي سقونا المُر نفس الكاس
*الأبيات في (1) و (6) للشاعر تميم البرغوثي
راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk