رئيس الظل في البيت الأبيض: ملهمو ستيف بانون وشياطينه

17 فبراير 2017
يتضخّم دور بانون مع تعيينه عضواً بمجلس الأمن القومي(Getty)
+ الخط -
يمكن بسهولة تصنيف كبير استراتيجيي البيت الأبيض، ستيف بانون، باعتباره سياسياً عقائدياً، يملك رؤية واضحة تماماً لما يُحب ويكره، مدفوعة برؤية دينية حاول رسمها كنظرية سياسية في صعود وانهيار الأمم. يتشكّل عالم بانون من أفكار صلبة، يحتلها أخيار وأشرار، و"أفكارنا وعقائدنا" في مقابل "أعدائنا الذين يريدون تدميرنا" فهنا لا تبدو أنصاف الحلول مقبولة أبداً، إما أن "نُدمِّر أو نُدمَّر".
ويعود الحديث عن بانون للواجهة من جديد، بسبب تضخّم الدور الذي يقوم به في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خصوصاً منذ تعيينه عضواً في مجلس الأمن القومي. فالإعلام الأميركي الليبرالي أو بحسب تعبير بانون "حزب المعارضة"، يكاد يعتبر كبير استراتيجيي البيت الأبيض، ومحرر "بريتبارت" السابق، الحاكم الفعلي للولايات المتحدة. فقد وصف محللون تعيين بانون عضواً في مجلس الأمن القومي بالخطوة "غير المقبولة"، وقيل لاحقاً إن ترامب نفسه لم يكن واعياً لها. وتأتي الإشارة إلى عدم وعي ترامب بالتعيين، لتضخيم دور بانون في إدارة ترامب، على الرغم من عدم وجود دليل على هذا الزعم.
لكن بعيداً عن المبالغات باعتبار بانون "الرجل الثاني" في إدارة ترامب، الوصف الذي يصعب إطلاقه في ظل وجود أشخاص أقوياء محيطين بترامب، مثل وزير الدفاع جايمس ماتيس، أو نائب الرئيس مايك بينس، والذي إن لم يكن بقوة بانون أو ماتيس، إلا أنه يملك خبرة سياسية، باعتباره جزءاً من النخبة "الاستبلشمنت" في الحزب الجمهوري، ما يجعل انفراد بانون بقرارات إدارة ترامب، مستبعداً، وقد يُغضب "جمهوريي الكونغرس" على الرئيس. ومن الواضح أن تعقيدات الإدارة الأميركية محكومة بتفاصيل تتجاوز ما يريده ترامب أو بانون، كما في استقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين بسبب علاقاته مع روسيا وكذبه على بينس.

أيديولوجيا صلبة
لستيف بانون سيرة مثيرة للاهتمام، فهو حاصل على الماجستير من جامعة جورج تاون بعد تخصصه في دراسات الأمن القومي، كما نال الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفرد. وهو على الرغم من عدائه لنُخب وول ستريت و"الاستبلشمنت" عمل في غولدمان ساكس، كما خدم قبلها في البحرية الأميركية لسبع سنوات.
ما لا يعرفه الكثيرون عن ستيف بانون أنه "صانع أفلام"، كتب وأخرج عدداً كبيراً نسبياً من الأفلام الوثائقية، والتي تحمل عنواناً واحداً، صارخاً، هو "أشباح ستيف بانون" إن صح الوصف. إذ توجد خيالات ملهمي وشياطين بانون في كل إنتاجه السينمائي الوثائقي، والذي يُصنّف بالرديء فنياً، لكنه مُحمّل بأيديولوجيا صلبة ومباشرة حاول ترسيخها خلال ما يزيد عن عقد من الزمن.
أما ملهمو بانون، فهم "نحن"... الأميركيون الأوائل، الباحثون عن الحرية، المؤمنون بالرأسمالية كما يجب أن تكون، الذين يستلهمون عاداتهم وتقاليدهم من العائلة، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل. ملهمو بانون هم خصوم شياطينه. رونالد ريغان الذي صعد بصورة مفاجأة وغير متنبأ بها، ليهزم المد الشيوعي والاتحاد السوفييتي. وسارة بالين، حاكمة ألاسكا المؤمنة بأفكار "حزب الشاي" التي تدعم الرأسمالية الاقتصادية، والمحافظة الاجتماعية، والأهم من ذلك كله معاداة "الإستبلشمنت" في واشنطن.

أما شياطين بانون، فهم أكثر وضوحاً، وربما كلاسيكية. فنُخب وول ستريت والرأسمالية "الحمائية" المضمونة من نُخب واشنطن هم أشد أعداء بانون، والذين هم بالضرورة أعداء أميركا. إضافة إلى الإعلام الليبرالي، والأيديولوجيات الشمولية، والتي تضم النازية، والشيوعية، وبالتأكيد ما يراه بانون امتداداً لها، أي "الإسلام". وهنا تأتي أطياف زعيم "القاعدة" الراحل أسامة بن لادن وزعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وفلاديمير لينين وجوزيف ستالين. إضافة إلى الإستبلشمنت في الحزب الجمهوري، والذي يعتبر أنه بدأ بالانحدار منذ عهد جورج بوش الأب، ولا شيء منذ ريغان يوحي بتقدّم.

التاريخ باعتباره اضطهاداً للمسيحيين
في آخر أفلام ستيف بانون "حامل الشعلة" أو "Torch Bearer"، وهو من إنتاج 2016، يستعين بانون بنجم تلفزيون الواقع الأميركي فيل روبرتسون، مؤسس شركة "ديوك كومندور" للصيد، والذي استلهم من قصة حياته باعتباره صياداً محترفاً، نشأ نشأة صعبة في خمسينيات القرن الماضي في ولاية تينسي، وأسس برنامج تلفزيون الواقع الذي يتحدث فيه عن عائلته "سلالة ديوك".
يسطّر بانون في "حامل الشعلة" رؤيته المختصرة للتاريخ. منذ قصة الخلق التوراتية، حتى ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) و"بوكو حرام". يسرد بانون رؤية مبسطة للعالم، تقدّم التاريخ باعتباره سلسلة من الاضطهادات التي يواجهها المسيحيون، فينتصرون تارة إذا تمسكوا بـ"دينهم" و"تقاليدهم" ويُهزمون إذا نبذوا معتقدات آبائهم و"ابتعدوا عن الله". وهنا يصبح السارد، فيل روبرتسون، وارث التقاليد المسيحية/ الأميركية العريقة. وهنا من المهم الإشارة إلى الهجوم الإعلامي على روبرتسون في 2013 بسبب اعتباره زواج المثليين "خطيئة"، ما كلفه الخروج من برنامج الواقع الذي أسسه.


يسرد فيل روبرتسون في فيلم بانون صراع الخير والشر الأول في "قصة الخلق" ثم ينفذ سريعاً ليتحدث عن صراع قصة الخلق التوراتية في مقابل نظرية التطور الداروينية، ليحط رحاله في "محاكمة القرد" التي شهدتها ولاية تينسي، مسقط رأس روبرتسون نفسه، حيث تمت محاكمة مدرّس العلوم جون توماس سكوبس بتهمة مخالفة قوانين الولاية وتدريس نظرية داروين. هذه القصة لا يتطرق إليها بانون بصورة عبثية، لإعلان رفض نظرية داروين، لكن لغاية أهم، وهي ترسيخ عداء الإعلام الأميركي لـ"الله" منذ البداية. إذ يفصل بانون في الفيلم ما يراه هجوماً إعلامياً على المتدينين، منذ ذلك الوقت.

لكن هذا جزء ضئيل من القصة. إذ يعود بانون لاضطهاد المسيحيين عبر التاريخ على يد الإمبراطورية الرومانية، والتي لم تزدهر إلا بعد أن تبنّت المسيحية. وإلى الثورة الفرنسية، والتي لم تكن سوى مواجهة مع الله، عندما أبدلت مصدر الحقوق، لتكون "الأمة" لا "الله"، بينما يؤكد روبرتسون أن السياق الأميركي، والدستور الأميركي مختلفان، فالحقوق مصدرها "الله" لا "الأمة".
الصراع ضد القيم المسيحية مستمر، وفق الفيلم، من الرومان والثورة الفرنسية، إلى الشيوعية والاتحاد السوفييتي. لكن ينبهنا روبرتسون، أو ستيف بانون، إلى وريث هذه الجرائم، أي "الإسلام"، كما يورد في الفيلم. هو لا يتحدث عن الإسلام بصورة مباشرة، لكنه بعد سرد كل تلك الفظائع المرتكبة ضد المسيحيين على مر التاريخ، يقدّم تنظيم "داعش" بصورة لم يرها أحد من قبل. فالتنظيم ما هو إلا أداة لقتل المسيحيين في الشرق الأوسط. يضع بانون مقاطع قتل التنظيم لسنّة وعلويين وشيعة، باعتبارهم ضحاياه المسيحيين. وفي الإطار ذاته يضع عمليات بوكو حرام في نيجيريا، فهي ببساطة جرائم ضد المسيحيين.
الصورة الوحيدة الحقيقية في ما سرده بانون، هي المذبحة التي ارتكبها تنظيم "داعش" ضد الأقباط في ليبيا، لكنه لا يكتفي بهذه الحادثة، بل يصور حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وتصفية التنظيم لسوريين مسلمين بتهم العمالة للنظام، باعتبارها جرائم ضد مسيحيين يطالب بالتدخّل لإنقاذهم.

يبني بانون في هذا الفيلم على "كراهيات" المجتمع الأميركي التقليدية. فيربط قبول الداروينية بالقبول بالممارسات النازية، المتجسدة في قتل المرضى والمعاقين والضعفاء. وينتقل من هذا المحور فيربط الشيوعية بالنازية، ثم يربط الإسلام بهاتين الأيديولوجيتين الشموليتين، ليكون رفض الإسلام جزءاً من هذا الرفض الديني/ التاريخي للأعداء التقليديين للمجتمع الأميركي.


أبطال بانون

في 2004، كتب وأخرج ستيف بانون فيلم "في وجه الشر" أو "In the Face of Evil" ليسرد قصة أهم ملهميه، الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان. يمثّل الأخير من وجهة نظر بانون البطل المثالي. فهو من خارج نخب واشنطن "الإستبلشمنت" ومعادٍ لها. وهو من أشد أعداء الشيوعيين ومن تسبّب في انهيار الاتحاد السوفييتي من خلال مواجهة شاملة، ضمت الدين، والاقتصاد، وإشعال سباق تسلح أنهك موسكو. ريغان لا يهتم بالرأي العام، ولا يبالي بـ"النخب الليبرالية الإعلامية" في واشنطن. جاء من خارج مؤسسات الحزب الجمهوري التقليدية، إذ كان ديمقراطياً في بداية حياته. ولم يكن سياسياً أصلاً، بل ممثل في هوليوود.

كل هذا السياق، يجعل ريغان في نظر بانون أهم شخصية أميركية، يجب أن تُستلهم اليوم، في ظل ما يراه أزمة في أميركا. لكن الفيلم يأتي قبل عصر ترامب، فإنتاجه في 2004 يجعل فكرة ترشح ترامب للرئاسة غائبة تماماً.
لكن كيف يختم بانون فيلمه عن ريغان وهزيمته للشيوعية؟ يسلط بانون الضوء على إعادة الدين إلى الفضاء العام في جمهوريات الاتحاد السوفييتي بعد تفكك الاتحاد، ومع عودة الدين، المسيحية، يبرز عدو جديد يواجه العالم المسيحي، بعد الشيوعية، وهو الإسلام. فتظهر تسجيلات أحداث 11 سبتمبر/أيلول جنباً إلى جنب مع صور انهيار جدار برلين. وصور أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في سياق صور لينين وستالين. وكما أن ريغان هزم الشيوعية، وسمح للمسيحيين بالعودة لممارسة حريتهم الدينية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي، ينتظر بانون من يهزم الإسلام، ويسمح للمسيحيين بممارسة دينهم في "الشرق الأوسط"!



في فيلم "undefeated" يتناول بانون صعود أبرز وجوه حزب الشاي في أميركا، سارا بالين. منذ بدياتها السياسية في ولاية ألاسكا، حتى مرافقتها المرشح الجمهوري السيناتور جون ماكين، باعتبارها مرشحة لمنصب نائب الرئيس في انتخابات 2008 التي خاضتها بالين مع ماكين ضد باراك أوباما وجو بايدن. في هذا الفيلم، وهو من إنتاج 2011، يركز بانون هجومه على نوع آخر من شياطينه، إنهم شياطين الداخل الأميركي، في وول ستريت، ولوبيات النفط، والإعلام الليبرالي، والإستبلشمنت في واشنطن.
يضع بانون تشويه الإعلام لبالين أثناء حملة ماكين الانتخابية، وجهاً لوجه مع أعمالها المهمة للمواطنين الأميركيين العاديين في ألاسكا. فبالين، في عين بانون، هي البطل المثالي، من عامة الشعب، ومن خارج الأطر الحزبية الأميركية التقليدية، وكانت تعمل بصدق ونزاهة لخدمة الأميركيين وحققت نقلة نوعية في حياة سكان الولاية.
أما لماذا هُزمت بالين (مع ماكين) في انتخابات 2008؟ إنه الإعلام الليبرالي الذي شوه بالين. والإستبلشمنت في واشنطن الذين لم يريدوا أن يصل إلى السلطة من ينتزع منهم امتيازاتهم، خصوصاً عندما يكون هذا القادم أحد ممثلي حزب الشاي، المعادي للنخب السياسية التقليدية. إضافة إلى لوبيات شركات النفط التي تضررت من سياسات بالين في ألاسكا، والتي كانت لصالح المواطنين الأميركيين. أما أهم ما يتجاهله بانون في سرديته عن بالين، وبصورة مثيرة، أن نخب واشنطن نفسها، الحزب الجمهوري، وجون ماكين، هم من اختاروا بالين نائبة للمرشح الجمهوري لمنصب الرئاسة!

شياطين بانون
في فيلمي "Occupy Unmasked" و"Generation Zero"، يتطرق بانون إلى أعداء جدد، في الوقت الذي لا يغيب فيه أعداؤه الأصيلون عن الأنظار. وتحت قاعدة "عدو عدوي ليس صديقي بالضرورة"، يشن بانون هجوماً عنيفاً على حركة "احتلوا وول ستريت" المناهضة لنخب وول ستريت الاقتصادية. فيقدّم الحركة باعتبارها "مؤامرة" ضد أميركا، دولة وقيماً.
في فيلم "كشف حركة احتلال وول ستريت"، يقدّم بانون المتظاهرين الذين انتشروا في أنحاء الولايات المتحدة عام 2011 باعتبارهم جزءاً من حراك يساري منظّم يهدف إلى تفكيك الدولة. فهنا اجتمع أناركيون وفوضويون وهيبيز ويساريون وشيوعيون واشتراكيون بدفع من "الإعلام اليساري" ومنظمة SEIU النقابية لتحرض مجموعة من الفاشلين والشباب المتحمسين للتظاهر، من أجل تعزيز الشرخ بين المواطنين الأميركيين ودستورهم ودولتهم، وفق اعتباره. فاجتمع هؤلاء في حركة "احتلوا وول ستريت" لممارسة الجنس في الشوارع، والتحرش، وتعاطي المخدرات في أماكن التظاهرات والاعتصامات، في سردية تكاد أن تتطابق مع سردية الأنظمة العربية عن التظاهرات التي شهدها العالم العربي في 2011.

أما عدو بانون الأصيل، أي "الإعلام الليبرالي"، فقد تجاهل التجاوزات القانونية والأخلاقية في التظاهرات، وركز على "سلوكيات رجال الشرطة" من أجل اتهام الشرطة باستخدام العنف ضد المتظاهرين. وهنا وبصورة تراجيدية ينقلب موقع ستيف بانون، من معارض للطريقة التي تدار فيها الولايات المتحدة، إلى أبرز المدافعين عن الدولة والشرطة والمؤسسات في وجه اليساريين، المدفوعين بصراخ مايكل مور في الشوارع، والمنحدرين من تقليد "إجرامي" عتيق.
فحركة وول ستريت منحدرة عن سلفها، الحركة المعارضة لحرب فيتنام، والتي كانت منظمة في ذلك الحين من الاستخبارات السوفييتية "كي جي بي". أما ملهم هذا الخط المعارض للدولة فهو سول الينسكي، والذي أدى دوراً محورياً في معارضة الحرب في الستينيات، وتوفى في عام 1972. لا يريد الينسكي بحسب وجهة نظر بانون، معارضة الحروب بل يعارض "الحروب الأميركية، لأنهم يريدون للإمبراطورية الأميركية الانكماش". وهنا يأتي "الرابط العجيب" الذي يربط حركة "احتلوا وول ستريت" بالعصابات الإيطالية-الأميركية في بدايات القرن العشرين. فسول الينسكي الذي يلهم الحراك ضد الدولة من خلال كتابه Rules for Radicals كان مستلهماً لرجل العصابات الإيطالي-الأميركي فرانك نيتي، أحد رجالات آل كابوني، والذي توجّه إلى دعم نقابات العمال واتحاداتهم بعد أن فشلت هذه العصابات في جني الأموال في ثلاثينيات القرن العشرين. فتأسست المؤسسات أمثال مؤسسة SEIU الداعمة لحركة "احتلوا وول ستريت".

أهداف حركة "احتلوا وول ستريت" لا يعرفها المتظاهرون في الشارع، بل يعلمها فقط الواقفون خلف المسرح من بعيد، وفق نظرة بانون. فالهدف ليس المساواة الاقتصادية وإلغاء الأدوار السلبية لنخب دافوس وول ستريت، بل الهدف المطالبة بتدخّل أكبر للدولة، لتقوم بدور أكبر في حياة المواطنين، وعندما تفشل الدولة في توفير الخدمات، سيخرج الملايين من المحتجين الجاهزين للقيام بثورة ضد الدولة. الثورة التي ستوصل الشيوعيين والاشتراكيين إلى الحكم وتنهي النظام الرأسمالي الديمقراطي الأميركي لتقيم مكانه نظاماً شمولياً على غرار النظام الشمولي في الاتحاد السوفييتي، بحسب بانون.

المتظاهرون ببساطة "شيوعيون واشتراكيون وأناركيون يكرهون أميركا والدستور والحرية" هذا ما يريد بانون ترسيخه باختصار. ما يريد نشطاء "احتلوا وول ستريت" القيام به هو تحويل أميركا إلى كوبا وفنزويلا أخرى، من خلال رفع شعارات "مساعدة الفقراء والدفاع عن الأقليات وتدعيم الحريات" إلى مهاجمة الدولة وإسقاط مؤسساتها لإقامة دولة شمولية. ولا ينسى بانون العودة إلى النخب التي يكرهها، طلاب جامعتي ستانفورد وبيركلي، والذين "سمم التعليم أفكارهم". ويتحدث بانون أيضاً في هذا السياق عن حركة "أنونيموس" باعتبارها جزءاً من شبكة ابتزاز خطرة، تريد أن تدمر الحكومة الأميركية ومؤسسات قطاع الأعمال من خلال الابتزاز والتدمير وتسريب الوثائق الحساسة.

أما فيلم Generation Zero، فيأتي أيضاً في سياق صراع الأجيال في أميركا، وجيل الأزمة التي بدأت في 2008 دون آفاق حل، بحسب نظرية وليام شتراوس "الانتقال الرابع" والتي تقسم الأجيال في أميركا إلى دورات كل دورة تستمر 80 إلى 100 سنة وتشمل هذه العقود أربع مراحل متفاوتة تراوح بين "الصحوة" و"الأزمة". وبحسب إيمان بانون بهذه النظرية، فالجيل الأميركي الحالي هو جيل الأزمة، القادم بعد صحوتي بعد الحرب العالمية الثانية وصحوة السبعينيات.
في فيلم "الجيل صفر" يصور بانون المجتمع الأميركي في الستينيات باعتباره مجتمعاً منقسماً بين جيل "بوهيمي" وآخر "ناجح"، لكن الثورة ضد التقاليد في الستينيات نجحت في وصول الجيل البوهيمي والفوضوي إلى دوائر نخب واشنطن ووول ستريت، ما يؤثر في مسيرة أميركا اليوم. وهنا تظهر عبقرية أحد شياطين بانون، سول الينسكي، والذي كان يرغب في الوصول إلى السلطة في الولايات المتحدة من خلال "إفساد المجتمع وإشعال الأزمات". فسعى الينسكي لإنهاك النظام البيروقراطي الأميركي بتشريع قوانين أكبر وأوسع، ما يسبّب عجز وترهل الأجهزة الحكومية، ثم إغضاب الناس، وتدمير الرأسمالية بثورات الجموع. وهنا يعتبر بانون أن من يدير أميركا اليوم، هم الهيبيون في الستينيات، وأن تعاقب الأجيال هذا، ألغى التباينات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فأميركا من وجهة نظر بانون دخلت في مرحلة "حزب سياسي واحد مموّل من وول ستريت" منذ ما بعد حقبة دونالد ريغان.
بل يذهب بانون أبعد من هذا، فيعتبر أن انتعاش الاقتصاد الأميركي في عهد بيل كلينتون لم يكن بسبب صعود اقتصاديات المعرفة وازدهار سوق الإنترنت كما هو رائج، بل جاءت تلك "الفقاعة" بسبب وصول الهيبيين والفوضويين إلى مفاصل الاقتصاد الأميركي، واتخاذهم قرارات متهورة أدت إلى تضاعف الأرباح الاقتصادية بصورة غير معتادة، ما قاد في نهاية المطاف لأزمة 2008 الاقتصادية.

وهنا يتحدث بانون على اعتراضه الأساسي على نخب وول ستريت، والرأسمالية الحمائية، والتي تضمن لنخب وول ستريت عدم الخسارة من خلال التمويلات الحكومية. فنخب وول ستريت تفعل ما تشاء، وتدخل في مضاربات عبثية شديدة الخطورة، بسبب الضمانة التي يقدمها الإستبلشمنت في واشنطن لنخب وول ستريت تحت شعار "لا يمكن أن تخسروا" فأي خسارة اقتصادية ستعوضها خزينة الدولة كما حدث في أزمة 2008. وهنا تأتي دائرة الشياطين في نظر بانون، نحن أمام نظام "اشتراكي للأغنياء ورأسمالي لبقية الشعب"، يجعل أعضاء الكونغرس رهينة في يد لوبيات وول ستريت، حيث النخب تتمتع برفاهية منقطعة النظير بغض النظر عن ربحها أو خسارتها في الأسواق المالية.
ويربط بانون بين زيادة الدين العام في أميركا، وهيمنة وول ستريت، وزيادة طباعة النقود، ومع انهيار الدولة في أميركا على غرار انهيار جمهورية فايمر وصعود النازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي. والمستقبل البشع، الغامض، والذي ينتظر الأميركيين، هو باختصار كما يصوره بانون "واقع" أوروبا اليوم. مع دولة الرفاهة غير القادرة على الدفاع عن نفسها، ومعدلات الإنتاج القومي القريبة من الصفر، كما يقول بانون.
وهنا نجد سردية مختلفة لبانون عن نهضة أميركا وازدهارها، فأميركا في نظر بانون ليست مزدهرة بسبب المهاجرين، ولا القبول بالتعددية الثقافية والاختلاف، بل هذه بالذات هي عوامل انحدار وضعف أميركا، والتي لا يمكن أن تنهض إلا بخليط من ازدهار الدين "المسيحي" والحفاظ على العادات والتقاليد المتوارثة، والتي تدعم الحرية، والحد الأدنى من الدولة، في ظل رأسمالية حقيقة مفتوحة في دولة "ما قبل دولة الرفاه".