على الرغم من أنه يفصل الفرنسيين عن موعد الانتخابات الرئاسية أكثر من سنتين، غير أن هذا لم يمنعهم من فتح معركة الرئاسيات منذ الآن، بين أبناء التيار السياسي الواحد، قبل أن ينتقل المنتصر فيها إلى مواجهة الخصم.
وبدا السباق نحو الإليزيه على أشدّه بين ثلاثة من كبار قادة أقوى حزب فرنسي يميني: "الاتحاد من أجل حركة شعبية". ويتنافس آلان جوبيه وفرنسوا فيون ونيكولا ساركوزي، على زعامة الحزب، كمقدمة لحصولهم على تفويض لخوض معركة الانتخابات الرئاسية في العام 2017.
من الواضح أن فيون، رئيس الحكومة في عهد ساركوزي، هو الحلقة الأضعف في هذه المعركة الثلاثية، إذ إن المنافسة الحقيقية تدور بين ساركوزي الذي عاد إلى الساحة السياسية بعد احتجاب طوعي، إثر خسارته الانتخابات في مواجهة فرنسوا هولاند، وبين جوبيه، رئيس الحكومة الأسبق.
وحصل الأخير على دعم من الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، الذي أعلن تأييده لترشح "رئيس وزرائه" لرئاسة الجمهورية. وعليه تحوّلت معركة الإليزيه إلى صراع أفكار وبرامج، دخلها ساركوزي من باب الصحافة المكتوبة ليكشف عن "أفكار من أجل فرنسا".
بدوره، أطل جوبيه عبر التلفزة طارحاً نفسه كبديل لكل التجارب السياسية التي أطلقها من سبقه إلى السلطة.
ويركّز جوبيه على إصلاح قطاع التربية، معتبراً أن التعليم لا يؤمن حالياً حظوظاً سياسية للجميع، وأن حوالى 60 في المائة من التلاميذ سيجدون نفسهم من دون آفاق بعد سنتين أو ثلاثة.
أما الملف الأكثر سخونة في النقاش الفرنسي الداخلي، فيتعلق بالاقتصاد والتنمية، إذ يقترح جوبيه حلولاً لم تلقَ أي انتقادات من قبل الاقتصاديين. يريد السياسي الفرنسي أن يوفر 126 مليار دولار على الموازنة العامة خلال خمس سنوات، أي خلال الولاية الرئاسية، إذا ما انتخب رئيساً للبلاد، وهو يقترح برنامجاً أوروبياً للتنمية برأسمال 378 مليون دولار، الأمر الذي يظهر مدى انخراطه في العمل داخل الاتحاد الأوروبي، ويطمئن الحرصاء على بقاء الاتحاد في وجه الأصوات المشككة بجدواه، والتي تطالب بإعادة العمل بالحدود الوطنية، والتخلي عن اتفاقات "شينغن" التي تضمن حرية تنقل الأشخاص والأموال.
ويبدو حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرّف الذي لاقى أصداء في الأوساط الشعبية، وحقق تقدماً انتخابياً كبيراً في الفترة الأخيرة، مكّنه من الوصول إلى مجلس الشيوخ، للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، في طليعة المطالبين بإلغاء هذه الاتفاقات.
ودخل فيون أيضاً المعركة ببرنامج يعرضه على مراحل، وبعد الشقين المتعلقين بالتعليم والقدرة التنافسية الاقتصادية، كشف فيون عما وصفه بـ"اجراءات جذرية لإعادة تصحيح موازنة الدولة"، من دون أن يوفر انتقاداته لعهد ساركوزي، قائلاً إن حصيلته كانت فاشلة.
لكلّ من هذه المشاريع الانتخابية توجهات محددة واستراتيجية واضحة. فمشروع ساركوزي اقتصادي بالدرجة الأولى، وقد أثار سلسلة انتقادات حادة بعد الكشف عن بعض أفكاره، ومنها ما يتعلق بالوظيفة الرسمية عندما اقترح "إنشاء عقد عمل لمدة خمس سنوات في القطاع العام"، وهو ما يناقض مكسباً نقابياً اجتماعياً يقوم على مبدأ "الوظيفة الآمنة"، ولكن مشروع ساركوزي أقل ليبرالية بالمقارنة مع مشروع فيون.
إذ لا يريد الأول أن يقطع حبل التواصل مع يمين الوسط، الذي سيكون بحاجة لأصواته للفوز في معركة رئاسة الجمهورية، وهو لا يريد إحداث صدمة قوية داخل صفوف حزبه كونه يطرح نفسه شخصية جامعة قادرة على توحيد تيارات الحزب، وهو بحاجة ماسة للنجاح في هذا التحدي لتكون له حظوظ في الوصول إلى رئاسة الحزب، وهزم خصمه الأساسي آلان جوبيه، الذي يحظى بتأييد معنوي كبير من الوريث الأول للديغولية؛ الرئيس الأسبق جاك شيراك، وهو خيار لا تؤيده عقيلة شيراك نفسها، السيدة برناديت شيراك، التي لا تخفي وقوفها إلى جانب ساركوزي، معتبرة أنه رجل ديناميكي صاحب أفكار وشخصية قيادية، في حين ترى جوبيه رجلاً تقليدياً يفتقد للحماسة، ولا يماشي المرحلة. في حين لم يتردد شيراك في اعتبار جوبيه "الأفضل بيننا جميعاً".
يُمتّن موقف شيراك حظوظ جوبيه، الذي يحافظ دائماً على صورته كرجل هادئ ومتزن وصاحب تجربة كبيرة في إدارة المؤسسات، وتوّج صورة رجل الدولة هذه، بتأكيده أن أولويته "التهدئة وإعادة لم الشمل، وإجراء إصلاحات في العمق على برامج التربية الوطنية ونظام الضرائب والإنفاق العام والضمان الاجتماعي وسياسة الهجرة"، فضلاً عن تجنب "الخصومات العبثية"، مثل منح حق التصويت للأجانب، ووضع تشريعات تتعلق بالأسرة وبتبني الأطفال، مستنداً بشكل أساسي إلى تجربته الطويلة في إدارة شؤون مدينة بوردو التي يترأس مجلس بلديتها.
من جهته، يعلق ساركوزي آمالاً كبيرة على برناديت شيراك ليحصل على تأييد زوجها، وليتخطى عقبة جوبيه الذي يبدو، بحسب استطلاعات الرأي، الشخصية المفضلة عند أنصار الحزب لتولي القيادة.
وتقول السيدة الأولى السابقة، إن ساركوزي لم يتردد في الطلب منها مراراً تأمين لقاء مع زوجها، والعائق يبدو حتى الآن ابنة شيراك السيدة كلود، التي لم تغفر بعد لساركوزي انشقاقه عن والدها في تسعينيات القرن الماضي في معركة تجديد ولايته الرئاسية.
وفي خضم هذه المعركة، يواصل المرشحون الأساسيون لرئاسة حزب "الاتحاد" لقاءاتهم مع القواعد الشعبية، وهي لقاءات لا تخلو من شبح الفضائح التي تلاحق ساركوزي، وآخرها فضيحة ما يعرف بقضية "بيغماليون"، وهي شركة يتهمها القضاء بتزوير فواتير لمصلحة حزب ساركوزي لتغطية مخالفته القانون بشأن الأموال التي أنفقها في حملته الانتخابية في العام 2012.
ولم تقتصر مشاكل ساركوزي مع القضاء الذي يحقق حالياً مع ثلاثة من كبار كوادر الحزب، بل إن رئيس حكومته خلال سنوات عهده الخمس، فرنسوا فيون، سدد إليه طعنات مبطنة عندما صرح علناً بأنه سمع كلاماً كثيراً منذ سنوات عن شركة" بيغماليون"، في الوقت الذي كان يعلن فيه ساركوزي بأنه سمع باسم هذه الشركة للمرة الأولى بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية.
أما آلان جوبيه، "الولد المدلل" في عهد الرئيس شيراك، والذي ابتعد هو الآخر عن السياسة في نهاية التسعينيات، بسبب ورود اسمه في فضائح، ونتيجة فشله في إدارة موضوع الإضرابات الشهير والأشرس في تاريخ الجمهورية الخامسة، بعد الحراك الشبابي في العام 1968، وتصلّبه حين كان رئيساً للوزراء، فيبدو اليوم أكثر رصانة ونضجاً في مهاجمة خصمه، عبر قوله إنه "من الأفضل أن نتجنب الدخول في مبارزة فيما يتعلق بالمشاكل مع القضاء".
ووسط هذا التنافس، قبل معركة الانتخابات الأولية لاختيار مرشح الرئاسة، المرتقبة في 2016، أي قبل عام من الرئاسيات، يرى المحللون في انتخاب جيرار لارشيه، أحد أعضاء حزب "الاتحاد" رئيساً لمجلس الشيوخ أمام منافسه من نفس الحزب، جان بيار رافاران، انتكاسة لساركوزي، المؤيد رافاران. ومن مظاهر هذه الانتكاسة توجيه اتهامات لمسؤولي الشركة التي اهتمت بحملة ساركوزي بسبب اعتماد نظام للفواتير المزورة.
وفي غمرة هذه الخلافات ينتظر الرئيس الاشتراكي، فرنسوا هولاند، لاقتناص الفرص وتحسين حظوظه لتجديد ولايته. وهو يعمل بهدوء على خط الوضع الداخلي، والسياسة الخارجية في آن واحد. محققاً نقاطاً لمصلحته في سياسته الخارجية في موضوع الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
وبعد تنظيمه واستضافته لمؤتمر "السلام والأمن حول العراق"، دخلت فرنسا الحرب ضد التنظيم في العراق، إلى جانب الولايات المتحدة، ومستبقة بذلك بريطانيا.
كما أن هولاند لم يتردد في إرسال تعزيزات عسكرية فرنسية، منها ثلاث مقاتلات من طراز "رافال" إلى الخليج، حتى إن بعض المعلقين ذهب إلى الإشادة بنجاح الرئيس هولاند كقائد حربي، وهي إشادة تعطي هولاند رصيداً في إدارته لشؤون البلاد، وقيامه بدوره الكامل وفقاً للدستور، كونه رئيساً مدنياً وقائد القوات المسلحة في وقت واحد، مع العلم أنه يواجه تدنياً كبيراً لشعبيته، وفي طريقة إدارته للأزمات الداخلية التي تبقى الشغل الشاغل للفرنسيين، في ضوء أخطر أزمة اقتصادية تمر بها البلاد.